Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    16-Sep-2020

إضحك تضحك الدنيا معك: عن الظرْف والظرَفاء والمُجُون والمُتمَاجنين

 القدس العربي-محمد محمد الخطابي

لو أن إنسان الكهوف كان قد عرف كيف يضحك لتغير وجه التاريخ! فالفكاهة تخفف من أعباء الحياة، وتستعيد روح الإنسان الفطرية، إنها تنشرالسعادة، وتشيع الطمأنينة في النفوس، وتنعش الروح والوجدان، وتعمل على تمتين أواصر الأخوة وتقوية عراها بين الناس، إنها تنسينا همومَنا، وتخفف عنا أحزاننا، وتعمل على تنقية أدراننا، إنها تطهر العقلَ من رواسب آفات النفاق ونقائصه، وتقصي التعب، وتخفف عنا عناءَ الافتراضات الوهمية.
جاء في الأمثال: «إن اليوم الذي لا نضحك فيه هو يوم لم نعشه، أو هو يوم منقوص من أعمارنا». ويحفل العديد من الكتب بشتى أنواع الطرائف، والمواقف والحكايات والقصص، والمستملحات في مختلف أنحاء المعمورة، وهي تعكس لنا مدى قدرة الإنسان على إيجاد وسائل التسلية، وخلق فرص الضحك والفكاهة، وتوفير أسباب السعادة والانشراح، والسخرية والتهكم من كل نوع. بعض هذه الطرائف والمستملحات نقلت متواترة، في البداية شفهياً بطولِ إسنادِ عنعنةٍ حتى الوصول إلى قائليها الأوائل، الذين قد يظلون مجهولين في سديم الماضي السحيق، ثم يتم نقلها شفوياً، ثم تدوينها في الكتب، ونسخها في المراجع، وجمعا في الدواوين، بدءاً بالورق المهرق، ومروراً بالقراطيس والكراريس، ووصولاً إلى الورق الصقيل، وأخيراً الرقميات الإلكترونية. وتعتبر هذه المرويات اليوم جزءاً ثميناً من تراث ثقافي شفوي عالمي حافل، تجري أقواله المشهورة على ألسنة قادة الفكر والكتّاب والمبدعين والفنانين.
 
أخبار السلف الصالح
 
ويُقال إنه من أجمل ألوان وأصناف الطرائف الأدبية تلك التي تبعث الابتسام في سامعيها، أو في قارئيها، أو في متلقيها، وهي تحكي لنا عن أخبار أجدادنا من السلف الصالح من شعراء وأدباء، علماء وخلفاء وأمراء، ودراويش، وصناع وحرفيين، فقهاء وطفيليين، هذا الصنف من الأدب الفكاهي الضاحك غالباً ما يجمع بين إثارة البسمات، وإشاعة الضحكات، ونشر المتعة في مجالات الأدب والتاريخ، والثقافة على العموم. ويؤكد علماء النفس منذ أقدم العصور على أن الترويح والتنفيس عن النفس أمر لا غنىً للإنسان عنه، لدرء الهموم، وإقصاء الأحاسيس المُحبطة، والإقلال من ثقل المشاغل والمتاعب اليومية المتواترة.
 
رموز دالة
 
تشكل الطرْفة أو المُستملحة بدون شك موهبةً، إلا أن ذلك غير كافٍ لوحده لخلق الفن الجيد، بل ينبغي لهذه الطرائف والمستملحات، أن تكون ذات محتوى ثري، ورموز دالة، فالطرفة الحلوة تنير الأفكار وتصقل العقول، وتضفي على سامعيها بريقاً مشعاً، وتجعل هذه الأفكار مقبولة تستكين في الذاكرة، وتقبع في الوجدان سهلة مستساغة طيعة، ففي الطرفة يكمن العديد من الفروق الدقيقة، وهي تزدان بالألوان الزاهية، كما هو الحال في قوس قزح، فهناك سخرية قاسية ذات لون كئيب، ضحكتها مروعة قد تجعل الأسنانَ تصطك، وهناك سخرية تتسم أحياناً بالجدية والصرامة، وتتخللها في بعض الأحيان غمزات ولمزات، قد تجعل سربَ الدبابير يطير فزعاً، هناك روح الدعابة التي تحاكي لهجة الأب، لأنها لا تُفهم بدون كبير عناء، ذلك لأنه من أحد مكوناتها الحنان الأبوي، ليس في إمكاننا تجاهل النكات الجميلة، والمواقف المرحة، التي وصفها البعض بصورة غير عادلة، باعتبارها قريبة من الدغدغة، التي قد تبلغ مبلغ القهقهة، هناك النكتة التي تهزنا في مكاننا عند سماعها، وهناك الطرفة التي تجعل مآقينا تغرورق بالدموع، وتجعلنا نقف بدون وعي منا، إنها تحركنا تلقائيًا لأنها تنطوي على حافزٍ قوي، إلا أن هذا الحافز، إذا خبا فإن روحنا تغدو فكراً هجيناً، وعاطفة جوفاء. الفكاهة لا تجهل أن الجدية المفرطة قد يعتريها غيرُ قليلٍ من الأكاذيب والافتراءات، وقديماً قيل: الشيء إذا زاد على حده انقلب إلى ضده.
 
يحفل الأدب القديم منذ الإغريق والرومان والفرس والهنود، والأدب العربي والعالمي قديمُه وحديثه، بكتابات ضافية متنوعة، وبقصص وحكايات، وأساطير ونصوص غابرة في القدم، مُترعة بأساليب السخرية والتهكم، ومثقلة بالطرائف والمُستملحات والنوادر.
 
حضور البديهة
 
يخيل إلينا أحياناً أن شخصيات بعض الطرائف، قد تكون غيرَ آدمية، بل إنها شبيهة بدمىَ متحركة مصنوعة من فرط الفكاهة ذاتها، ومع ذلك فهي تشتمل على أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من الإنسانية، التي يمكن بها أو بواسطتها تكثيف الإشارات إلى أفعالنا الخاطئة، والعمل على تقويمها وتعريتها. قد تحوم الفكاهة حول الحُكام والملوك والخلفاء والأمراء، القضاة والمحامين، الشعراء، والأدباء والفنانين، والناس العاديين أجمعين. الفكاهة هي الشكل التعبيري الدقيق للملاحظة الذكية الحادة، والفطنة ونوع من اليقظة، وسرعة البديهة وحضورها، من خلال الإصرار المبالغ على بعض الخصائص المميزة للإنسان، التي تُحكى عنه أو له الطرفة أو المستملحة، فتصبح مثل عمل فنان الكاريكاتير، الذي يجسم ويضخم الملامحَ البارزة للوجوه في رسمه لصورةٍ كاريكاتيرية، ما أو تسجيله لموقفٍ ضاحكٍ ما، يقلقه ويسترعي انتباهه أكثر من غيره.
 
الطرفة منذ أقدم العصور
 
يحفل الأدب القديم منذ الإغريق والرومان والفرس والهنود، والأدب العربي والعالمي قديمُه وحديثه، بكتابات ضافية متنوعة، وبقصص وحكايات، وأساطير ونصوص غابرة في القدم، مُترعة بأساليب السخرية والتهكم، ومثقلة بالطرائف والمُستملحات والنوادر، رواها واستعملها، أو استغلها ووظفها العديد من المؤلفين والكتاب في إبداعاتهم على اختلاف أشكالها، وتباين ألوانها في قوالب قصصية وشعرية ومسرحية، وفي سواها من الأغراض الإبداعية الأخرى، وقد اشتهر عندنا في الأدب العربي كتاب منذ العصور القديمة في هذا المجال، وبشكل خاص في العصر العباسي من أشهرهم أبو عثمان ‏الجاحظ، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بأساليبه الفكاهية اللاذعة العميقة الغور، وإليه يُنسب قوله: «من كانت فيه دعابة فقد برئ من الكبر»، والذي سخر سخرية مُرة من مختلف ما كان يتراءى له، أو تقع عليه عيناه الجاحظتان، فقد استعمل لسانه الساخر ووجه سنانَ نقده اللاذع حتى إلى نفسه، فضحك ‏من دمامته وجحوظ عينيْه و(حكايته مع المرأة التي أرادت أن ترسم صورة الشيطان على خاتمها، فاقتادته إلى الصائغ معروفة)، كان للجاحظ قصب السبق في هذا، واشتهر قبله الشاعران الحطيئة وبشار بن بُرد وسواهما. ومن مشاهير العرب الذين ألفوا في هذا المجال الخطيب البغدادي، والحصري القيرواني، والثعالبي، والأبشهي، وابن الجوزي، والكسائي في كتبهم الشهيرة مثل ‏‏»التطفيل»، و»جمع الجواهر في الملح والنوادر»، و»نتف الظرف»، و»المستطرف»، وكتاب «أخبار الظراف والمتماجنين»، الذي جمع فيه ابن الجوزي نوعيْن من الأخبار: الأول أخبار الظرف والظرفاء، والثاني أخبار المجون والمتماجنين، والذي يقول فيه: «الظرف في صاحب الوجه ورشاقة القد، ونظافة الجسم والثوب، وبلاغة ‏اللسان، وعذوبة المنطق، وفي خفة الحركة، وقوة الذهن، وملاحة الفكاهة والمزاح، وكأن الظرف مأخوذ من الظرف ‏الوعاء، فكأنه وعاء لكل لطيف».
وقد أخبرنا «الحكواتيون» و»الحلائقيون» والرواة والحُفاظ منذ خلف الأحمر، وحماد الراوية، وصولاً إلى أبي الفرَج الأصبهاني في كتابه «الأغاني» ومَنْ جاء بعده، أنه نظراً لحياة التسلية والتسري، وأجواء الفكاهة والترف، ورهافة المُجن والمجون، التي كان يعيش في كنفها معظم الخلفاء والأمراء العرب على اختلاف عصورهم، فقد انكبّ وهبّ ‏الأدباءُ والشعراءُ وغيرُهم من المُستظرفين على أبواب قصُورهم، لإضحاكهم بحلو الفكاهات، وأعذب النوادر، وغرائب القصص والمستملحات للحصول على مكافآتهم وعطاياهم السخية من دنانير وهدايا وهبات وجاه، (زِهْ فاعْطِه ألفَ دينار)! ومن أشهرهم في هذا القبيل هبنقة، وحُنيْن وأشعب الطفيلي، وأبو الحسين ‏الخليع، وأبو العبر، وأبو دلامة، وقد روى لنا الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين» غير قليل من أخبار هؤلاء المستظرفين، كما أنه يقول عن كتابه «البخلاء»: «ولك في ‏هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبين حجة طريفة، وتعرف حيلة لطيفة، واستفادة نادرة عجيبة، وأنت في ‏ضحكٍ منه إذا شئتَ، وفي لهوٍ إذا مللتَ الجد»!
 
الهزْل والمرَح
 
ونجد في العصر الحديث في مختلف البلدان العربية، غير قليل من الكتّاب ممن اشتهروا بهذا الأسلوب الفكاهي المرح، نذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر في مصر، إبراهيم عبد القادر المازني، وعبد العزيز البِشري، كما اشتهر كتاب عرب آخرون في مختلف البلدان العربية من المحيط إلى الخليج بهذا النوع من الأدب، وهناك جمهرة من الكتاب العالميين الذين اشتهروا بهذا الصنف من الأدب الساخر، نذكر منهم على سبيل المثال كذلك، من البريطانيين جوناثان سويفت، وتشارلز ديكنز، وجون أورويل، والكاتب الأيرلندي الساخر جورج برنارد شو، والقاص الغواتيمالي- الهندوراسي أوغوستو مونتيروسُو، والتشيلي نيكانور بارا، والأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. كما اشتهر في فرنسا بهذه الخاصية كتّاب مثل فرانسوا رابولي، ونيكولا بوالو، وبلزاك وفيكتور هوغو، وإميل زولا، وفولتير وموليير، وفي إيطاليا نجد جيوفاني بوكاتشيُو، وتيوفيلو فولينغو، وآخرين، وفي إسبانيا نجد ميغيل دي سيرفانتيس صاحب «دون كيشوت» الذي تزخر روايته الشهيرة بشتى أنواع السخرية والخيال، ولوبي دي فيغا، ورامون ماريا دي فاييي إنكلان، وخوان رويث أرثيبيستس دي إيتا، وخوسيه كادالسو صاحب «رسائل مغربية»، وتراشقات الشاعرين كيفيدو وغونغورا وسواهم.
وأخيراً وليس آخراً.. الفكاهة هي القوة الفطرية الأساسية في العالم الملائمة لجعل الحياة مقبولة، ومستساغة وميسرة، للتخفيف من أعبائنا وهمومنا ومآسينا، وينبغي أن لا يغرب عن بالنا فحوى المثل المشهور، والقول المأثور والذي ما فتئت ألسنتنا تلوكه في كل حين إلى اليوم والقائل: (اضحكْ تضحك الدنيا معك.. ابكِ تبكي لوحدك)!
 
٭ كاتب من المغرب