Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    25-Jul-2014

كاريزما الجنون الممكن -د.احمد جميل عزم
 
الغد- (مناسبة هذا المقال كلمة رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، خالد مشعل، يوم الأربعاء الماضي، في شأن حرب غزة).
تستهويني دائماً رغبة لا تتماشى مع الحذر من تقديس الأفراد والقيادات؛ إذ أود لو أعلّق على جدارٍ يخصني صور ثلاثة أشخاص، أو أربعة. أوّلهم، خليل الوزير (أبو جهاد)، وبجانبه صورة أحمد ياسين، ثم جورج حبش، وأحياناً أفكّر بصورة لأحمد الشقيري. وهذا ليس تأييداً لكل ما فعلوه، إذ بصفتي "مواطنا" وإنسانا عربيا، أسمح لنفسي بالاختلاف مع أي شخص مهما كان كبيراً، ولكن يأسرني أنّهم "بنوا من حجرٍ سقف السماء". 
الفتى خليل الوزير (1935-1988)، اللاجئ من الرّملة، قبل أن يعيش مراهقته، كان يُشكّل مجموعاته الفدائية، ويبلور لها فِكراً، ويصنّع عند الحدادين في غزة منتصف الخمسينيات، أسلحة المقاومة. كما كان يرسم خرائط العمليات، حتى إذا ما اعتقلته حينها السلطات العربية في غزة، ابتلع أوراقه بحبرها لئلا يُكشف أمره. ثم بلورَ مع آخرين، بعضهم لا نعرفه، نظريّة الثورة والوطنيّة. كان شأنه شأن الثلاثة الآخرين؛ يصنعون "كل شيء" من "لا شيء". 
صنع الوزير وآخرون "فتح"؛ ثورةً تعطي الإنسان: هوية، ووطنا، وتنظيما، وأغنية، وتكشف له ثوبة الكنعاني، وتجعله مؤهلا لأن يُحبّ؛ جعلَت المخيّم لسنوات مجتمعا نضاليّا حميما، وأعطت الشاب رجولةً تُؤَهِلهُ للغزل بعيني حبيبته. وقبل الوزير، كان حبش (1926-2008) اللاجئ من اللد الشهيرة بعِناد أهلها، طالبا يدرس الطب في الجامعة الأميركية ببيروت، وينشئ حركة القوميين العرب؛ تُجنِّد الشباب العربي في كل قُطر، وتبعث جزءاً من روحنا القومية والعروبية. ثم تبلورت الحركة إلى "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". أمّا "الياسين" (1936-2004) الذي ولد قريباً من عسقلان، فهو تجسيد انبثاق الفينيق. لم يصنع شيئاً من عَدَم كالآخرين، فهو ابن جماعة متبلورة، ولكنه استطاع تثويرها، وقادَ صُنع تنظيم، وتجنيد، وتعبئة، وتمويل، وإسناد في كل مكان. وقبل هذا هو الفتى الذي أصيب بالشلل والإعاقة الحركيّة، فتسامى على كلّ هذا كالمنبثق من تحت الرمّاد. أمّا الشقيري (1908-1980)، المحامي من عكا، فقد التقط كلمة عابرة قالها قادة عرب عن تفعيل دور الفلسطينيين، فصنع منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، وتحولت إلى كيان وكينونة. 
لم يكن ياسر عرفات ممسكاً بزمام اللغة العربية ومخارج الحروف والبيان، بل كُنّا نرى في سنواته الأخيرة مساعداً له يقف خلفه كأنّه يلقّنه. ولم تكن كُل سياسات عرفات موضع إجماع. ولكنه كان يصنع كاريزما خاصة وهو يحشد الجماهير بشعاراته، بغضبه، بدموعه، بكوفيته، بنزوله إلى قدم جريح الثورة يُقبّلها، وتبَنيه عشرات الأيتام. وطور من اختلاطه مع الشعب ومعايشته، بلاغة غريبة فيها أذكى التعليقات، والسخرية، والتحدي. وجوده مع الناس كان حدّ دخول الأراضي المحتلة العام 1967 ليفجّر انتفاضة، وحدّ مجيئه متخفيّا عبر البحر العام 1983 ليقف مع جنوده في معركة طرابلس، وحدّ جلوسه على كرسي متواضع في مقره في رام الله، يتحدى العالم حدّ الاستشهاد. 
عندما تحدّى عرفات العالم أول وآخر حياته، كان سلاحه الأهم هو الشعب. وهو السلاح الذي واجه به مذيعة تلفزيونية شعر أنّها تسيء له، فصرخ وسألها ما إذا كانت قد رأت الشعب الفلسطيني وهو ينزل إلى الشارع (في انتفاضة الأقصى) للالتفاف حوله في وجه دبابات الاحتلال. 
"السياسة فن الممكن": تؤدي قواعد تحليل السياسة والواقعيّة وفق حسابات المكاتب والجلسات والمفاوضات المغلقة، ووفق حسابات الاقتصاد والحكومات والجيوش النظامية، إلى "عقلانية" تصل حدّ "التردد"، تبرر بعبارة "فن الممكن".
"الثورة صناعة الممكن": هناك نهج آخر ليس رومانسيّة واهمة. ففي علم العلاقات الدولية أيضاً هناك ما يسمى "الفاعلون غير الدول" (non-state actors)، وهناك شيء اسمه "الحرب اللامتماثلة" (asymmetric warfare)، وهذه وغيرها يمكن أن يكون الشعب محورها. 
في الدولة، على الرئيس أن يحمي شعبه. وفي الثورة والتحرر، عليه أن يُثوّره ويقوده ويحميه ويصنع منه ذخيرته. 
مع الاحتفاظ بحق أي إنسان في الاختلاف معه، ومع كل الدموع والألم على ضحايا غزة، قد يكسب مشعل نقاطاً كثيرة، وهو يقول: نحن ضحية، ولكننا لسنا ضحية تستقبل الصفعات وفقط، بل نرد وننتصر.