Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    24-Feb-2017

الهُويّات: جدل الضّمائر بين التحوّل والثّبات (3) - د. نارت قاخون
 
الغد- رغم إيمان أغلب أبناء "الهويّات العرقيّة والدينيّة" بـ"الأصل الواحد المشترك" للجنس البشريّ، سواء بالنّظريّة "الخَلقيّة" من "آدم وحواء"، أو بالنّظريّة "التّطوريّة" من "السّلف المشترك"، إلا أنّهم يتجاوزون هذا الأصل الجامع نحو الأصل الفارق، فيبحثون عن "الأب المؤسّس" عرقيّاً ودينيّاً.
في هذا البحث عن "الأب المؤسّس والأصل الفارق" عرقيّاً تكمن مغالطة تنسف الأصل من أساسه، وهي أنّ هذا الأب المؤسّس هو بالضرورة ابن لأب سابق، وبما أنّ الهويّة في مبدئها الأول تقوم على "ثبات الهويّة" فإنّ هويّة الأب المؤسِّس هي بالضرورة هويّة أبيه وجده حتى نصل إلى الجد الأول، وهو الأصل الجامع.
إنّ هذه النظرة "السكونيّة" للهُويّة العرقيّة تؤكّد أنّ "الهويّة العرقيّة الفارقة" ليست أكثر من أسطورة أنتجتها تبدّلات "الطرف والمركز" أو "القوّة والضّعف" في المسيرة التاريخيّة لـ"جماعةٍ ما"، ولو أزاح هؤلاء "المتعصّبون لهويّتهم العرقيّة" الحجب عن بصائرهم لأدركوا أنّ "الهويّة" مفهوم متحرّك سُيوليّ متغيّر، أسهمت في تشكيله المتحوّل عوامل وروافد كثيرة جداً يصعب حصرها في منظور من "النقاء العرقيّ".
لكنّ الاعتراف بتحوّلات الهويّة وسيولتها يُفقد الوظيفة التأويليّة الرّمزيّة للهويّة؛ فالهويّة لا تتشكّل بوصفها "حقيقة خارجيّة" يُمكن فهمها وإدراكها دون وسيط "الرمز" وتجليّاته لغة وثقافة واتجاهاتٍ، وهنا يأتي دور "اللغة والثقافة الفارقة" الكبير والخطير في تأكيد تفرّد الهويّة وعمق امتدادها التاريخيّ. فالهويّة عمليّة تأويليّة للنسقين اللغويّ والثقافيّ المائزين، لذلك يصبح غرض "الحفاظ على اللغة" غرضاً هوياتيّاً بالضّرورة، ويمسي الإحساس بالتفوّق اللغويّ ضرورة تأويليّة لتأكيد التفوّق العرقيّ.
هكذا وفي عمليّة تضخّم في الأنساق الرمزيّة المائزة، تتحوّل العادات والطعام واللباس إلى "مكونات نسقيّة للهويّة" لا تكون "الهويّة" إلا بها، تصاحبها عمليات انتزاع سياقيّ متوالية تنتزع هذه الممارسات اللغويّة والعاداتيّة والطعاميّة واللباسيّة من سياق نشأتها، وعوامل تكوينها البيئية والتاريخيّة.
أمّا "الهويّة الدينيّة" فعلى الرغم من كونها تنطلق نظريّاً من "الاختيار"، إلا أنّها تنقلب على هذا "الاختيار" تأسيساً وممارسة، فمن التأسيس النظريّ، فإنّ "الأديان السماويّة التّوحيديّة" مثلاً تنتسب جميعاً لأب مؤسّس معلوم، هو النبيّ الذي تنتسب إليه الأديان، لكنّ هيمنة النزوع نحو "الصواب الثابت" في المنظور الدّينيّ يتجاوز اتّجاه الثبات الـ"مابعديّ" –أي بعد أنبياء التأسيس– إلى الثبات الـ"ماقبليّ"، فيصير كلّ دين هو "الصّورة النقيّة الصّحيحة" لما كان عليه جميع الأنبياء السابقين، ثمّ تنتقل لنفي بنوّة الفرع غير المنسجم مع الأب المؤسّس، فلا شرعيّة لآباء الآخرين المتأخّرين عن الأب المؤسّس.
هكذا تتحوّل "الهويّة الدينيّة" إلى هويّة فارقة مائزة، رغم ادعائها النسبة إلى "الأصل النّقيّ القديم". ولأجل إغلاق "الهويّة الدينيّة" تحقيقاً لأغراضها المعنويّة والتأويليّة، يُصبح "ترك الهويّة الدينيّة" فعلاً ضلاليّاً ارتداديّاً، فالاختياريّة في الهويّة الدينيّة هي باتجاه واحد: الدخول في هويّتنا الدينيّة، وهي سمة تظهر في الأديان التّوحيديّة "الدّعويّة أو التّبشيريّة" كالمسيحيّة والإسلام دون "اليهوديّة" التي ترى أنّها منحة إلهيّة لا تقبل الاكتساب والتحوّل، وفي مقالات مقبلة سأوسّع الحديث حول هذه القضيّة قليلاً.
إنّ الهويّة الفارقة تتميّز بسمة "تفكُّكيّة" كبيرة، فهي عرقيّة كانت أم دينيّة لا تقف عند حدّ أو دائرة جامعة لأفرادها، بل تميل بمكوّناتها وممارساتها إلى إحداث هويّات فرعيّة متتاليّة، فتصبح "القبليّات" و"العشائريّات" هويّات طرفيّة تسعى للتمركّز في البؤرة الهويّاتيّة، فلا يكفي أن تكون عربيّاً مثلاً، حتى تظهر هويّات فرعيّة من عدنانيّة وقحطانيّة، أو قيسيّة ويمانيّة، وهذه الهويّات الفرعيّة لا تلبث أن تصير مركزاً لهويّات فرعيّة تالية. هذا مع الانتباه إلى أنّ الهويّة القوميّة أو العرقيّة تنشأ بعد هذه الهويّات الفرعيّة، ولكنّها تتحوّل عبر أسطورة "الهويّة القوميّة والعرقيّة" إلى الأصل المنشئ. والأمر في الهويّة الدينيّة كذلك، فهي بصيرورتها تنتقل من الإطار العامّ إلى الإطار الخاصّ، ومن الأصل إلى الفرع، فتصبح الانتماءات الدينيّة محكومة بالهويّات الفرعيّة المتوالية التفرُّع أكثر من احتكامها للهويّة الدينيّة الكبرى.
إنّ هيمنة أسطورتي "النقاء الهويّاتي" و"الجبر العرقيّ"، وتنحية حقيقة "الاختيار الدينيّ"، جعلتا من الهويّتين العرقيّة والدينيّة حُجباً وجُدراً تحجب الإنسان عن حقيقته الإنسانيّة، فالعرق وصف فرعيّ لا ينبغي أن ينفي الأصل الواحد المشترك للإنسانيّة، والدين اختيار لا ينبغي أن يتحوّل إلى جبريّة قدريّة تفصل إنساناً عن إنسان بما هو في الأصل موضوع للاختيار والاختبار.
لقد كان انتقال الإنسان من الوجود إلى الوعي بالوجود بسبب مزيّة الإنسان عن غيره: العقل والوعي وتجليّاتهما اللغويّة والثقافيّة. ورغم ما يبدو عليه هذا الانتقال من فضيلة وكرامة إنسانيّة جعلته سيّد الكائنات بوعيه، لكن الأمر في الوقت نفسه كان سبباً لمآزق الإنسان، وبين الارتقاء بالإنسان إلى إنسانيّة تجعل خصائصه المائزة عقلاً ووعياً ولغة وثقافة "فضائل إنسانيّة" من جهة، والانحدار بالإنسان إلى ما دون حيوانيّة تجعل خصائصه المائزة "رذائل لاإنسانيّة" يكمن صراع الإنسان مع الإنسان فيه وما يحمله من مزايا تفضيليّة.
إنّ الهويّة العرقيّة والمذهبيّة وجغرافيا الوجود الإنسانيّ ليست معطيات ثابتة عابرة للزمان والمكان، بل هي متحوّلة مرتحلة منقلبة، ولكن المنتمين إلى هويّةٍ ما يحاولون في سياق وجودهم الآني إكساب هويّتهم نسقاً ثبوتيّاً قاهراً للزمان والمكان عبر عمليّات تأويل التاريخ والجغرافيا والسياسية تأويلاً وظيفيّاً يقفز على التحوّلات، أو يختلق الأساطير ويُعيد كتابة التاريخ لتبدو حكايته وادّعاؤه بالأحقيّة التاريخيّة والجغرافيّة متّسقة ومنسجمة.
وفي الصراع العربيّ "الإسرائيليّ" نموذج لهذا التدافع الأسطوريّ والتاريخيّ والجغرافيّ، ففي الوقت الذي لا تنتمي غالبيّة اليهود اليوم إلى عرق خالص نقيّ هو عرق بني "إسرائيل" وسلالته، بل تكاد تكون السلالة "الإسرائيليّة" أسطورة مختلقة، فإنّ الدعاية الصهيونيّة منذ تأسيسها تؤكّد هذا الثبات الهويّاتيّ والحقّ الجغرافيّ في فلسطين بوصفها الحيّز المكانيّ لأسطورتها التاريخيّة.
وممّا أكسب هذه الأساطير قوّة أنّ الخطاب الإسلاميّ القديم والحديث تبنّى "السرديّة اليهوديّة التوراتيّة" لحكاية الوجود اليهوديّ والعرق الإسرائيليّ، فتجد كثيراً من المفكّرين والمشايخ يحلّلون شخصيّة "اليهوديّ" المحتلّ لفلسطين في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين بوصفها امتداداً لشخصيّة اليهوديّ القديم منذ زمن يعقوب ويوسف وموسى وداود وسليمان! وكأنّ الهويّة "الإسرائيليّة اليهوديّة" هويّة عابرة للزمان والمكان، ثابتة لم تتغير!
ومن المفارقات أن تجد بعض المفكّرين العرب يفرحون بتفكيك السرديّة التوراتيّة التي قام بها علماء التاريخ والأركيولوجيا ونقّاد الكتاب المقدّس في الغرب، دون أن ينتبهوا إلى أنّ تفكيك السرديّة التوراتيّة هو تفكيك للسرديّة القرآنيّة والإسلاميّة الشائعة والسائدة أيضاً.
لذلك ينبغي أن يوازي النقدَ التوراتيّ نقدٌ للسرديّة الإسلاميّة، وإعادة تشكيل للسرديّة القرآنيّة تستفيد من سمة "السيولة التاريخيّة والجغرافيّة" في السرديّة القصصيّة القرآنيّة.
وفي صراع الانتماءات المذهبيّة داخل الحيّز الإسلاميّ أمثلة كثيرة لنسق التحوّلات، وتحوّلات أنساق الهويّة، فقبل ألف عام كان الصراع "السنّي الشيعيّ" معكوس الاتجاه؛ "المدّ الشيعيّ الفاطميّ" القادم من غرب العالم الإسلامي، والمدّ "السلجوقيّ" المنضوي تحت لواء "الخلافة العباسيّة" القادم من الشرق، وكانت بلاد الشام والعراق والجزيرة العربيّة منطقة التماس، ممّا يعني أنّ "الهويّات المذهبيّة" قابلة للتحوّل والانقلاب. وفي "الصفويين" المتحوّلين من "سنة شافعية صوفيّة" إلى "شيعة إماميّة" شاهد آخر لذلك.
يُمكن أن تكون الانتماءات الفرعيّة عرقيّاً ومذهبيّاً مظاهر غنىً وإثراء للانتماء الأصليّ الجامع وهو الانتماء للإنسان، ويُمكن أن تكون أيضاً إقصاء وتضييعاً وتضييقاً لهذا الانتماء الأصليّ. والاختيار بين هذين الممكنين هو نتاج الوعي الحضاريّ والتدافع المصالحيّ السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ المهيمن عبر نماذج الوعي وأنساق الفكر والسياق الطبيعيّ الذي تعيشه تلك الهويّات والجماعات، ورهان المثقّفين والمفكّرين هو ترجيح الخيار الأوّل ما كان السبيل لذلك ممكناً.
وفي مقالة مقبلة قد تكون الأخيرة في سلسلة "الهوّيات" سأعالج مفهوم "الهويّة الوطنيّة"، ومفهوم "المواطنة" ومدى قدرتهما على إجابة الأسئلة من جهة، وإثارة مشاكل أخرى من جهة ثانية.