Thursday 18th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    01-Oct-2021

زكريا أوزون وجناية سيبويه على النحو العربي

 الدستور-إبراهيم خليل

 
اعتاد كبار اللغويين، وشيوخ النحاة، من أمثال أبي العباس محمد بن اليزيد المعروف بالمبرد(285هـ) على وصف كتاب سيبويه (180هـ) في النحو بالبحر، فإذا عرض لهم من يحفظه متنًا وشرحًا، قالوا له: وهل ركبت البحر؟ لأن في ركوب البحر الكثير من المخاطر، لما يعرف عن موجه من تلاطم، وعن أوضاعه من اضطراب بين حين وآخر، ومن تفاقم. وذلك، يقينًا منهم، أن في كتابه الإجابات القاطعة، والحجج الساطعة، عن جل ما يعرض لدارس النحو من مُشكلات، ولطالب الخوض فيه من معضلات. لذا حظي كتاب سيبويه المذكور من لدن المتقدمين، والمحدثين، على السواء، بالعناية، والاهتمام. فعكف عليه المحققون، والشراح، والدارسون، فتناولوه فِرقًا وآحادًا. ووصل عدد المؤلفات المنشورة عن هذا السفر الكبير(1) رقما لا يتخيله القارئ، فهو يتجاوز المئات عدا الرسائل والأطاريح الجامعية والبحوث التي لم يتح لها النشر في كتب.
 
فهذا باحثٌ يعرض لما فيه من مسائل البديع والبيان. وذلك يعرض لما فيه من توسع، أي من خروج على الاستعمال الافتراضي للكلم إلى غيره عن طريق المجاز، والاستعارة، وما شابه ذلك من أساليب الانزياح، والانحراف عن المعيار. وآخر يتناول فيه التقديم والتأخير، ووجوب أحدهما في حالات، وجوازه في حالات. ومنهم من يتناول ما فيه من إشارات للسؤال المقدَّر الذي يساور السامع المتلقي منتظرًا من المتكلم أن يجيب، ولو أن ذلك لا يجري إلا على وجه التوقع، و الظن، لا على وجه اليقين. فتبادل الكلام ما هو إلا حوارٌ افتراضيٌ بين متكلم وسامع، أو كاتب وقارئ، فهو سلسلة من الأسئلة والإجابات. مما يقرّب آراءَه من هذه الناحية لأراء التداوليين. ومن الباحثين من يتعمَّد البحثَ في مفهوم الجملة لديه، وانعدام التفريق بينها وبين الكلام، فهو يشترط الإفادة تارةً، ويتحلّل منها تارةً أخرى. مع توكيده المتكرر لوجوب توافر المسند والمسند إليه في جل ما يُعدّ من الكَلِم جملةً. وغياب أحدهما لفظا لا يعني انعدامه وجودًا، فهو موجودٌ على أيّ حال من باب التقدير، لدلالة الحال، أو المقال، عليه.
 
ومن الدارسين من يتوقف عند منهجه في النحو.
 
وفي هذا تباينت الآراءُ، واختلفت الاجتهادات والأهواء. فمنهم من يعدهُ وصفيًا لا معياريًا، لتوافر إشاراته للمسموع عن العرب الفُصحاء، ولبعده اللافت عن التشدد في القياس. ومنهم من يعده معياريًا لا وصفيًا لسبب آخر، وهو كثرة ما في كتابه من تعليلات دقيقة، متكلفة، تقترب به من التفلسف، والمنطق العقلي، وإن كان هذا التوجه في كتابه أدنى درجةً، وأقلّ تركيزًا، من توجّهه السابق.
 
ومنهم من يلحُّ على أن سيبويه سبق إلى ما يعرف بالتداول اللساني معيارًا للفهم، والإفهام، مقتربًا مما يعرف بنظرية « أفعال الكلام « عند جون أوستن، وغيره. أما موقفه الواضح من نظرية سياق الحال، وهي نظرية لغوية تجمَعُ إلى الوصفيّ، والتداوليّ، البعدَ الاجتماعيَّ للسان، وارتبط ظهورها باسم البولندي برونسلاف ميكاروفسكي، أحد لغويي حلقة براغ، وجون روبرت فيرث أحد لغويي مدرسة لندن، فيُظن أن سيبويه لم يكن غافلا عن هذا النظر، ولم تعزُب عن باله هذه الفكرة التي تجلت في كتابه من غير وجه، وفي غير باب.
 
أما وقوفُه عند الجملة الفرعية في العربية، فقد اقترب به من أفكار اللساني الأمريكي نوم تشومسكي. إذ تحدث عن الجملة الأساسيّة، أو رأس الجملة، تليها الجمل الأخرى التي ترتبط بها بعلاقة نحوية كالعطف والوصف، والإدماج، والصلة، والحالية، والإضافة، والمفعولية، وكاد يقتربُ، في تفصيله هذا، من القول بما سماه تشومسكي البنى العميقة، والسطحية (البرانية) للجملة، وهو، وإنْ لم يستخدم هذين المصطلحين، فإنّ شروحه تكاد تقول بهما تلميحًا من غير تصريح. وتوقَّف بعض الباحثين إزاء مذهبه في تفسير التبدُّلات النطقية التي تطرأ على الأصوات، وهو في هذا أول من بحث في التغيير الفونولوجي الذي يقع للمهموس فيغدو مجهورًا، والمجهور يغدو مهموسًا، والمنفتح يلفظ طبقيًا، والاحتكاكي يلفظ وقفيًا من غير حبْس للنفس، والأنفي يلفظ شفويًّا، ولم تفته ملاحظة التماثل الذي يقع لشبه الصامِتْ الخلفي مع الأمامي، على النحْو الذي وجدَهُ في سيّد وجيّد، فأصْلهما سيْوِد وجيْوِد، وهذا كلهُ، وأضرابُه، مما عرض له في أبواب الإعلال، والإدغام، والقلب(2).
 
 
 
 بين الجاني والمجني عليه
 
وكان قدْ وقع بين يديّ من زمن غير قريب كتابٌ بعنوان جناية سيبويه، لمؤلفه زكريا أوزون – أظنّه سوريًا- وفي عنوانه الفرْعي تصريح بمحتواه، و بيان بفحواه، ودلالة على مرماه. وهذا العنوان هو الرفض التام لما في النحو من أوهام. وقد غفلتُ عنه مدة لم أقرأ منه شيئا لعلمي بتهافت دعواه، وسوء نواياه، وفي الأيام الماضية اضطرتني محاضرة عن نهج الأوائل في وصف العربية للرجوع للكتاب، فإذا هو كتابٌ رديءٌ ينمُّ على جهل صاحبه بالنحو، أولا، وعلى بعده عن اللغة وعالمها من جهة ثانية. فأبرز ما يطرحه أوزون في كتابه (دار الريّس، بيروت2002) يمكن اختصاره في:
 
قواعد النحو لدى سيبويه تفتقر إلى المنطق العقلي
 
تراجع منزلة اللغة العربية لدى الناطقين بها ولدى غيرهم سببه تلك القواعد.
 
لا علاقة لعلامات الإعراب بالمعنى لذا يقترح إلغاء الإعراب.
 
نظرا لتراجع العربية يقترح إحلال العامية بدلا من الفصحى.
 
القرآن الكريم للتعبد فحسب
 
ومن الأمثلة على أغلاط النحاة :
 
تسمية الأداة مثل: في، وعن، ولم، حروفا
 
تصنيف الجملة الاسمية بصفتها الجملة التي تبدأ بالاسم فهذا في رأيه خطأ
 
يرى في كلام النحاة وعلى رأسهم سيبوية عن المجرد والمزيد كلاما غير دقيق.
 
لا يتفق مع النحاة في أن الأسماء مثل محمد وسعيد معرفة بل هما نكرتان.
 
النون بثبوتها، أو حذفها، وكذلك الصائت الطويل، ليسا علامتي أعراب.
 
لا يعترف للنحاة بصحة قولهم بزيادة (ما) في [مثلا ما بعوضة].
 
والواقع أنّ ما يذهب إليه المؤلف أوزون في النقطة الأولى على النقيض تماما مما يُتّهم به سيبويه وغيره من كبار اللغويين، والنحويين، فإن الذي دأبوا عليه، واعتادوه، هو كثرة التعليلات المنطقية إلى الحد الذي اتهموا فيه بشدة تأثرهم بأرسطو، وادعائه أنّ لكل عمل لا بدّ من عامل، فكان حديثُهم عن العوامل من لفظية ومعنوية، وعن المعمولات: من مرفوعات؛ ومنصويات؛ ومجرورات؛ ضربًا من المنطق الأرسطي، فكيف يدعي هذا المؤلف أنَّ قواعدهم تفتقر للمنطق؟ ولا نبالغ إذا قلنا: إن من أكبر الأوهام التي عشَّشت في رؤوس النحاة هو المنطق الذي يزْعم افتقارَهم إليه، وحاجة قواعدهم له. أما زعمه عن تراجع العربية وعزو ذلك للقواعد، فهذا شيءٌ قيل منذ زمن بعيد، وقد تردد ذكره في مقدمة ابن خلدون، وفي دعوات بعض اللغويين المحدثين من أمثال أنيس فريحة وغيره. والصحيح أن لهذا التراجع أسبابًا كثيرةً أقلها أثرًا هو النحو. وهذا المقال لقصره لا يتسع لبيان هذه الأسباب، ونقتصر على التذكير بأن تخلف المتكلمين بالعربية في مجالات العلوم المختلفة هو سبب ذلك، لأن التقدم في العلوم على اختلافها يُعزّز مكانة اللغة، ويضعها على قدم المساواة مع اللغات الأخرى. ولو قمنا على سبيل الافتراض بتنفيذ ما يدعو إليه أوزون، فهلْ ستغدو العربية- فجأة - بمستوى الإنجليزية انتشارا، ووفاءً بمستلزمات التقدم العلمي، والتقني؟ لا أظنّ المؤلف يجيب عن هذا السؤال بغير لا، إلا إذا كانت المناكفة طبعًا من طباعه، وسجيَّة من سجاياه. وقوله بنفي العلاقة بين علامات الإعراب والمعنى قولٌ ليس جديدًا، فهو مسألة من مسائل الخلاف التي عرض لها ابن الأنباري في الإنصاف(577هـ). وهذا هو رأي أبي علي محمد بن المستنير المعروف بقطرب (206هـ). فالمؤلف لم يأتِ - ها هنا – بجديد، ولا فضل له في ذلك سوى فضل الاختلاس. وأما دعوته لإحلال العامية محل الفصحى، لا في التخاطب اليومي بين عامة الناس فحسب، وإنما لجعلها لغة العلوم، والكتابة، فهذه دعوة قديمة جدا. ومن الداعين لها قادة استعماريون، ومستشرقون، وعرب أقحاح. وقد برزت هذه الفكرة في مصر على أيدي كل من وليم ويلكوكس، ويلمور، وهما مندوبان ساميان للحكومة البريطانية على مصر. وقبلهما ولهلم سبيتا الألماني. وتضاعف الداعون باختلاف الأصول والمنابت، إلا أن هذه الدعوة لم يكتب لها، لا النجاح، ولا القبول. وقد أوضح محمود شاكر في « أباطيل وأسمار « افتقارها لما يسوغ القبول بها، فضلا عن أنها دعوة مشوبة بالأهداف الاستعمارية. أما اللغويون، من أمثال تمام حسان، وإبراهيم أنيس، وكمال بشر، ومحمود السعران، وعلي عبد الواحد وافي، وداود عبده، وغيرهم.. فقد استندوا لقرائن كثيرة لغوية تؤكد افتقار اللهجات العامية للمتن اللغوي الذي يسْمح للكاتب بالتأليف دون الاعتماد على الفُصحى. وأثبتَتِ التجارب أن المحاولات التطبيقية لذلك كانت في الأعمّ منها تتحول من العامية للفصحى، وكتاب المسرح، والشعراء، الذين دأبوا على كتابة نماذج أدبية بالدارجة، يتحدثون عن أعمالهم، وآثارهم، بالفصحى، لا بالدارجة. ويذكر في هذا المقام أن يوسف الخال نشر في مجلة شعر قصيدة بالعامية اللبنانية، ولكنَّه لم يعد إليها، ولا يعرف عنه إلا أنه شاعر بالعربية الفصحى، لا بالعامية. فمن الناحية اللغوية لا تستطيع الدارجة الوفاء بما يحتاج إليه التعبير عن المعاني اللطيفة، والأفكار المجردة، لهذا لم تجدْ الدعوة المذكورة إلا الإخفاقَ تلوَ الإخفاق.
 
تبقى نقطة أخيرة، وهي زعمُه أنّ القرآن كتاب للتعبد فقط، ولكن ما الخطأ إذا اتخذ - مع ذلك- كتابا يتجلى فيه اللسان العربي بمقوماته وأنظمته ولهجاته وقواعده؟ وهل يتنافى التعبُّد مع كونه مرجعًا للصواب، ومصدرًا للاستقراء اللغوي والنحوي، واقتباس الشاهد الصحيح منه إلى جانب الحديث، والشعر العربي قديمه ومتأخره؟ إنّ ما يأخذه المؤلف أوزون من أغلاط لدى النحاة كتصنيفهم الجملة، أو تسمية الأدوات حروفا، أو الخلط بين النون من حيث هي صوت فونيمي وعلامة إعراب، أو قولهم بالزيادة في الأفعال من نحو فعل وأفعل وفاعل وتفاعل وافعوعل، أو الزيادة بالحروف مثل (ما) في قوله تعالى ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة) فإن تعداده لمثل هذه الأغلاط- لو صحّ أنها أغلاط - ينمّ على جهله بالنحو . ولو كان المؤلف على بينة مما يقول لأخذ عليهم ما هو أهم من هذا، كقولهم مثلا إن الاسم المنادى منصوبٌ بفعل تقديره أنادي أو أدعو. أو قولهم إن إذا الشرطية لا تدخل إلا على الأفعال، ولهذا تأولوا قوله تعالى (إذا السماء انشقت) فقالوا الأصل إذا انشقت السماء انشقت.. لو ذكر مثل هذا لكان على بينة من مشكلات النحو الكبرى لكنه يتوقف بنا عند مسائل في غاية البساطة. فتصنيف الجملة تصنيفٌ شكلي لا تترتب عليه تأويلاتٌ بعيدة. وتسمية الأداة حرفا تسمية مردها للمعنى المتعدد الذي تدل عليه الكلمة، فالحرف في العربية يعني الصوت الهجائي، ويعني الكلمة التامة، ويعني اللهجة أيضًا، ولذا قيل أنزل القرآن على سبعة أحرف، وفُسِّر ذلك على سبع لهجات. والحرف هو الحد الفاصل بين شيئين، قال تعالى ( ومن الناس من يعبد الله على حرفٍ فإنْ أصابه خيرٌ اطمأنَّ في مكانه). أما المزيد في الصيغ الصرفية كفعل، وأفعل، وانفعل، فهو قولٌ ناتج عن استقراء، فالفرق بين كتب وكاتب هو الألف، فهي- إذًا - زيدت على كتب لبناء صيغة جديدة. وهذا موجود في جل اللغات التصريفية والاشتقاقية وحتى في اللغات الإلصاقية؛ ففي الإنجليزية يقولون من take وهي فعل مجرد taking ويقولون في صيغة أخرى taken والكلمتان الأخيرتان زيدت في كل منهما زيادة تؤدي لتوليد صيغة صرفية جديدة من الجذر المجرد الذي هو take. فما الخطأ الذي ارتكبه النحاة إذا قالوا إن كتَبَ تصبح يكتب وتصبح كاتِبْ، وتصبح كاتَبَ، وأنَّ هذه الحروف إذا جرّدت منها الصيغ المذكورة عادت إلى أصلها من حيث أنها فعل ثلاثي. أما قوله عن الزيادة عند النحاة وأن حذفها لا يؤدي إلى نقص في المعنى، فهذا لم يقل به النحاة، وإنما هو من لغْو بعض المفسّرين، فعند النحاة كل زيادة في المبنى تتبعها زيادة في المعنى.
 
صفوة القول هي أنَّ ما جاء في الكتاب جناية سيبوية لا ينمّ إلا على جهل في اللغة، والنحو، ومن المؤسف أن نجد من ينشره دون أن ينظر فيه لتقرير ما إذا كان محتواهُ مما يصلح للنشر، أم لا يصلح.
 
 هامشان:
 
1.انظر في ذلك كوركيس عواد، إمام النحاة في آثار الدارسين خلال اثني عشر قرنا، ط1، المجمع العلمي العراقي، بغداد،1978
 
2.انظر ما كتبناه بعنوان: سيبويه والتغيير الفونولوجي في صوائت العربية وصوامتها، مجلة دراسات- العلوم الإنسانية، مج 29، ع 1، تشرين الثاني، 2002 ص 157 – 169