Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    19-Jun-2020

إبراهيم العجلوني.. شعرية الجزالة وجزالة الشعر

 الدستور-د. إبراهيم خليل

 
تشهد مؤلفات إبراهيم العجلوني المنشورة على تنوع آثاره، وتعدد سبل أنظاره، ففي الشعر صدرت له دواوين، أولها ديوان « تقاسيم على الجراح « 1973 وآخرها هذا الذي نحن بصدد الحديث عنه وهو الأعمال الشعرية (2018) وفي الفكر له: مسلمات في ضوء التحقق 1984 و في الفلسفة والخطاب القرآني 1984 و فصول في الفكر العربي 1988 والوعي والتمرد 1994 وكتاب « في مرآة الإسلام « 1999 والكتابيون في ظل الإسلام 2004 وفي الأدب صنف وألف: الوجوه 1986 و نحن وثقافة المستقبل 1989 وهموم أردنية 1991 وفسيفساء أردنية (شعر مترجم) 1993 وأحزان مسيحية 1995 والشذرات في جزءين 98- 1999 ومن مفكرة رجل يحتضر 2000 وفي التراجم صدرت له مؤلفات، منها: شعر وشعراء 2004 وكتبٌ وشخصيات 2004 ورجال ومناهج2001، وله في النقد الأدبي كتاب: فصول من النقد 2008.
 
وفي الحديث عن شعره الذي هو أقل ما عني به العجلوني من آثاره، تنبغي الإشارة إلى أن بداياته ترجع إلى العام 1968 عندما بدأ بنشر قصائده المبكرة في الصحف اليومية، والمجلات الشهرية، وتأطرت هذه البدايات، وتعمقت، بصدور ديوانه الأول ببيروت 1973. وتراءى لمتابعي العجلوني أنه صرف نظره عن الشعر، وضاق صدره بالقريض، إذ لم ينشر بعد تقاسيمه على الجراح إلا القليل النادر الذي لا يؤبه له. وفي العام 2009 تبين من المجلد الذي صدر عن دار ورد الأردنية بعمان أن للعجلوني دواوين أخرى، منها « حينما نلتقي « 1980 وطائر المستحيل 1993 ومن يتنبه للفروق الزمنية بين هذه الإصدارات يوقن أن الشاعر تراجع اهتمامه بالشعر تراجعًا سببه انصراف همه لشؤون أخرى في الأدب، والفكر، والفلسفة، تبدو أكثر إلحاحًا عليه من إلحاح ربّات الشعر، ومُلهمات القريض.
 
 صوتان
 
ومع ذلك، فإن من يقرأ الأعمال الشعرية يلاحظ أن للعجلوني صوتين، أولهما جهوريٌ قويٌ تغلب عليه الجزالة، وثانيهما تغلب عليه نزعة التجريب، والخوض في ما لا يتفق مع طباعه الذاتية، وسجاياه الأدبية، وأعني شعر التفعيلة، أو الشعر الحرّ، على رأي نازك الملائكة، ومن جاراها من أهل البصر بالأدب، والشعر والنقد. وإذا نحن أوردنا في هذا التقديم لفظ الجزالة، فليس ذلك من قبيل الاستعمال الدارج الذي اعتدناه لدى معلمي المدارس، وفي الكتب المدرسية، وإنما الجزالة – ها هنا- بالمعنى الموروث عن جهابذة النقد العربي الأصيل الذي يميز الغث من السمين، والشعر الزائف من الحقيقي الرصين.
 
 ما الجزالة
 
فالجزالة- بهذا المعنى - هي القوَّة، والمتانة، وهي في الاصطلاح النقدي عند ابن سلام (237هـ) في طبقاته على ألسنة من احتجوا للنابغة الذبياني، قائلين « وهو أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رَوْنق كلام، وأجزلهم بيتا. وكان شعرُه كلاما ليس فيه تكلف « (ص56 ) فالجزالة من حيث هي مصطلح ترتبط بالرونق، والرونقُ وصف يطلق على كل شعر بعيد عن التكلف، ناتج عن الطبع. وهذا ما يؤكده ابن طباطبا العلوي (322هـ) في عيار الشعر بقوله (ص7) إن من الأشعار أشعارًا محكمة، متقنة، إذا نُقدت، وجُعلت نثرًا، لم تُبْتر الجودة في معانيها، ولم تفقد جزالة ألفاظها. « ولئن كانت الجزالة – ها هنا – في الألفاظ، فلا جرم أنها أيضا سمة توصف بها المعاني حين تنماز بالعذوبة التي تضفي الجزالة في هذه الحال على الألفاظ. (عيار الشعر ص4) ولأبي الحسين إسحق بن إبراهيم بن وهب الكاتب (335هـ) في كتابه « البرهان في وجوه البيان « تحديد أوضح لدلالات الجزالة في الشعر، فالجزل من الكلم، عنده، ما ارتفع عن حد العوام، إلى أن يصير من كلام الخاصة، والعلماء، والعرب الفصحاء، والكتاب، والأدباء « (ص201) والجزالة شيءٌ يحول دون وعورة اللفظ، ودون أن يكون مبتذلا، في الوقت نفسه. ولذلك يصف الباقلاني، أبو بكر،(402هـ) في كتابه « إعجاز القرآن « لغة الذكر الحكيم بالجزالة لفظا ومعنىً. (ص26- 27)
 
ونحن نذكر هذه الملاحظ ، ونلمّح لهذه الملامح، لما في ذلك من ضرورة، لكون النقد الأدبي بتياراته الحديثة المتداولة، والمنتشرة انتشار النار في الهشيم، تحذف مصطلح الجزالة من قواميسها، مع أننا لا نستطيع- في كثير من الأحيان - التحدث عن الشعر العربي في أزهى عصوره، وفي أرقى نماذجه ودرره، دون أن نستعمل هذا المصطلح. ولقد سمعنا ذات يوم شيخ النقاد المحدثين الأستاذ الدكتور إحسان عباس يكرّرُ هذه الكلمة مرارًا في محاضرة جاعلا منها معيارا سائدا في تقويم الشعر العربي القديم، والمعاصر، متخذا منها مدخلا لكثير من الدراسات التي تدور حول شعر المتنبي، وهو شاعر العربية الأكبر، ومبتدع جزالتها الأشهر.
 
 جزالة الشعر
 
وقارئ هذه الأعمال الشعرية للعجلوني تستوقفه بلا ريب قصائد عدة منها قصيدته (سُهاد) التي نظمها في أن القدس ساهرة عند باب الخليل تتلقف الأخبار عن الرجال في زمن الشهادة. فإذا تجاوزنا هذه المناسبة، وإن لم تكن تقليدية تدعو للتجاوز، وجدنا أنفسنا إزاء شعر أصيل، جميل، ذي نَغْمَة مُجلجِلة، تتواءم مع الموقف التحريضي الذي يستدعيه السياق، ويتطلبه المقام. فهو لا يفرق بين الدموع والحجارة، ولا بين البكاء والسمر لكثرة ما اعتاده، ولا بين التهجد وقرقعة السلاح من رصاص وبنادق، ولا يفرق بين الليل الأليل وبين النور الذي يغمر قباب القدس، ولا بين يأس اليائس من هذا الأحوال، وحقد الحاقد الذي لا يمل شحذ العزيمة، وإيقاظ جذوة الحماسة، باستذكار الماضي المرتبط بالقوة؛ قوة الدم:
 
يا لائمين على عشق به ائتلفت
 
جباهنا السُمْر، كُفّوا، فالهوى قَدَرُ
 
فآخر النهر موصولٌ بأوَّلهِ
 
ونزْفة الدَم منّا صبَّها عُمَرُ
 
فمن ذِكْره عمر بن الخطاب، فاتح القدس، إلى قصيدة أخرى بعنوان الدعاء المرّ، التي لا تقل تحريضا عن قصيدته سهاد. فهو هنا يتذكر خيل الله، الموريات قدحا، المثيرات به نقعا، المُضنيات هوىً.. وهو في هذا كله لا يفتأ يكرر الألفاظ الفخمة الجرس، اللظى، النار المسعَّرة، التباريح، وهي كلمات نجده يكررها بجرأة في قصيدة أخرى (سلام) فإلى ذلك يذكر الجراح، والضرام، والرجام، والدجى، والأوجاع، والشقوة، في أداء يرتقي بإيقاعات القصيدة إلى مستوى التوجُّع:
 
فارتدّ محتملا أفانين الأسى
 
واحتدّ يبكي والدموع سجامُ
 
يا أختَ أوجاعي، يوحدُ بيْننا
 
ما لا تريْنَ، وشقوةُ وهيامُ
 
 طيور الكرْخ
 
وفي قصيدة أخرى بعنوان « عفوًا طيورَ الكَرْخ « يستعيد العجلوني الكثير من الإيحاءات والرموز التي ترتبط بزمن الفروسية والشهامة والقوة ، فليس الشعر وقفا على الحنين، أو البكاء، فهو يخاطب بغداد بما يتناسب وأحوال حربها ضد الفرس، وضد مجوس العصر، مذكرا بالرماح والسيوف والدياجير والليوث التي تغير على الأعداء، وتتصدى لهم، ويذكر الموت والشهادة في يوم الروع الأكبر:
 
دعوتُ رماح العُرب من كلِّ مأسد
 
وخضْتُ بأقماري دياجيرها القُترا
 
ومن يجهل الجلى فهذي ليوثنا
 
ومن يستبين الموْتَ يشقى به خُبرا
 
وما هي إلا صوْلةُ الحقِّ صالها
 
وما هي إلا الروحُ والفتنة الكبرى
 
وقد يذكر العَجْلوني – على عادة الفحول من شعراء الماضي- الأمكنة التي ترتبط بأسماء المعارك، والأيام، وباسماء الأبطال والفرسان، في صورٍ تؤكد أنَّ ما يصلح به حاضر هذه الأمة هو ما صَلُح به أولها :
 
فلما بدا وجه الرصافة خِلْتُني
 
أعانق أطياف الألى شَهدوا بدْرا
 
واضحٌ جدًا أن الشاعر لا يستطيع التفَلُّت من الشعر القديم، ولا من معجم الشعراء المتواتر في مثل هذه القصائد: مأسد، الروع، الدياجير، الجلى،صولة الحق، والفتنة الكبرى، والألى، وشهدوا بدرا إلخ..فمثل هذه الكلمات تطغى على قصيدة المكابد التي يخاطب بها الشاعر حيدر محمود ردا على قصيدة لهذا الأخير بعنوان من أقوال الشاهد الأخير. ولا ريب في أن هذه القصيدة بما فيها من تفاصيل على مستوى الوزن والإيقاع والروي والجرس الموسيقي والألفاظ، وما تضمره من دلالات، ومن معان مباشرة، أو غير مباشرة، وما يتأطَّرُ فيها من استعارات وتشبيهات ومجازات، تذكرنا بالشعر الجزل المتين. فهو إذ يخاطب الشاعر المكابد لا يفتأُ يكرر صورًا تذكرنا بالماضي المجيد:
 
إلام تغذ الخطو، هل أطبق الأسى
 
عليك وهل سُدَّت عليك المواردُ
 
وهل بتَّ من ليلى على مفرق الردى
 
وباتت بأقصى الأرض، والحيُّ واحدُ
 
وهل شمْتَ في الأسْحار برقَ قبابها
 
وشاقتك أفياءٌ وعنَّتْ معاهدُ
 
وهل أسلمتك البيدُ للبيدِ دونَها
 
وأنكرك الأهلونَ والدهر شاهدُ
 
 مع ناصر الدين
 
لا يعدو الشاعر في هذه القصيدة النادرة إعادة التصورات المتواترة في الشعر القديم في إهاب جديد، فإطباق الأسى، وغذ الخطو، و والردى، والحي، وشمت، وبرق قبابها، وشاقتك أفياء إلخ.. من المفردات الشعرية التي يتواتر حضورها في شعر الفحول من المتقدمين. وقد زاد هذا وضوحا بتكراره لكلمتي البيد والأهلين في البيت الأخير من الشاهد. فكيفما نظر القارئ في القصيدة ألفى ظلالا، وأشباحا، للشعراء الكبار، الذين أغنوا الشعر العربي بالكثير الجم من الشعر الجزل الرصين. تضاف إلى هذه القصيدة قصائد أخرى لا تقل عنها متانةَ نظْم، وقوَّةَ أداء، كقصيدته في رثاء الراحل محمد الخشمان، وقصيدة « طريق الرجال « و « آنَ الأوان « و « جبلُ النار « و « سيزيف والعبَث « وإحدى هذه القصائد (دموع صعبة المراس) تلفتُ النظر بمطلعها الذي يذكِّرُنا بالمستحسن من مطالع الشعراء في قصائدهم:
 
تطاول هذا الليل حتى رأيته
 
سيرْزَحُ أحقابًا ويمتدُّ سرْمدا
 
والقصيدةُ، المهداة إلى العلامة ناصر الدين الأسد (1922- 2015)- رحمه الله - قصيدةٌ تصف الأوضاع في عالمنا العربيِّ وصفًا يقتربُ فيهِ الشاعر من أسلوب الخطابة المؤثرة.
 
 كلمة أخيرة
 
وأيًا ما يكن الأمرُ؛ فإنَّ للأديب إبراهيم العجلوني قصائد لا تقلُّ جودة عما ذكر من شعر التفعيلة، ولا تقلُّ من حيث منزلتها الفنية عن هذه القصائد، ولكنَّنا لم نتوقف عندها لإحساسنا الذي لا نشك في صدقه، بأن العجلوني يجد نفسه شاعرًا في قصيدة البحر أكثر مما يجدها في الشعر القائم على وحدة التفعيلة. ولعلَّ هذا ما قد يُفهم من عبارته الواردة في تقديمه القصير للأعمال الشعرية، وهي التي تقول:» إن ما أستطيعه من الشعر لا أرتضيه، وإن ما أرتضيه منه لا أستطيعه».