Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    31-May-2019

«شامان» لشاكر نوري.. رواية البحث عن الزمن الضائع

 الدستور-د. إبراهيم خليل 

يسعى شاكر نوري، الذي صدرت له من قبل « نافذة للعنكبوت « و» نزوة الموتى» و كلاب جلجامش» و» ديالاس بين يديه « و» المنطقة الخضراء « و « جحيم الراهب « و « خاتون بغداد « في روايته الموسومة بعنوان (شامان) لسبر غور العلاقة بين الإنسان والصقر، ذلك الكائن الجارح، الذي يتميز بالذكاء، والقوة، والحنكة في الصيد، والطَرَد، عبر حكاية تقوم في أبسط صورها على ثلاثة شخوص، هم: الأمير إيهاب، ويوسف البازيار، ونور الدين، محقق المخطوطات، فضلا عن الراوي الذي يعد خارج هذه الحسبة. وهو شابٌ مقيمٌ في باريس يتردد إلى أحد المقاهي الواقعة على شاطئ نهر السين، ليقرأ ذات يوم عن رحلة جماعية للصحراء، فيدفع به الفضول للمشاركة في  تلك الرحلة، رغبة منه في استعادة علاقته ببلاده التي غادرها وافدا لباريس، وطمعًا في تجديد ذكرياته ، بيد أنه في الأثناء تاه عن المشاركين، وضلَّ في الصحراء إذ وجد نفسه وسط الكثبان الرملية المتحركة، وكاد أن يفقد حياته قبل أن تلوح على نحو مفاجئ السيارة التي تقل المشاركين في الرحلة، ليعود مرة أخرى إلى باريس. 
 مقهى غويا
وتسوقه قدماه إلى مقهىً آخر يلتقي فيه أحد المقيمين العرب ممن تلوح عليهم إماراتُ النبل، والشهامة، والإمارة، وقد تعارفا بعد أن سمع كل منهما الآخر. وما هي إلا أيام معدودات حتى باتا صديقين ، السارد والأمير إيهاب، الذي يحتل مركز البؤرة في هذا العمل السردي الشائق، والشيِّق. 
ففي مقهى « غويا» فتح الأمير إيهاب للراوي – الذي أضْرب المؤلف عن تسميته- الصندوق الأسود – إذا صح التعبير- فإذا هو أمير سلبت إمارته بالقوة الغاشمة، وتم نفيه هو وبعض افراد عائلته إلى باريس من المملكة، ووجد نفسه يقيم في مدينة يبلغ عدد سكانها نحو عشرة ملايين لا يعرف منهم إلا القليل جدًا من الأشخاص.
///// أمير ومثقف
واللافت أنّ حكاية هذ الأمير حكايةٌ لا تخلو من غرائب، فهو يحب الشعر النبطي، ويؤمن بحقيقة أخرى وهي أن التاريخ أبو العلوم، وإن كان المؤرخون لا يفتؤون يزيفونه. ولا يأنس للشعر الحديث فالمتنبي في رأيه هو آخر الشعراء، ومن جاءوا بعده لا يعدون في الشعراء إلا من باب التسامح. يقرأ جريدته اليومية في هذا المقهى الذي يتردد إليه بصفة دائمة، وهو لا يعرف لمَ سُمّيَ مقهى غويا، حتى أوضح له السارد أن فرانشيسكو غويا فنان إسباني عظيم اضطر لمغادرة بلاده، والعيش في المنفى، في باريس تارة، وفي بوردو تارة أخرى، فهو والأمير سيّان، إذ اضطر كلٌ منهما للعيش منفيًا في المدينة نفسها باريس.
 شامان
على أن الحديث المتواتر بين السارد والأمير إيهاب قادهما إلى التركيز على الصقر (شامان) وهو اسم أطلقه الأمير على الصقر الذي اصطاده وتمكّن من تدجينه بعد أربعين يوما من التدريب المتواصل، فهو على عادة الأمراء البدو لا يستطيع العيش دون صقر، ودون رجال مختصين بالصِّقارة، والبَيْزَرَة. وبعد زمن طويل اعتاد كل من (شامان) والأمير على صاحبه، وفي ظروف تزامنت مع الانقلاب الذي أودى بالنظام الملكي ببغداد، وتغيرت الكثير من الأمور في العراق غادر (شامان) سيده الأمير، وطار محلقا مبتعدا في سماوات نائية، ولم يعد. وعلى الرغم من أن الأمير يحيا في باريس، وعلى الرغم من مرور سنوات على ذلك، إلا أنه ما يزال يحيا على ذكرى ذلك الصقر، ويحلم باستعادته، وذلك في إشارة من  الكاتب لرغبة هذا الأمير في استعادة ملك آبائه التليد في إمارته جانين. وقد بلغ توقه لاستعادة هذا الصقر مبلغًا يفسره ما رواه للسارد عن استخدامه عددا من الصقّارين يقودهم مستخدمه الخبير يوسف البازيار، ورحلاتهم إلى الصحراء التي قطعوا فيها آلاف الأميال برا بسبب الحصار المضروب على العراق. وذلك من أجل أن يبذلوا أقصى ما يستطيعون لإعادة الصقر. وهي مهمة تكاد تكون مستحيلة، إذ كيف يمكن لبضعة رجال أن يفتشوا الفضاء، والسموات السبع الطباق، على صقر من طبيعته – أصلا- ألا يقيم في مكان، وألا ينثني عن التحليق في فضاءات بعيدة. 
وعلى الرغم من أن يوسف البازيار هذا لم يكن صقّارا عاديًا، إذ أمضى سنوات حياته صقّارا في البلاط الملكي العراقي، إلا أنه أدرك، منذ البداية، أن هذه الرحلة خلف (شامان) ستكون رحلته الأخيرة في الصحراء، لا سيما وأن عمره يقارب السبعين، ولم يعد يسعفه لخوض مغامرة كهذه، فلسان حاله يقول: لم تعد مخاطر صيد الصقور تهُمُّني الآن. أما الذي أغراه بهذه الرحلة، فهو رغبته في مساعدة الأمير على الشفاء من معاناته، وعذاباته، وإطلاق أحلامه، ورغباته، باستعادة (شامان) وفي ذلك ما فيه من تأكيد المؤلف للبُعد الرمزي، ولدلالة الصقر ها هنا. 
 ليالي دوفيل
بعد أنْ انطلق الصقّارةُ يقودنا الراوي إلى مدينة فرنسية أخرى غير باريس، وإلى أمكنة تختلف عن مقهى غويا، ففي الفصل الموسوم بعنوان ليالي دوفيل – وهي مدينة صغيرة تبعد مسافة ساعتين عن باريس، وتقع في قلب منطقة النورماندي، مجاورة للبحر-  يقول السارد « أحببنا هذه المدينة ، وأصبحت ملاذنا، الأمير وأنا، هربا من صخَب باريس» وإذا تخطَّى القارئ تلك الليالي، مستحضرًا حكاية الصقّارة الذين ارتحلوا، وأمعنوا في السعي لاستعادة (شامان) وجدنا السارد يتتبع المجريات التي استعاد فيها- معتمدًا على الذاكرة- حكاية الصقر من البداية ، منذ جنكيز خان، وعشقه للصقور، إلى تعلق الأمير إيهاب بشامان « شامان صديقي الوحيد في أثناء خروجي إلى الصحراء، ولا يشاركني أحدٌ سواه في التفكير بإمارة جانين « وعلى إيقاع التذكر استعاد الساردُ تلك الرؤى التي داعبت خيالات الأمير عندما هُيئ له أن يجعل من الصقّارين التابعين له فيلقا عسكريًا كتلك الفيالق التي تُجنَّد في الحروب. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن تداعيات الأمير تذكره بما اعتاد البازيار إلقاءَه على الصقَّارة، قائلا: من أراد أنْ يكون من أهل هذه الصنعة - يعني الصِقارَةَ- فيجب أن تكون محبتها قوية في قلبه، وشهوته لها فائقة في نفسه، لا يشوبُها كدَر، ولا يعتريها فتورٌ أو ضَجَر «(ص136). 
لذا اعتادَ هؤلاء اجتياز المسافات الطويلة عبر الصحراء، والرمال، راجلين، أو بسيارة دفع رباعي، لا يحملون معهم من السلاح شيئا سوى الخناجر، ومن التموين سوى الماء، ومن المعدّات سوى علب الغاز، والخيام، فهم يجوبون المفاوز، والفلوات، وعيونهم معلقة بقبَّة السماء حيث الجوارحُ تروحُ، وتجيءُ، وتحلق أسرابًا ناشرة خيوطها البراقة مع خيوط الشمس.
 عالمُ الصقور
ولا يفتأ السارد يزيدُنا معرفة بعالم الصقور من خلال الحوار المتواصل، والأحاديث المطَّردة، مع الأمير، مسلطًا الضوء – بصفة خاصة- على خفايا البَيْزرة. وهذه الطريقة في السرد، والحوار، لم تُحِلْ الرواية إلى رواية تعليمية، فالاعترافاتُ التي يدلي بها الأمير اعترافاتٌ أحالها بسبب وضعه السياسي، والاجتماعي، والنفسي، إلى نفثات منكوب، وتأوهات مأزوم، على أكثر من صعيد. تتخلَّل هاتيك النفثات أضواءٌ يسلطها على الصقّارين وفي مقدمتهم يوسفُ الذي لا يجد فرقا بين انهيار الصِّقارة، وانهيار القيم الإيجابية في المجتمع. فمع انهيار الملوك، وظهور الأنظمة العسكرية، وشبه العسكرية، أصبحت عوائل الصّقّارين تعاني الفقر والجوع، فكيف لهم أن يقوموا بعملهم الذي يستند أساسًا على الكبرياء، والأنفة، والشموخ، والزهو؟ (ص155). وهذا الطائر الملحمي (شامان) الذي شقّ على الأمير فراقه يستحق أن يضحي الصّقّارون بأنفسهم من أجل استعادته، أو البحث عنه، وذلك أضعف الإيمان. وهكذا جاءت نهاية يوسف البازيار تأكيدًا لهذه الحقيقة، ونذير شؤم لفريقه من الصّقّارين(ص193) لقد استلَّ يوسفُ هذا عتاده القديم، وأسلحته العتيقة، والجديدة، من أجل الإيقاع بشامان، وإعادته لسيده ومولاه، ولكن مساعيه العبثية ذهبت أدراج الرياح، وهو القبطان القديرُ، والصَقّار الخبير، ومع ذلك لم يغضب، ولم يحنق. وسرعان ما سارع أتباعه بغسل جثته بالرمل، وتوضأوا به أيضًا، ووقفوا عند رأسه يصلون عليه، ويودعونه (ص194). ولم يكن الأمير إيهاب سعيدًا - بالطبع - بأخبار البازيار، فهو كالزعيم الذي فقد قائد جنده في ظرفٍ هو في أمس الحاجة لوجودهِ. (ص195) 
بهذا يكتبُ السارد الكلمة الأخيرة في حكاية (شامان) لكنَّ الحكاية تستمر على نحو آخر. إذ يواصل السارد قراءته لرواية موبي ديك لهيرمان ميلفيل، التي أشار إليها في مستهل الرواية، عندما سأله إيهاب عن حبه للشعر، فقال مجيبًا: إنه يحبه، ومع ذلك يقرأ الرواية، وكانت موبي ديك بين يديه. ويبدو أنها بقيت قيد القراءة حتى نهاية الرواية (شامان) عندما يتجه الحديث بين السارد والأمير لبحر الظلمات – المحيط الأطلسي- كما سمّاه الرحالة، والجغرافيون العرب، في أدبهم الجغرافي. 
 ما تبقى
أما ما تبقى من القول عن (شامان) فيمكن إيجازهُ في أنها رواية لا سيرة. بمعنى أن الكاتب لم يرد أن يقدم لنا فيها سيرة الأمير إيهاب. وليست رواية تاريخيّة، وإن كانت لا تبرأ من التاريخ، إذ تشير إلى حقبة الاستعمار في الخليج، والصراع على المنطقة بين إنجليز وفرنسيين، ونشوء بعض الممالك في جزيرة العرب، وما جاورها، لا سيما العراق، فضلا عن إشارات لسقوط النظام الملكي ببغداد في تموز 1958 وما أعقبه من رحيل بعض الفارين من النظام العسكري إلى باريس .. وهي ليست رواية سياسية، واجتماعية، وإن كانت توجه أصابع الاتهام لسياسيّين وصلوا إلى السلطة عن طريق القوة الغاشمة التي لا تستطيع التفريق بين الإجراء الصحيح والإجراء الخاطئ. علاوة على ذلك كله، يمكن أن تعد هذه الرواية، وتصنف، في رواية الرحلة، التي تتنقل بشخوصها، وبقرائها، من الصحراء في المشرق العربي عبر البحر في: الاسكندرية، والمتوسط، ومرسيليا، وباريس، فدوفيل، فالنجف الأشرف، عدا عن الصحراء بكثبانها الرملية الذهبية، ولياليها المقمرة، وطيورها الجارحة. فهي بهذا رواية فيها شيءٌ من كلّ شيء، وتأخذ بألوان الأدب من كل لون بطرف.