Tuesday 16th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    30-Nov-2018

دور اللغة في الخطاب القرآني - د. هاشم غرايبة
 
الغد- ما دفعني الى طرح هذا الموضوع هو الإستغراق المريب في الحديث عن أن النصوص القرآنية تعتمد على الخطاب البلاغي في ابهار القارئ أكثر من الإقناع، وكان أشار الى ذلك ابن رشد قديما، لكنه قاله انبهارا ببلاغته، وليس إقلالا من شأن خطابه للعقل، لكن المغرضين الذين ما كانوا ليجرؤوا على التعرض للقرآن العظيم إلا بحيلة نقد التاريخ ، وجدوا في ذلك بابا نفثوا من خلاله أحقادهم، فذهب بعضهم في أفكاره (النقدية!)، الى البناء عليها لتجريد الإسلام من مرتكزه العقدي الأول وهو العقل، وتبع هذا المنهج من شايعه ممن لبسوا مسوح محبة الإسلام تقية، وادعوا أنهم يسعون الى تنقيته من الخرافات لتطوير فهم جديد عصري له، ممن كانوا يستخفون عنا برداء (النقد الهادف إلى المواءمة مع العصر ومفاهيمه)، لكن ما يكشف نواياهم أنهم في كل ذلك ظلت عيونهم معلقة على المانحين والداعمين الغربيين، تتلمس رضاهم عما ينفثون، ينتظرون عطاياهم من الجوائز العالمية، ويرومون الشهرة والمغانم جراء ترجمة أعمالهم ونشرها. 
سأبدأ بدحض الحجة التي بنى عليها هؤلاء إدعاءهم، وهي اعتماد القرآن إبهار الخطاب البلاغي كأساس للإقناع:
1 – إن القرآن نزل على قوم يُنزِلون الفصاحة والبلاغة منزلة عالية، فلا يعقل أن تأتيهم نصوص إلهية تحمل في ثناياها أصول العقيدة والتشريع والإخبار، إلا بدرجة متفوقة كثيرا على ما يعرفونه من فنون البلاغة، لكن ذلك التفوق يجب أن لا يتعدى قدرتهم على فهمها.
2 – إن اللغة هي وعاء الفكر، تحمله وتوصله ولا تُنشِئُه، لذا كانت اللغة الرفيعة خادمة للغرض، ومتناسبة مع المعاني التي تحملها.
3 – كان من دواعي استعمال اللغة الباهرة البلاغة، دحض حجج من سيقولون أن القرآن جاء به "محمد" صلى الله عليه وسلم، سواء كان ذلك من أفكاره أو نقلا عن غيره، فقد عرفوا حديثه وفكره أربعين عاما، ولم يكن فيها شيئا يقارب القرآن لغة ولا موضوعات " قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا  مِّن  قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" [يونس:16] .
4 – لم يدخل أحد الدين بفعل انبهار ببلاغة القرآن اللغوية بل بحججه العقلية، ولو أن ذلك الإدعاء صحيحٌ لكان الوليد بن المغيرة آمن بعد أن طلبت منه قريش شهادته بالقرآن، إلا أنه (وهو الضليع باللغة وفنونها) قدم شهادته المعروفة: " والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الأنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وأنه يعلو وما يعلى عليه"، لكن كل ذلك الإنبهار، لم يغير شيئا من تعصبه المضاد لهذه الدعوة.
5 – المكابرة والموقف المسبق والتعصب المضاد، كلها حواجز تحول دون وصول الفكرة النقيضة الى العقل، فيما تشكل المصلحة والنفع الدافع الرئيس في بناء المواقف، فيما يميل المرء الى تسخير قناعاته العقلية وتطويعها بحيث لا تتشكل ازدواجية في موقفين : عقلي ومصلحي، بل تتغلب المصلحة فهي إما تحيد العقل وتسكته لكي لا تحدث معاناة وقلق داخلي جراء الصراع بين العقل والهوى، كما في حالة الوليد بن المغيرة، الذي أسكت عقله واتبع مصلحته في البقاء مع صف قريش الأقوى والأنفع، أو يطوع العقل لخدمة مصلحته وهواه، كما في حالة طه حسين ورهطه ومريديه، فلا يأخذون من التاريخ ولا يفسرون أحداثه إلا وفق ما يعزز مآربهم ويقوي ذرائعهم في التنكر للصفحات المشرقة فيه.
وأخيرا فالقرآن ليس مجرد خطاب، إنه كلام الله، ودرجة فضل كلام الله على كلام غيره، كدرجة التفاضل بين الخالق والمخلوق، وقد كان نزول القرآن باللغة العربية البليغة توافقا بديعا بين فخامة الوعاء وجلال قدر المحتوى، بدليل أن القرآن لا يمكن أن يترجم الى لغة أخرى، فلا يمكن ترجمة (قرآنيته)، بل تترجم معانية ومدلولات ألفاظه فقط.
هكذا تبين لنا أن القرآن الكريم ليس مجرد خطاب كما يعتقد من يُكذّب به، فهو شيء يجل عن الوصف، ولو استطاع بليغ العرب "الوليد بن المغيرة" أن يجد توصيفا أبلغ من قوله إنه ليس ككلام البشر ولا الجن قاله.
الوصف الأدق الذي يصدق فيه هو أنه كون ناطق، فالكون الفائق تكوينا وأداء يبين لنا بصمت عظمة وقدرة من خلقه ، لكن القرآن يقوله لنا ببيان مذهل، يعني ذلك أيضاً أنه يحتوي على ما نعرفه وما لا نعرفه، يفسر لنا ما أراد الخالق أن يفتحه علينا من علمه المطلق، فيبين لنا من أسرار خلقه ما يمكننا أن نستوعبه بفهمنا النسبي، وبلا أدنى شك فالنسبي لا يمكن أن يحيط بالمطلق، فهو بالنسبة الى المطلق مثل نسبة أي رقم الى المالا نهاية، فمهما تضخم وبلغ عدد الأصفار التي على يمينه، فإنه لا يبتعد عن الصفر إلا قليلا.
إذا فهو خطاب للعقل وليس للغرائز، كما أنه ليس دغدغة للرغبات والمصالح، فالكلام يقوم بأشياء ثلاثة: لفظ حامل ومعنى به قائم وربط لهما ناظم، في هذه العناصر الثلاثة تكون البلاغة، لكن الإبهار ليس هو المبتغى ، بل هو بكافة جوانبه البلاغية والعلمية والنفسية ما هو إلا وسيلة لفتح بوابات بعض العقول الصدئة، والتي لا تنفتح إلا بهزةٍ للوجدان صادمة.
وسأبين فيما يلي كيف تستخدم البلاغة في الوصول الى العقل:     
1 - أهم ما يميز الخطاب القرآني هو قدرة البشر على اختلاف ذكائهم وثقافاتهم على فهمه، فهو يخلو من التراكيب المعقدة، ولا يستعمل الألفاظ غير المطروقة، والتي كانت السمة الأدبية لذلك العصر " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" [القمر:22]، والملاحظ أن هذه الآية بالذات تكررت أربع مرات في هذه السورة، وفي ذلك التكرار طرق صارخ على بوابة العقل لإعماله في فهم آياته، ولا حجة لقارئه بصعوبة ذلك، لأن الله سهّل لفظه ويسّر معناه لمن أراد معرفته وفهمه. 
وإثباتا لذلك أنك تجد صغار السن وغير الضليعين باللغة، يحفظونه بسهولة أكبر من حفظهم للنصوص البشرية التي هي أبسط كثيرا، وهذه ميزة لا توجد في غيره، لأن حفظ أي نص غيبا لا يمكن أن يبقى راسخا في الذاكرة إن لم يكن مربوطا بصور مختزنة في الذاكرة، وذلك لا يتم إلا بفهم المعاني، ورغم أن الألفاظ جزلة منتقاة وليست من اللغة الدارجة، إلا أنها تمتلك خاصية الفهم المتدرج، أي يفهمها المرء على درجات تبدأ بالفهم الأولي على ظاهر المعنى، ثم تتعمق كلما توسعت مدارك المرء العقلية واغتنت ثقافته، لذلك جاء الحث على دوام تلاوة القرآن بلا حساب لعدد المرات بقصد التفكر والتدبر، وهذا الأمر يدركه المرء بالممارسة، فمهما أعاد المؤمن قراءة آية، إلا أنه يجد في كل مرة معنى جديدا أو فهما أوسع مما كان يعرفه سابقا، أي أنه يرتقى بفهمه درجة، ولا يتوقف هذا الإرتقاء أبدا، الأمر الذي لا تجده في أكثر النصوص الأدبية بلاغة، فلو قرأت قصيدة للمتنبي مثلا ستفهم مغزاها من المرة الأولى، ولن تحتاج إعادة البحث مرة أخرى فيها.
2 – إن الخطاب لا يستعمل لغة واحدة، بل لكل فئة خطابها الخاص، فهنالك خطاب عام لكل البشر: "يا أيها الناس"، وخطاب مخصوص بالإنبياء وآخر بالمؤمنين، وخطاب منفصل لأهل الكتاب، وحتى للمنافقين فهنالك أيضا خطاب لهم.
والملاحظ هنا أنه لا يوجد خطاب للمشركين ولا للكفار، وهذا منطقي لأن من لا يؤمن بالقرآن على أنه كلام الله فلن يقرؤه بهدف الفهم والإتباع، فلا جدوى من توجيه الحديث له.
3 – الإعجاز العلمي في القرآن، لم يأت بهدف إقناع العقل، بل استخدم المنطق، وأدواته كثيرة مثل: المحاججة العقلية بالآيات القرآنية مثل محاججة النمرود، والإستدلال:  فبما يرونه من دقة آيات كونية، يستدلون على وجود مالا يرونه الذي هو خالقها الحكيم ، وبالاستنتاج يقتنعون بوجود رب مدبر يرعى مخلوقاته، ومن ملاحظة الآيات التكوينية مثل التآم الجروح وجبر الكسور وشفاء المرضى، والتي تتم ذاتيا من غير تدخل خارجي.
لقد جاءت آيات الإعجاز العلمي لتخدم خاصية بقاء هذه النصوص والتي رغم ثباتها بلا تبديل، إلا أنها متحركة بفعل حملها لعدة طبقات معرفية، وتظهر كل طبقة في الأوان الذي يتقدم فيه فهم الإنسان للمعرفة الجديدة، فبذلك تبقى حاجة الإنسان للتأمل والتفكر فيه قائمة أبدا، لأن معارفه متصلة بالمعرفة المطلقة التي لا تنفذ.
" قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا" [الكهف:109].