Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    05-Apr-2019

مناهج بحث.. “نبتدي منين الحكاية”* د.أحمد جميل عزم

 الغد-كنتُ أريد توضيح فكرة مناهج البحث، لطلاب السنة الأولى في مرحلة الماجستير، وما المقصود بالمنهج وكيف ننتقل من فكرة لأخرى، و”تكتيكات” الانتقال من جزء لآخر في الكتابة. عرضتُ لهم إحدى أغنيات عبدالحليم حافظ، وكان هدفي أن يشاهدوا المقطع الأول، الموسيقي فيه. أدرتُ الأغنية، مدركاً سلفاً أن المقدمة الموسيقية تستغرق تسع دقائق، وطلبتُ منهم التركيز كثيراً في نوعية الموسيقى، والآلات المستخدمة، وأن يدققوا في طريقة تصوير المشاهد. وذهبتُ لإحضار كوب قهوة وماء، وهو ما يستغرق دقيقة أو أقل. كان هدفي أولاً توضيح أنّ المنهج هو بالدرجة الأولى طبيعة الأدوات البحثية المستخدمة، وطريقة استخدامها، تماماً كما أنّ الموسيقي قد يستخدم آلات شرقية وغربية، وآلات صاخبة وهادئة، ووترية وإيقاعات، وقد يستخدمها مجتمعة أو مفردة (solo)، تماماً كما نستخدم أحياناً مناهج تنتقل من الجزئيات للكليات، من بيانات ميدانية وخبرية نوعية، وأخرى كمّية رقمية إلى الاستنتاجات (وهو ما يسمى علمياً الاستقراء Induction)، أو من الكلي بدءاً من النظريات بأنواعها وصولاً للجزئيات، وهو ما يسمى (Deduction). وكنت مهتماً بتوضيح ذكاء المُخرِج التلفزيوني، الذي كان ينوع التصوير بين مشهد جماعي للفرقة الموسيقية، وفردي لكل عازف وحده، وكيف أنّه قبل ثوانٍ، من تحول اللحن إلى التركيز على آلة واحدة لعازف معين، يورد لقطة خاطفة للعازف الذي سيبدأ بالعزف وحيداً (قبل أن يبدأ) فيمهّد بصرياً للانتقال إليه، تماماً كما أنه قبل الانتقال من جزء لآخر في البحث العلمي يجب أن نمهد ولو بإشارة خاطفة تربط الجزء الحالي بالتالي، وكيف أن المخرج يكون قد درس اللحن وقرر توزيع كاميراته ولقطاته سلفاً. 

عدت أحمل القهوة، لم أكن قد غبتُ دقيقتين، كانت الموسيقى انتهت وبدأت الأغنية، فوجئت وسألت كيف انتهت المقدمة ولماذا لم يشاهدوها؟. ردت طالبة أنّها من قام بذلك، وأنّ المقدمات الموسيقية عموماً مملة، وأنها دائماً تذهب للكلمات مباشرة. 
ضحكت، أعدتُ المقطوعة، ولم أوضح لهم تسلسل العقل البشري، مع الموسيقى، فهذا ليس موضوع المحاضرة. 
غالباً، في البداية نحب الكلمات من دون موسيقى، وهذا ديدن كثير من الأطفال، حتى عندما يبدؤون بحب أغنيات طويلة، فيستعجلون نهاية الموسيقى. 
ثم يُحب جزء من الناس الموسيقى، من دون غناء، ويبدؤون بالتنقل من موسيقى يعرفونها إلى موسيقى كلاسيكية وعالمية، ومن أسباب هذا أنه بتقدم العمر تشعرنا الكلمات بالملل، ونعتاد عليها، وتدريجيّاً تُصبح الموسيقى الفارغة (من دون كلمات) أشبه بالموسيقى التصويرية لأفكارنا، كأننا نكتب قصتنا، لأنفسنا، على وقعها، أو نستخدمها لمصاحبة دراستنا وحياتنا. 
ومن الشائع أن تحب سماع أغنية عندما “تقفز” في المذياع، مع أنك تكون قد توقفت عن الاستماع لها في التسجيلات، والسبب أنها تأتي مفاجأة تذكرك بالقديم، فتكون المفاجأة محببة، لأنك تكون قد مللت الاستماع لها، فتريد شيئا غير متوقع يصاحبها. 
ومن الشائع أن تحب أغنية بصوت شخص جديد، شابة أو شابا، لأسباب منها أنّه ينوع في طريقة أدائها ويجدد، وبالتالي أيضاً يكسر روتينها القديم، وهذا من أسباب شعبية برامج مسابقات الأغاني للشباب، ولكن عندما يتعمق ذوق الإنسان، وتزداد حساسية قدراته السمعية، يصبح صعباً أن يتقبّل أي أداء. ولعل من الملاحظات التي تستحق التوقف، أنّ أغنيات الكبار من أمثال محمد عبدالوهاب، وأم كلثوم، وعبدالحليم حافظ، وفيروز، وغيرهم، يمكن أن تتحول لما يشبه سمفونيات الموسيقى الكلاسيكية في أوروبا، فبينما تعزف أكبر دور الأوبرا الغربية موسيقى ملحنين توفوا منذ مئات السنوات، تتحول بعض الأغنيات العربية لموسيقى كلاسيكية يغنيها نجوم جدد بحرفية عالية، وتجديد. 
كثيرا ما نكون قد أُرهقنا جمالياً من الأغنية، وتصبح الأغنيات قديمة وعتيقة، ولكن ما يعجبك فيها الاتقان والعمل، لذلك مثلا يمكن أن تعجب بمثابرة واجتهاد وتخطيط عبدالحليم حافظ من دون الشعور بذات الشجن القديم معه. 
لعل مشكلة الفكر والكتابة والغناء والإبداع والسياسة الآن، أنّها تتم عبر برمجيات حاسوب، ومواقع تواصل اجتماعي، ونمط اقتصادي استهلاكي، فيها كثير من الإمكانيات الرائعة، لدرجة أنّها تلغي الحاجة للعمق والتأني والتخطيط والتفكير بالتفاصيل، وبالتالي تصبح المعادلة الجديدة، كيف نستمر بتقديم “منتجات” إبداعية فيها كل النمنمات والتفاصيل والتعمق، في وقت فيه كل شيء سهل هش، وزائل، وتجاري، واستعراضي سريع.