Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Apr-2021

عز الدين المناصرة.. وداعا

 الدستور-إبراهيم خليل

 
أمس ودعنا الشاعر الكاتب مريد البرغوثي (1944- 2021) واليوم نودع بمرارة الشاعر الناقد محمد عزالدين المناصرة (1946- 2021) الذي وافاه الأجل الاثنين الموافق لـ 5 نيسان- إبريل من العام الحالي. كان عز الدين في أثناء وجوده في القاهرة دارسا للغة والأدب العربيين قد تعرف على مجموعة من الشعراء الشباب منهم محمد إبراهيم أبو سنة وحسن توفيق وأصدر ثلاثتهم مجموعة قصائد بعنوان الدم في الحدائق (1968). لكن المناصرة كان قد سبقهم إلى إصدار الدواوين . فقد جاء في الصفحة ذات الرقم 132من ديوانه رعويات كنعانية (1991) أن أول ديوان له وهو يا عنب الخليل صدر في العام 1968 وأن الديوان الذي بين أيدينا المنشور ببيروت عن دارالعودة كأنه طبعة ثانية. وذكر أيضا أن ديوان الخروج من البحر الميت صدر عام 1969 مع أن الطبعة التي بين أيدينا صدرت عن دار العودة 1972 وفيها ذكر أن الطبعة هي الأولى. فالتنقل بين القاهرة وعمان وبيروت وصوفيا والجزائر وغيرها جعلت من دواوينه التي تطبع هنا تعاد طباعتها هناك شأنه في ذلك شأن شعراء فلسطين الذين كتب عليهم التنقل والارتحال من منفى إلى منفى.
 
في بواكيره اجتذب شعر المناصرة المهتمين بالشعر الحديث ونقاده في مصر من أمثال عز الدين إسماعيل وعبد الغفار مكاوي ود. سهير قلماوي والشاعر صلاح عبد الصبور وصلاح فضل وغالي شكري وغيرهم .. ممن لاحظوا وقوف القارئ لشعره على روح البيئة العربية الفلسطينة، وهي تتجلى في نظم يتألق فيه إحساس الشاعر بمأساة بلاده ، لذا لا بد من أن يلم القارئ بملامح الشعب الفلسطيني وثقافته وعاداته وتقاليده، ولا نبالغ إذا أضفنا لهجاته الدارجة، وذلك كي يستجيب لهذا الشعر، ويتفاعل بما فيه من مشاعر وإحساسات، وما يتناسل فيه من إشارات فولكلورية، واقتباسات مبتكرة، ومتكررة من المواويل، والأغاني، والأمثال غير الفصيحة، والكنايات التي تشيع على ألسنة العامة بصفة خاصة. ولهذا لا عجب أن نجد ديوانه الأول الذي صدر بعنوان « يا عنب الخليل « فهو بالعنوان يشير لما تعرف به هذه المدينة الفلسطينية العريقة التي تعد من أقدم المدن في التاريخ، وأكثرها قداسة لدى أتباع الديانات السماوية طرًا. وهذا ما توحي به وتقوله القصيدة التي أخذ منها العنوان:
 
سمعتك عبر ليل الصيف أغنية خليلية
 
تقول تقول يا عنب الخليل الحر لا تثمر
 
وإن أثمرتَ كن سمًّا على الأعداء
 
لا تثمر
 
ولا يفتأ المناصرة يكرر في شعره الأمثال الدارجة «فالدار – في إحدى قصائده - تنعى من بناها» وفي أخرى يتغنى حارس الأعناب في حرش الخليل، وفي بحيرة في الجليل، وقريبا من نادي الفقراء عند المسجد الأقصى ، وعند باب القدس:
 
عند باب القدس ماتت جدتي
 
وهي تحكي لشجيرات العنب
 
عن زمان سوف يأتي
 
وعلى خديه شامات الغضب
 
ولا يقتصر المناصرة في شعره على التراث الشعبي الفلسطيني، وحده، بل نجده يقتبس من التراث العربي القديم، ولعله أول من أحيا في قصائده ذكر امرئ القيس بن حجر (الملك الضليل) صاحب «قفا نبك» وهو عنوان اتخذه المناصرة عنوانا لواحدة من قصائده التي قدم لها بعبارة اليوم خمر وغدا ... ونجده يذكر فيها أسماء الأمكنة التي وردت في معلقة الشاعر مثل رأس المجيمر، وغزلان وجرة، وسقط اللوى، والدخول، وحومل، وعسيب، وهي من قصيدة أخرى، وأنقرة. ويذكر آل حجر، وهم قوم الشاعر الجاهلي. وكل هذه الإشارات تحيلنا إلى ذلك العصر وشعره، ولقضية الشاعر مع بني أسد الذين أغاروا على إمارة أبيه، وقتلوه، فقال كلمته المشهورة «اليوم خمرٌ وغدا أمر»:
 
ضاع ملكي
 
في ذرى رأس المجيمر
 
ضاع ملكي وأنا
 
في بلاد الروم أمشي ، أتعثر
 
من ترى منكم يغيث الملك الضليل َ
 
يا صخر يغوث
 
والقصائد التي يقتبس فيها من شعر امرئ القيس متعددة، ففي «المقهى الرمادي» وهو في ما يبدو أحد المقاهي التي دأب الشاعر على التردد إليها في القاهرة، توجه له إحداهن سؤالا عن مصيره في تلك الظروف – نعني ظروف النكسة- فلم يجد ما يجيب به عن هذا السؤال خيرًا من جواب امرئ القيس، عندما قيل له إن بني أسد قتلوا أباه، واغتصبوا ملكه، فأجابهم مثلما جاء في القصيدة – الرؤيا المتخيلة:
 
ها هنا أدفن يأسي
 
في رمال دنسوها، لم تكن
 
غير هذا الكذْبِ، ما ينمو بأعماق الزمن
 
وأقول اليوم خمرًا وغدا ...
 
يا غرباء
 
اسكتوا يا غرباء
 
فوراءَ الثأر منا خطباء
 
مثل هذه العبارة «فوراءَ الثأر من خطباء» تنم على اليأس الذي بلغه المناصرة بعد مهزلة الحرب التي انتهت باحتلال الضفة الغربية، وشبه جزيرة سيناء، والجولان. فالمتكلم في القصيدة يشعر شعورا كبيرا بثقل الهزيمة، وبمآل عزيمته المنكسرة. وذلك ما يتضح بصورة أكبر في مرثيته لشاعر كنعاني (الشاعر المقصود هو ناهض الريس) التي تتضمن أول إشارة لمفردة كنعان، وكنعاني، وهما من المفردات التي تتكرر تكرارًا ملحوظا في شعره، حتى إنه أصدر ديوانا بعنوان «يتوهج كنعان» وآخر بعنوان «رعويات كنعانية». ولكثرة توافر هذه الإشارات في شعره لقبه بعضهم بالشاعر الكنعاني، وبامرئ القيس الكنعاني. والمناصرة في بواكيره كثير البحث في التراث الشعبي الفلسطيني والعربي، عن رموز يمكن توظيفها في شعره، تساعده على التعبير عن هاجسه الثوري أولا، وتجنبه الوقوع في المباشرة ثانيًا، لأن المباشرة تضعف النص الشعري، وتقترب به من الشعارات التي يرفعها المتظاهرون، وتلهو بها الفصائل، والأحزاب. وفي هذا السياق جاء ابتكاره لرمز زرقاء اليمامة، وهي حكاية خرافية ذكرها ابن سعيد (685هـ) في كتابه «نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب» يقول المتكلم في قصيدة « زرقاء اليمامة « التي يعود تاريخها إلى كانون الأول 1966 مخاطبا الزرقاء:
 
قلت لنا: إن الأشجار تسير
 
تقفز تركض في الوديان
 
في اليوم التالي يا زرقاء
 
في اليوم التالي
 
كان الجيش السفاح
 
ينحر سكان البلدة في عيد النحر
 
ويفقأ عين الزرقاء
 
بعد ذلك، وفي شهر يوليو تموز من العام 1967 نشرت الآداب قصيدة للشاعر الراحل أمل دنقل(1940- 1983) بعنوان «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» وفيها أبيات تذكرنا بما ورد في قصيدة المناصرة:
 
قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار
 
فاستضحكوا من وهمك الثرثار
 
وحين فوجئوا بحد السيف قايضوا بنا
 
والتمسوا النجاة والفرار
 
وأما التراث العربي، فمعين لا ينضب لشعره، واقتباساته، أو لما يعرف باسم التناصّ. فهو يذكر على سبيل المثال عبارة قصيرة من بيت شعر قديم «تلفت القلبُ» و»ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردا» وموسى بن أبي غسان الذي تصدى للفرنجة رافضا اتفاقية الإذعان التي قبل بها أبو عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس(1460- 1533). ويجمع إلى هذا أغنية «السكة فين « لسيد حجاب ، وخمارة القط الأسود وهي رواية لنجيب محفوظ. وهذا الخليط من المواد الثقافية والأدبية والفولكلورية في شعره لا ينبغي له أن يبعث على الاستغراب؛ فالمناصرة شاعر يكتب الشعر بالعامية، وهو مهتم بالفنون التشكيلية، وله مؤلفات في ذلك،. وقد دأب على السير في هذا الاتجاه جامعًا بين الأصالة والابتكار، ممعنا في التجديد الذي يتنافى مع التقليد والترديد. ففي ديوانه « الخروج من البحر الميت « كغيره من الدواوين يستفتحه بقصيدة « طريق الشام « التي جمع فيها بين أبي تمام(231هـ) والمتنبي(354هـ) في حانة بدمشق ثم أضاف إليهما عبد يغوث الحارثي وهو شاعر قديم من شعراء الحماسة، ومن المؤكد أنه جاهلي بل من سادة الجاهلية. وأيا ما يكن الأمر، فإن هؤلاء جميعا يتفاعلون في صورة من صور الشعر الذي يعمق الإحساس بأزمة المناصرة، وتوقه للخلاص:
 
كلهم عاشوا على وهج لظاك
 
أيها الوجه الذي
 
خضتُ به الموتَ وطفتُ الأزمنة
 
منذ عشرين سنة
 
سيذوب الثلج يوما وأراك
 
ويتخذ المناصرة من ابن حمديس الصقلي(527هـ) وهو شاعر أندلسي، قناعا؛ فعنوان القصيدة « تصريحات ابن حمديس الفلسطيني « وقد استحضر، علاوة على الشاعر، وزن القصيدة والروي والقافية وموضوع الحنين، ولكنه – مع ذلك- وظف هذا كله في التعبير عن إشكاليته هو، لا عن إشكالية ابن حمديس، مع ان الاثنين متساويان في المعاناة:
 
وخمارة زرتها في الصباح
 
وكان نديمي خمارها
 
سألت تواريخها فانحنت
 
وناحت على موت سمّارها
 
والذين لديهم خبرة بالشعر الأندلسي يذكرون أن لابن حمديس قصيدة مشابهة، وهي التي يقول فيها
 
فلو كنتُ أخرجت من جنة فإني أحدِّثُ أخبارها
 
وفي ديوانه المذكور ابتكر المناصرة قصيدة التوقيع، وهي قصيدة قصيرة تشبه الهايكو، في عدد قليل من الأبيات. وتتصف بالقصيدة المستقلة عن غيرها من حيث الشكل ومن حيث المضمون، كهذه القصيدة:
 
أنت أمير
 
وأنا أمير
 
فمن يقودُ هذا الفيلق الكبير
 
ولا يفتأ المناصرة يعود بنا، ويرجعُ، للتراث القديم كأنه لا يستطيع الفكاك منه، والابتعاد عنه. فقد استوحى من قول العرْجي- شاعر أموي عاش في زمن مسيلمة بن عبد الملك- « أضاعوني وأي فتى أضاعوا « قصيدة بالعنوان أضاعوني. وهي قصيدة تقول ما لم يقله المناصرة عن نفسه في غيرها :
 
مضت سنتان
 
قال الشاعر المنفي حين بكى
 
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا
 
مضت سنتان
 
أرض الروم واسعة وجدي دائما عاثر
 
وسوق عكاظ فيها الشاعر الصعلوك
 
وفيها الشاعر المملوك
 
وفيها الشاعر الشاعر
 
وكعادته، لا يكتفي الشاعر بنموذج واحد في النص، فإلى جانب العرجي يقف امرؤ القيس، الذي قال في مقتل أبيه ضيعني صغيرًا وحملني دمه كبيرًا، اليوم خمر وغدا أمر:
 
وأنا أريد بني أسد
 
قتلوا أبي واستأسدوا
 
ما عاد ينهرهم سوى الخيل الضوامر
 
والسيوف بلا عدد
 
وأنا أريد بني أسد
 
مع هذا لا تفوته الإشارة لرموز وأسماء من الأدب العالمي فهو يقتبس من شعر بول إيلوار(1895- 1952) أحد شعراء المقاومة الفرنسية ضد النازيين، ومايكوفسكي الشاعر الروسي الكبير(1893- 1930) صاحب القصيدة غيمة في بنطال 1915 وقصيدة جواز سفر سوفياتي، وغيرهما.. والمناصرة سواء في شعره المبكر أو المتأخر لا يفتأ ينحو بلغته نحو التبسيط، لدرجة لا يربأ بها عن استخدام الشائع والعامي. مما وضعه في مقدمة الشعراء الذين تتجلى لديهم ظاهرة الازدواجية، وهو إلى هذا كثير العناية بالموسيقى، واللافت أنه أفاد من الأغاني، والفولكلور، وما يبث من دور الإذاعة والتلفزيون، وبعض قصائده شقت طريقها للتلحين والغناء، وصدحت بها حناجر الفرق، والمغنين. وللمناصرة كتبٌ كثيرة في النقد، والنقد الثقافي، ونظرية المقارنة، وقصيدة النثر، والنص الشعري، وجمرة النص، والفن التشكيلي، رحم الله المناصرة، وأصدق العزاء للشعب العربي والفلسطيني برحيله.