Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    05-Apr-2019

قــراءة فــي تجـربــة جــلال بــرجس الـروائيـة

 الدستور-د. عماد الضمور

يجب التأكيد بداية على أنّ الفن عموماً هو في جميع المراحل التي قطعها وطيد الصلة بالمجتمع؛ لأنه نوع من أنواع النشاط الاجتماعي، يعكس على الدوام بشكل من الأشكال طبيعة العلاقة السائدة سواء تلك التي تمثل صراع الإنسان في إطار مجتمع واحد قائم على أساس التنوّع والشرائح الطبقية. أو ذلك الصراع الفكري العميق في إطاره الإنساني العام.
نقرأ في تجربة الروائي الأردني جلال برجس روحاً إبداعية متنوعة الاتجاهات والأفكار والتقنيات التي بثها في منجزه السردي، ممّا يُثير الأسئلة للوقوف عند تفصيلات تجربته الروائية، بما أشاعه فيها من قيم إبداعية راسخة، وبنى فكرية معبّرة.
قرأت يوماً عبارة لماركيز يقول: ما معناه أن عمر الخمسين أو الاقتراب منها هي سن النضج، بالنسبة للروائي، وأنه في هذا العمر يستطيع أن يكتب روايته المطلوبة. تذكرت هذا القول وأنا أقرأ في مسيرة جلال برجس الروائية، ثلاث روايات نُشرت فيما يُقارب خمس سنوات، استطاع من خلالها اختزال كثير من المراحل الروائية، وتقديمها في فترة زمنية قصيرة، ممّا يكشف عن مخزون ثقافي هائل، وبراعة أسلوبية واضحة، ودراية عميقة بالرواية وتقنياتها الفنية.
إنّ جلال برجس في مسيرته الروائية انطلق من الموقع الصحيح الذي قاده لكتابة رواية تصور أزمة الإنسان المعاصر الفكرية، وصراعاته العميقة مع طبقات المجتمع وأنظمته الفكرية المختلفة. نستطيع القول من خلالها: إنّ جلال استطاع تحقيق بصمة خاصة له في الرواية الأردنية من خلال اختزاله الواضح للزمان وتكثيفه للأحداث منطلقاً من الشخوص التي تعيش أزمات مختلفة في حياتها، وترتبط بعلاقات مختلفة بالمكان الذي بات يشكل بؤرة مركزية تنبثق منها الأحداث في رواياته. جلال برجس لم يكتب رواية أردنية بالدرجة الأولى بل إنسانية عربية، ممّا أكسب فنه الروائي قيمة فكرية تُضاف إلى براعتها الفنية، فحداثة الفن الروائي واضحة في إبداعنا الأمر الذي لا نجده في الفن الروائي المصري أو الجزائري مثلاً والذي استلهم الواقع والتاريخ المصري بدءاً من الفراعنة وحتى يومنا هذا، وفي الرواية الجزائرية التي تناولت تاريخ الجزائر في حقب تاريخية قديمة.
كتب جلال برجس من وحي التجربة الحياتية المعاصرة والمتغيرات السياسية، بمعنى أنه لم يكتب عن أحداث موثقة في كتب التاريخ، ممّا جعله أكثر انتماء لأحداث عايشها بدءاً بأحداث الحادي عشر من أيلول وتفجير برجي التجارة العالمين ومروراً بالربيع العربي وانتهاء بالإرهاب والتطرف بكافة أنواعه.
وعلى الصعيد الإنساني جاءت كتابته عن عواطف إنسانية خالدة كالحبّ، والكراهية وقضايا إنسانية كثنائية العلم والجهل، والحرية والسجن، والاعتدال والتطرف، ممّا أوجد له جمهوراً أكثر انتشاراً، ولعلّ الحديث عن جلال برجس هو حديث عن نموذج روائي أردني استطاع تحقيق حضور واضح في المشهد العربي لمبدع أردني وخلال فترة زمنية قصيرة أنجز ثلاث روايات مختلفة عن بعضها في المبنى الحكائي والمتن الحكائي أيضاً، لإنتاج الدلالة المتضمنة في خطاب روائي فاعل. وهذا لا يُتاح إلا لمبدع استطاع أن يستوعب الرواية فناً وفكراً وحياة، جعل سرده يتسع كثيراً في مجال الإضافة النوعية لفن الرواية، بعدما توّج إنجازه هذا بالفوز بجائزة كتارا للرواية العربية عان 2015م.
في رواية «أفاعي النار» استلهام واضح للتراث العربي وبخاصة فيما يمتلكه من خصوبة قصصية، أبدعها الوجدان العربي. ولعلّ الهدف من هذا الاستلهام هو تطوير الفن الروائي، والنهوض به، والبحث عن خصائص، وملامح للفن الروائي العربي، مستمدة من بيئة هذا التراث الزمانية، والمكانية، فضلاً عن ازدياد الوعي الحقيقي بالهوية العربية، ومقوماتها، وذلك بالرجوع إلى التراث العربي، وفهمه بطريقة جديدة، وتقديمه بثوب معاصر.                                              
وإذا كان الروائي لا ينقل الواقع، بل يصنع عالماً، يضاهي الواقع برؤيته الإبداعية، فإن جلال برجس استطاع بحق أن يضعنا في عالمه الروائي الخاص، بكلّ ما يحويه من أفكار ورؤى إبداعية، استطاع من خلال هذا العالم أن يصل إلى مستويات متعددة من المجتمع، ممّا أوجد له قراء من مختلف الطبقات، والاتجاهات الفكرية.
مشكلة من يكتبون الرواية اليوم على كثرتهم يستهلكون الرموز والمفردات والموضوعات نفسها بشكل تبدو معه الأعمال الروائية واحدة وإن اختلفت طريقة السرد. جلال برجس متميز بين أقرانه من الروائيين، متفرّد بشخصيته الروائية وتنوعه في أساليب السرد، وموضوعاته.
 في روايته « مقصلة الحالم» الصادرة عام 2013م، تمتاز لغة الروية بكشفها عن المتناقضات النفسية والاجتماعية للشخصية الروائية، فهي غطاء يخفي وراءه حقائق قاسية، تكشف وتعري الواقع.       
جاء عنوان الرواية باعثاً لرؤيا السجن والاغتراب وحالة الضياع التي تحياها الشخوص، فالعنوان يوحي بالاستبداد والقمع الفكري، والعاطفي، فضلاً عن تفجّر فعل البوح؛ والمقصلة تمعن في كبح جماح الحلم، وتلاشيه بعدما بلغ درجة من النضج، وهذا يعني معاندة الواقع وبعثه لرؤى الحالم. الرواية تسرد قصة البطل (خالد) الذي غاب في معتقل صحراوي عشرين عاماً ثم عاد ليواجه عالماً جديداً تبدّلت مكوناته الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية ليفاجأ بأنّه يحمل سجنه معه. وهذا ما يضعنا أمام فكرة تناسخ السجون التي تشترك في مجملها بفعل الإقصاء والنفي للفعل الإنساني ذاته.
جلال برجس في ظل هذا الواقع القاتم لحياة البطل عوّل كثيراً على الحبّ بكلّ تجلياته الإنسانية لإنقاذ بطله المقموع ومجتمعه المأزوم.
خالد يُختطف وهو في آخر أيام دراسته الجامعية إلى عالم المعتقلات السياسية (إنه وأد للحلم في بدايته) إذ يُغلّب فعل الموت على فعل الحياة ليس لنشاطه السياسي المحظور أصلاً إنما بسبب تهمة لم يقترفها ممّا جعله يبحث عمّن دبّر له هذه التهمة.
يعمد جلال برجس إلى الكشف عن الجوانب الإنسانية للمعتقلين مبتعداً عن النمطية في عرضه للشخوص، ممّا يُبرز الجوانب النفسية في حياة الشخوص (عبد الغفار) يحب ويعشق ويتمنى.
عبد الغفار مناضل رفيق خالد في سجنه الصحراوي لم يكن انهزامياً حاول الانتصار للحياة ولو بمضاجعة الحائط وتقبيله، لذلك فإن الواقعي يمتزج بالفانتازيا والمتخيل في مشاهد الرواية.
ويختار جلال برجس عنوانات داخلية لفضاء روايته تمعن في بيان رؤيته الفكرية كما في عنوان» سجين الصدى» وهو عنوان ذو دلالة مأسوية، فالسجين إنسان فاقد للحرية، بمعنى أنّه فاقد للحياة بمعناها الوجودي، لكن أن يكون سجيناً للصدى فهذا إمعان في المعاناة وفقدان الذات لمعناها الحقيقي.
يمكننا في رواية ( مقصلة الحالم) الانطلاق من رؤية ( لوكاش) للرواية عندما عرّفها بأنّها: قصة كفاح تبحث عن قيم أصيلة في عالم منحط تعيد له مقامه، وتعيد للوجود وجاهته.                    
وهذا ينطبق على شخصية خالد التي تنطلق من تجربة فعلية أوشك فيها الوجود المرتقب على الحصول لكن آماله ما لبثت أن تحطمّت أمام صخرة الواقع، فالحاضر متعفن، والمستقبل يمتاز بالرفعة والسمو.
رواية جلال برجس ليست رواية تسجيلية أو تاريخية أو حتى واقعية بالدرجة الأولى إنّها رواية المزج بين الواقع والانفعالات والأحلام والرؤى تقدّم الدليل على مأسوية الفعل الذي يتعرض له الحالم أو مَنْ يحاول الحلم.   
يمكن اعتبار رواية ( مقصلة الحالم) رواية حداثيّة وتجربة جديدة في الكتابة والأسلوب تنزاح عن القوالب التقليدية وتستعمل لغة جريئة ملامسة للطبيعة الإنسانية في كافة حالاتها.
تطمح الرواية دوماً لتدوين فعل الألم وهذا ما فعله جلال من خلال تجربة السجن ولعلها( الرواية) تجهدُ ـ في الوقت نفسه ـ لنفي هذا الألم من خلال ردة فعل الحب الذي قاد إلى وصف مشهدي للقاءات عاطفية حميمة، ممّا جعل رواية مقصلة الحالم تجوس أرضاً وعرة مثقلة بقسوة الواقع.
في روايته «أفاعي النار» الصادرة عام 2016م انطلق جلال برجس من نوع سردي قديم، اتخذه شكلاً ينطلق منه لإنجاز مادته الروائية، وتجسيداً لرؤاه الفكرية، فهو يعتمد نمط الحكاية الإطار التي تنبثق منها الحكايات إذ تتداخل قواعد هذا النمط من السرد التراثي، ولغته وأنماطه أو طرائقه التي تجلّت في المقامة والرسالة وأدب الرحلات، وكتابة المشاهدات كما في رحلة ابن فطومة ومقامات الهمذاني وحكايات ألف ليلة وليلة.
إنّ حضور السرد التراثي في رواية « أفاعي النار» يتجسّد على صعيد كلي يمكن أن يأخذ شكل بنيات سردية صغرى.
لعلّ الانطلاق من نص سردي قديم يحقق تفاعلاً نصيّاً وحضاريّاً يمكن من خلاله إقامة تناصات تاريخية وفكرية عميقة بما ينتج نصاً سرديّاً جديداً قادراً على إنتاج الدلالة المعاصرة ذات الصلة الوثيقة بالزمن المعاصر الذي أبدعت فيه الرواية، فالتراث العربي قادر على استيعاب المعطى الحضاري للأمة.
في روايته «سيدات الحواس الخمس» الصادرة عام 2017م، يُقيم الكاتب حواراً سردياً مع حواس الإنسان بوعي استشرافي بواسطة بطله الفنان التشكيلي الأردني سراج عزالدين، فيجعل الرواية في ستة فصول، يتكئ في كل فصل على حاسة وامرأة من خلال معمار روائي جديد مختلف عن السابق. فالبطل (سراج عز الدين) تُجهض أحلامه أمام معركة خاسرة يخوضها مع الطبقة الفاسدة من الساسة ورجال الأعمال. تظهر المرأة من خلال زوجة البطل في تشابه كبير مع الوطن، بل هي الوطن بكل تجلياته، وجمالياته.
في رواية « أفاعي النار» شخصية الحكاءة في الرواية تمارس فعل السرد، وهي الذاكرة الحية للكاتب، وصاحبة السلطة في السرد واستحضار المواقف الدرامية، بل والمثيرة أحياناً بما تُسقطه على الأحداث من قبس نفسها المتوهجة وذاكرة حضورها الممتد في الزمن والموغل في الفكر، إنّها بوصلة الرواية التي رسمت معالمها واتجهت بالأحداث إلى وجهة تتسق مع رؤيا فكرية انتظمت خيوط الرواية.
في روايته « مقصلة الحالم» نجد الجسد موضوعاً للسرد، وموضوعاً للوصف والاستذكار، والحُلم، ومرتكزاً للغة التي تؤسس لفضاء روائي لا يُدرك إلا في علاقته بما يتولّد عن إيماءات الجسد، وآهات صاحبته (سعاد). وإذا كان السرد يقدّم المعنى إلا أنّه في رواية مقصلة الحالم فاضح للمعنى، ذو إنتاجية عالية للرؤى، فالكاتب يرتكز إلى فكرة الزمن الهارب الذي ما زال يبحث عنه، ولم يجده.
يتميّز عالم جلال برجس الروائي بقدرته على إنتاج شخصيات محورية ذات علاقات فاعلة وواعية لما يجري حولها في ظل متغيرات سياسية واجتماعية وثقافية عميقة حلّت بالمجتمع العربي، فضلاً عن تحولات اجتماعية في قضية المرأة وحقوقها انعكست في صورة تنوع مضموني، وتمرد للشخوص أحياناً، لكنه تمرد الباحث عن الخلاص من كافة القيود التي تحدّ من فاعلية الذات، وتفقدها قيمتها الفكرية.
ففي رواية» أفاعي النار» نعثر على شخصية علي بن محمود القصاد (شخصية الرواية المحورية) في فرنسا علاقاته بالأوساط الثقافية والفكرية والسياسية، وفي كثير من البلدان العربية والأجنبية حيث أخذ ينشر أراءه ومقالاته في الصحف الفرنسية والعربية معبّراً عن رأيه حول مفهوم العيب من وجهة نظر البنى الاجتماعية المتشددة والحرام من وجهة نظر الجماعات الدينية المتطرفة فألف كتاباً سماه « العيب والحرام» حيث قدّم العديد من المحاضرات حول الكتاب ومحتوياته وما أُلصق بالعيب والحرام من مفاهيم عطلت الحياة في الدول النامية.
وفي رواية « مقصلة الحالم» نعثر على شخصيتي خالد وسعاد والسجين السياسي عبد الغفار. أمّا في رواية» سيدات الحواس الخمس» نعثر على شخصية الفنان سراج عزالدين، ومجموعة سليمان الطالع.
في رواية « أفاعي النار» نلمس دور ابن القصاد في إعادة سعدون الغاني لثقته بنفسه بعدما تعرض لاضطهاد الجتماعي قاسٍ من أهل القرية. ممّا يبرز دور العلم التنويري الاصلاحي في إعادة الأمور لنصابها بعيداً عن التطرف والغلو بعدما فشل محمد القميحي في ذلك. تقوم الرواية على ثنائيات مختلفة، العلم مقابل للجهل، والاعتدال مقابل التطرف، التنوير والعقلانية مقابل الظلامية والانفعال. وهي ثنائيات ذات أثر مدهش في رواية « أفاعي النار» أقام عليها جلال برجس رؤيته الفكرية ومعماره الفني. 
في روايته « مقصلة الحالم» ثنائية السجن والحرية (سجن الحياة، والسجن الحقيقي) التي تنبثق منها ثنائية الحياة والموت.
في روايته « سيدات الحواس الخمس ثنائية الحب والكراهية/ الفساد والأمانة، حيث نجح جلال برجس في روايته في إيجاد ممكنات السرد أو ما يجعله قادراً على السرد: الحواس الخمس كافية في كل حاسة لإقامة عالم روائي منتج للسرد.
وفي مقصلة الحالم فإن ثنائية السجن والحرية تتضمن عوالم سردية مدهشة، وفي أفاعي النار حضرت الحكاءة بسردها المدهش لواقعنا المؤلم.                                
لقد نجح جلال برجس وفي خمس سنوات من تجربته الروائية في اختزال الزمن الإبداعي الذي يستغرقه الكاتب للنضج الفني في إبداع الرواية، وكثف هذا الزمن في مبنى رواياته من خلال حيل سردية وتوظيف تقنيات روائية تقدم أحداثاً روائية تباعدت زمنياً لكنها تكاثفت دلالياً في إبراز الوجه المشرق لأبطاله التنويرين القادرين على إدانة انكسارات الحاضر، والنهوض من جديد.