Tuesday 16th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    19-Apr-2019

الأسطورة في قصيدة «ألواح جلجامش الضائعة - ملحمة أنكيدو» لمهدي نصير

 الدستور-الروائي مجدي دعيبس

ظلت الأسطورة تطفو على وجه الشعر بين الحين والآخر لتضفي عليه صبغةً تشكيليةً من خلال انعكاس مصائر أبطال الأسطورة وأحداثها على وقائع القصيدة ومجرياتها كأي نوع من التشبيه والمحاكاة المباشرة التي تقبل الوقائع كما هي وتسلم بها دون نقاش. وظلت المحاولات ترواح هذا المنهج دون أي تغيير جوهري في أغلب الأحيان حتى ظهرت ابداعات متفردة لعرض وجهات نظر مختلفة. القصيدة الحديثة اجتهدت في هذا المجال أيضا ووضعته نصب عينها على اعتبار أنه أحد محاور التجديد وضخ الدماء الجديدة في نماذج الشعر الحديث. 
تعتبر ملحمة جلجامش مادةً مغريةً للشعر لغناها وتعدد شخصياتها واحتدام الصراع بين البشر والآلهة بالإضافة إلى جذورها الضاربة في التاريخ القديم لبلاد الرافدين، كما أن فكرة البحث عن الخلود بحد ذاتها تنطوي على خيال شعري بحت وليس أي نوع آخر من الخيال. تناولها الكثير من الشعراء سواء من التيار التقليدي أو الحداثوي، وهي ملحمة سومرية قديمة نقشت باللغة المسمارية على ألواح بلغ عددها اثنا عشر لوحاً. 
تحكي الأسطورة قصة الملك جلجامش وهاجس الخلود الذي سيطر عليه. كان جلجامش مكروها من شعبه ومغترا بقوته وحدث أن سمع عن شخص عظيم الهيئة يسكن الغابة مع الحيوانات التي ألفته وألفها ويدعى أنكيدو فقرر أن يصارعه حتى يثبت أنه الأقوى. أرسل إليه إحدى خادمات المعبد وهي على درجة عالية من الجمال حتى تفتنه فيواقعها وتنفر منه الحيوانات لأنه حينها يصبح مدجنا وليس بريا مثلها. يتصارعان وتكون الغلبة لجلجامش لكنه يتخذه صديقا ونديما. يسافران لمواجهة خمبابا وحش الغابة ويقتلاه. تسمع به عشتار وتعجب ببطولته فتخطب ودَّه لكنه يصدها. تستعطف أباها الإله آنو حتى ينتقم لكرامتها. يرسل الثور المقدس لقتله لكن جلجامش يصرعه بمساعدة صديقه أنكيدو. تقرر الألهة أن تنتقم لمقتل الثور المقدس فتنزل المرض على أنكيدو ويموت لأنه انسان كامل من جهة الأب والأم لكن جلجامش كان انساناً من جهة الأب فقط أما أمُّه فقد كانت من الألهة. بعد موت صديقه يدرك أنه سيموت هو أيضا في يوم ما فيترك مدينته والأسوار التي باشر ببنائها ويبدأ رحلة البحث عن الخلود. ينتهي إلى رجلٍ يدلُّه على عشبة تعيد له الشباب. يخوض معاركَ كثيرةً وينجح أخيراً في الحصول عليها، وخلال رحلة العودة الى مدينته تظهر أفعى وتسرق العشبة السحرية منه. يصل مدينته خالي الوفاض لكنه عندما يرى الأسوار العالية يدرك أن الخلود يأتي من خلال الأثر الكبير الذي يتركه الانسان خلفه.
كان لا بد لنا من عرض أحداث الملحمة بالتفصيل الذي ورد حتى ندرك أسلوب المعالجة وأوجه التطابق والاختلاف بين النص التاريخي والنص الشعري كما تناوله الشاعر مهدي نصير في قصيدة (ألواح جلجامش الضائعة - ملحمة أنكيدو) من مجموعة امرأة حجرية كمثال على التوظيف غير التقليدي للأسطورة. يلزم الإشارة هنا إلى العنوان الفرعي للقصيدة وهو ملحمة أنكيدو مع أنها معروفة باسم ملحمة جلجامش وهي إشارة استهلالية توعز للمتلقي بأن هناك شيئاً غير متوقع قد يظهر في تسلسل الأحداث. المقاطع الثلاثة الأولى وكما وسمها الشاعر هي توطئة لما بعدها. يبدأ المقطع الأول بعبارة (تناديني فأتبعها) وينتهي دون أن تظهر هوية التي تناديه على وجه اليقين ويخيل للقارئ أنها ربما تكون الألواح ولا يتضح الأمر حتى يطالعنا المقطع الثاني (إبر طويلة ويابسة/ وتستلقي على كتف ترابي/ تقصفت على ميوله الرخوة/ كانت تتسلل في اتجاه غامض/ اتبعها/..). فيتحول تفكير القارىء إلى الأزاميل التي نقشت بها الألواح فهي إبر طويلة ويابسة لكن هذه الفكرة تتلاشى عندما لا يجد ما يكفي من الإشارات التي تؤيد هذه المقولة وتبقى فكرة أن هناك صوتاً أو أصواتٍ داخله هي التي تناديه وتحثه على المضي للبحث واستطلاع هذ المكان بدمائه وحجارته الملساء. يظهر خوف السارد وتردده حيث تنظر إليه وفي فمها مزامير وعشب يابس ولها عينان مخيفتان. تتقاطع هذه الصورة مع ما ورد في الملحمة التاريخية ويتضح أنها ليست سوى الأفعى التي اختطفت العشبة السحرية من الملك جلجامش. في المقطع الثالث يتقدم السارد للأمام وهو نقيض الفعل الذي أستخدم في المقطع الثاني وهو (أنكص) وعند الربط بين المقطعين يتبين أن الأفعى هي التي تحرس الألواح الجديدة التي كشفها المطر الغزير وأزاح عنها الطين. يمسكها بخوف ويبدأ بقراءة النقوش. (كنت أرمم القطع الصغيرة/ أمسح الطين الرقيق عن الحروف/ كنت أاقرأ خائفا مرتبكا وأرتعش:).  
كما ورد سابقا فإن عدد الألواح التاريخية هو اثنا عشر لوحاً وكان من المتوقع أن يبدأ تسلسل الألواح المكتشفة من اللوح الثالث عشر لكن لسبب غير واضح لي ابتدأت الملحمة الجديدة باللوح الثاني عشر. ربما أراد له الشاعر أن يكون صلة الوصل بين الملحمتين:
اللوح الثاني عشر: لا تنكشف مضامين القصيدة إلا في النفس الأخير، تتصاعد الأحداث وتتشابك الخيوط حتى تشكل مقطوعة موسيقية متناغمة. يبدأ المقطع برسم صورة قديمة تمثل طبيعة العلاقة بين جلجامش وصديقه أنكيدو الذي جاء أصلا من الغابة أي الأرض والطبيعة وهذا تمثيل لعامة الناس. النياشين والأوسمة تشير إلى جدارته واخلاصه. ويتضح من المقاطع اللاحقة أن هذه ظلال أنكيدو وليس هو ذاته أي أن التقاطع بين الملحمتين أن أنكيدو قد مات فعلا أما الاختلاف فهي الأفعى التي ظهرت بثوب  جديد فهي قريبة من جلجامش وتتبعه وربما أخذت الدور الذي كان يضطلع به أنكيدو وهي تمثل الفئة التي تقف وراء السلطة وتحركها. (كان فوق صدره العريض/ وفوق ياقته نياشين وأوسمة/ وخلف خطاه كانت تتبع/ تزحف/ في فمها المزامير وبعض العشب).  
اللوح الثالث عشر: يحاول جلجامش أن ينام لكن صوت أنكيدو يأتيه في المنام حتى يصلح من شأنه ويتخلص من الأفعى والفساد المتعلق بها فينهض مذعورا (في الليل حاول أن ينام/ جاءه/ أيقظه/ أمسكه من جلده الأرقط).
اللوح الرابع عشر: ينتبه الحراس لما يجري وتحضر الأفعى وتطعمه بعض العشب السحري فينتشي وينام. (اطعمته بعض العشب من فمها/ أحس بنشوة وعاد نحو سريره الذهبي/ منتشيا بقوتها ونام). الأفعى موجودة دائما لتمسك بزمام الأمور وتدير الدفة بالشكل الذي تراه.
اللوح الخامس عشر: (عاوده ثانية) وهو ذات الأمر كما في اللوح الثالث عشر أي أن طيف أنكيدو يحاول أن ينبه جلجامش إلى الخطر المحدق به  لكن الأفعى تسقيه بعض النبيذ هذه المرة حتى ينام. (أيقظوه/ سقته بعض نبيذها حتى غفا/ ونام) وهذا من أساليب الأفعى في مصادرة السلطة.
اللوح السادس عشر: يستعد جلجامش للمواجهة ويحمل سلاحه ويتجه الى السوق بعد أن يتناول من العشبة السحرية وهو الضغط الذي تمارسه هذه الفئة على مفاتيح الدولة حتى تهيمن على كل شيء. (في الفجر قام وغسَّل الوجه السمين/ تناول العسل المصفى/ عشبة صغيرة)
اللوح السابع عشر: يذكر هذا المقطع ما حدث في الملحمة التاريخية حيث يرسل جلجامش احدى خادمات الآلهة إلى أنكيدو لتغويه لكن الإضافة هنا هي الطفل الوليد الذي ينجم عن هذه العلاقة فيكبر ويعيش بين البسطاء ويصبح واحداً منهم وهذا إسقاط على أن أنكيدو لم يمت وأن نسله موجود. (تلك التي أرسلها في غابر السنوات كي تكيده/ تسقيه من أنوثة النساء سحرها/ أحبت خصمه العنيد/ ثم أخفت الوليد عن عيونه)
اللوح الثامن عشر: يعود هذا اللوح إلى صورة جلجامش عندما عاد من رحلته. ويظهر علينا هنا اسراف جلجامش وبذخه وقد يكون إشارة إلى سوء الإدارة في حين يعيش الناس بضيق وعسر وهذا دليل على الجفوة بين الفريقين. (حين عاد منكسرا وأولم للهزيمة ألف ناقة/ وألف زوج من حمام)
اللوح التاسع عشر: (في ساحة المدينة التفوا جميعاً حوله) ساحة المدينة تشير إلى حراك الشعوب والهاء تعود على الصغير الذي ظهر في المقطع السابق والوليد في المقطع الذي قبله وهو الذي يمثل تطلعات الناس والأمل الجديد في حياتهم. ابن أنكيدو الذي كان أبوه في يوم ما صلة الوصل بين الشعب والسلطة. يهتفون ضد جلجامش والأفعى. (نريده وجنده وأفعاه وعشبه/ أسارى وأذلاء).  
اللوح العشرون: اللوح الأخير يشهد المواجهة ونهاية جلجامش الذي يبدو نحيلا وهرما. الخوف والترقب يسيطران على المشهد. وهنا يغير الشاعر من أسلوبه ويخاطب المفرد ليدل على الجمع (أطلق نحوك الخيول والنياق والسيوف والعصي فانهزمت) حيث تدل الكاف هنا على الناس والشعب الذي يقطع رأس الأفعى ثم يسقط الرأس المحنط وهذه اشارة إلى أن الخوف يأتي أحيانا من الأفكار التي تشكلت حول أمور غير صحيحة فالأسد المحنط لا يملك من أمره شيئا. وقد يكون الخطاب موجها إلى الصغير الذي كبر فيما يبدو وأصبح يمثل الإرادة والضمير الجمعي وهو استمرار لذرية أنكيدو. (فأطلق نحوك أفعاه/ فانهزمت وقطع رأسها/ ثم استدارت كفك الصلبة نحو وجهه/ وأسقط الرأس المحنط بالزيوت والدماء).  
إن مثل هذا التوظيف الاستثنائي للأسطورة وعكسه على الواقع المعاش بأسلوب ذكي ومتمكن لإبراز حالة سياسية أو اجتماعية أو انسانية يعد من الطرق المبدعة والخارجة عن السائد والمألوف. وقد يكون هذا الخروج من جوهر الشعر الجيد لأنه يفاجئ القارئ من حيث لا يدري ويبقى على تماس مع المواضيع التي تمس حياة الانسان ويعريها ويشير إلى مواطن الخلل وأسباب رجزها واعتلالها. 
ويبقى أن نقول أن الشعر يخاطب الحواس الخمس ويوازي بينها فقد يعلو صوته أو قد يلمع، ويصبح خشن الملمس أو حلو المذاق وقد ينتثر أريجه في الفضاء فيقع على مسكن الروح وموطن الشعور وهنا فقط يصبح الشعر حالة من التماهي اللامحدود.