Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    16-Jun-2020

الخطاب البلاغي العربي الحديث والبلاغة الموسعة

 القدس العربي-ياسين الشعري

يسعى محمد مشبال في كتابه «عن بدايات الخطاب البلاغي العربي الحديث ـ نحو بلاغة موسعة» الصادر في طبعته الأولى سنة 2020، عن دار كنوز المعرفة في الأردن، إلى عقد حوار مع الخطاب البلاغي العربي الحديث في الفترة الممتدة بين أواخر القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، ممثلا في لويس شيخو وجبر ضومط ونقولا فياض وخليل إده اليسوعي ومحمد عبده ورشيد رضا وأمين الخولي وأحمد حسن الزيات وأحمد الشايب.. ليكشف عن تصوراتهم للبلاغة، منطلقاً من افتراض أساس، يَعتبِر هذا الخطاب شاملا للخطابين التخييلي والتداولي، وغير حاصر للتأثير البلاغي، في ما هو أسلوبي، بل يمتد به إلى مكونات أخرى كالمكون الحجاجي والمكون النوعي، ومستثمراً مفاهيم البلاغة الجديدة، بأصولها اليونانية واللاتينية عُدةً نظرية ليكشف عن تصور البلاغيين المحدثين للبلاغة، خدمة لمشروعه البلاغي القائم على توسيع البلاغة العربية وإخراجها من حيز الاختزال إلى فضاء الرحابة، حيث يواصل في هذا الكتاب مساءلة التراث البلاغي، وتطوير ما سبق أن أشار إليه في كتبه السابقة، على رأسها «مقولات بلاغية في تحليل الشعر و«البلاغة والأصول ـ دراسة في الأسس البلاغية عند ابن الجني» و«البلاغة والأدب – من صور اللغة إلى صور الخطاب».
ينهض الكتاب على أسئلة تتوخى إعادة النظر في الخطاب البلاغي العربي، الذي استحوذت عليه القراءات الجمالية والأدبية، التي أعمت الباحثين عن تبصر بلاغة الحجاج في هذا التراث، فأهملوا بالتالي تراثا بلاغيا زاخرا، واهتموا – في مقابل ذلك- بالشروح والتلخيصات والمصنفات البلاغية، التي تعزل البلاغة ومفاهيمها عن النص وسياقه النوعي، وتكتفي فقط بتقديم شهود وأمثلة مقتطعة، على هذه المفاهيم، تكاد تكون مكررة ونمطية، وتتشابه بين كتاب وآخر. أدى فعلهم هذا إلى اختزال البلاغة وتقزيمها، في مبحث الأسلوب أو العبارة، وحرمانها من مناطقها الأخرى. ويمكن التوقف عند خصوصيات الخطاب البلاغي العربي الحديث، انطلاقا من الصورة التي قُدِّم بها في هذا الكتاب في ما يأتي:
 
1 ـ البلاغة من الاختزال إلى الرحابة:
 
ناقش الباحث في الفصل الأول من الكتاب مفهوم البلاغة، عند مجموعة من الباحثين، الذين ينتمون إلى هذه الفترة، ليتوصل إلى أن مفهومهم للبلاغة يتراوح بين ثلاثة تصورات هي:
*تصور يدمج التخييل والحجاج في إنتاج الفعل البلاغي، باعتباره فعلا تأثيريا يروم الإقناع، أي أنه يحدد البلاغة تحديدا تداوليا حجاجيا، ويستبعد التصور الجمالي الخالص، الذي هيمن على التفكير البلاغي العربي منذ تلخيصات القزويني وشروحاته على «مفتاح العلوم» للسكاكي، فهذا التصور يرى الأسلوب اقتدارا وظيفيا وليس شكليا.
*تصور يفصل التخييل عن الحجاج، ويحصر البلاغي في ما هو جمالي، وأبرز من يمثل هذا التصور أمين الخولي، الذي دافع عن البلاغة الأدبية وانحاز لها، في مقابل ذلك خاصم الحجاج، فكان تصوره جماليا خالصا، لكن هذا لا يعني أنه كان يميل إلى الأخذ بالبلاغة الأسلوبية الضيقة، وإنما وسع من دائرة الأسلوب، وانتصر لمقاربة بلاغية تتخلص من رهاب التصنيف، وتبتعد عن استخدام أدوات المنهج المنطقي، وأدوات المقاربة التعليمية، وعمل على إعادة ربط البلاغة بالأدب، وتخليتها من المناهج غير الأدبية، التي حولتها إلى معرفة منطقية موضوعها الحجج والاستدلالات.
*تصور يدافع عن الأدب بمفهومه التخييلي، منطلقا من مفاهيم بلاغة الحجاج، يمثل هذا التصور أحمد حسن الزيات وأحمد الشايب، اللذان لم يراعيا الفروق بين ما هو تخييلي وما هو تداولي، فأسقطا مبادئ بلاغة الحجاج على الأدب، التي اكتسباها من انفتاحهما على بعض المراجع الغربية الحديثة. يستشف من خلال هذا التصنيف أن البلاغة في بدايات الخطاب البلاغي العربي الحديث، هي بلاغة موسعة، تشمل المكونين التخييلي والحجاجي، فأغلب الباحثين الذين ينتمون إلى هذه الفترة – ما عدا أمين الخولي- أدمجوا، بوعي أو بدون وعي، المكون الحجاجي ضمن تصورهم للبلاغة.
 
لا نجانب الصواب إذا قلنا، إن كتاب محمد مشبال «عن بدايات الخطاب البلاغي العربي الحديث» هو دعوة إلى عقد صلحٍ مع الخطاب البلاغي العربي الحديث، وإعادة النظر في كثير من الأفكار التي نحملها عنه، وتمثُّلِ ما يتميز به من سعة ورحابة، تجعله خطابا متميزا عن الخطاب البلاغي الذي ساد بعد هذه الفترة
 
2 ـ من تصنيف الوجوه الأسلوبية إلى تصنيف الخطاب
 
عمل الباحث في الفصل الثاني من الكتاب على إعادة النظر في حقل البلاغة، من خلال تدبر العلاقة القائمة بين التفكير البلاغي العربي الحديث، وأنماط وأنواع الخطاب، منطلقا في ذلك من فكرة أساس تتمثل في أن البلاغة بقدر ما هي تفكير تجريدي في قوانين الخطاب هي أيضا تفكير تجريدي في أنماط وأنواع خطابية مختلفة. وهذا ما لامسه في الخطاب البلاغي للمحدثين، الذين كانوا على وعي بعلاقة البلاغة بأنواع الخطاب، بناء على المبدأ الذي يربط الخطاب بالمقام، وعياً ترجموه في عنايتهم بتصنيف الخطابات إلى أجناس وأنواع، فلم تعد البلاغة عندهم مقتصرة على الخطابات التقليدية، بل أصبحت تتسع (عند لويس شيخو مثلا) لمجموعة من الأنواع الأدبية (الأمثال المختلقة، الرواية، الوصف، المناظرات، المقامات، التاريخ، المكاتبة، الشعر) والخطابية (الخطاب الاحتفالي، الخطاب المشوري، الخطاب المشاجري، الخطاب الوعظي). أتاح لهم ذلك أن يدركوا أنه بقدر ما هناك من صفات مشتركة للأسلوب في مختلف الأنواع، وهي صفات تجريدية ومتعالية، هناك سمات خاصة بأساليب الأنواع الأدبية المختلفة، تنبع من خصوصيات كل نوع على حدة، لذلك فإن وعي المحدثين بهذا المبدأ (نمط / نوع الخطاب) أمكنهم من معاينة سمات خاصة بكل نوع خطابي، إذ تختلف الأساليب باختلاف الأنواع والأغراض، «فأسلوب القصة غير أسلوب الرواية، وأسلوب العتاب غير أسلوب الشكر، وأسلوب التأثير غير أسلوب الإقناع». وتكشف عناية المحدثين بتصنيف الخطابات، عن اتساع حقل البلاغة عندهم خارج حدود وجوه التعبير والتنسيق وتقنيات الإيجاد، إلى تدبر الخطاب في أنماطه وأنواعه المختلفة، وبذلك «يصبح الوعي بالثوابت والسمات التي تحدد هوية الأجناس والأنواع الأدبية والخطابية، عاملا من العوامل التي يخضع لها ضبط بلاغة النصوص والخطابات التي تنبثق عنها، على نحو ما يخضع لها تقييمها تقييما صحيحا».
 
3 ـ وظيفية الوجوه الأسلوبية في الخطاب البلاغي الحديث:
 
شكّل تحديد وظائف الأسلوب جزءا من الخطاب البلاغي عند المحدثين، الذين لم يكتفوا بتصنيف هذه الوجوه في الأبواب المعروفة، كما دأبت على ذلك البلاغة العربية منذ القزويني، بل تجاوزوا ذلك إلى الكشف عن صلتها بالأنماط والأنواع التي تشكل جزءا من صنعتها، وتحديد وظائفها في سياقاتها الخطابية. فقد كان هؤلاء على وعي بخصوصيات النوع أو النمط الخطابي، فأدركوا أن الوجوه الأسلوبية هي جزء لا يتجزأ من الخطاب الذي يبنى عليها، فهي ليست مجرد حلية تنضاف إليه لتنميقه، ولكنها جزء منصهر في عملية بناء الخطاب وتشكيل بلاغته وصياغة وظائفه، فالوجه الأسلوبي هو وظيفة تتحدد في سياق علاقته، بالمقام الذي يشمل المخاطَب وموضوع الخطاب وغايته ونمطه أو نوعه. يفرض هذا الارتباط تنوعا في الوظائف التي يؤديها الأسلوب وعدم إمكانية حصرها في وظيفة واحدة، لأن وظيفة الأسلوب تتنوع وفق تنوع الخطابات التي ينتمي إليها، وحتى إن تم تحديد وظيفة تجريدية عامة لوجوه الأسلوب ـ كما فعل جبر ضومط ـ فإن انخراطها في نماذج متنوعة من أنواع الخطاب يضفي عليها طابعا خاصا بها، وتكتسب معه وظائف جديدة، محكومة بمقام الخطاب.
ومثلما لجأ هذا الخطاب إلى ربط الوجوه الأسلوبية بنمط الخطاب وتحديد وظائفها، لجأ أيضا إلى تصنيفها، تصنيفا وظيفيا يختلف عن التصنيف التقليدي، قائما على وظائف البلاغة الحجاجية (إفادة وإثارة وإمتاع)، كما فعل لويس شيخو الذي حدد ثلاثة أغراض لمحسنات الخطاب البديعية، هي: تحريك العواطف، وإفادة الذهن والتعليم، وتحسين الكلام. وأدرك أن الوظيفة التنميقية التي يقوم بها الوجه الأسلوبي تكون مطابقة للسياق الذي ترد فيه، وخاضعة لنمط الخطاب «فهي تحمل في هويتها وسماتها الذاتية ما يرشحها لكي تحيل إلى هذا النمط الخطابي أو ذاك».
إلى جانب ذلك، لم يكتف هذا الخطاب بتصنيف الوجوه الأسلوبية وتحديد وظائفها، بل عمد إلى تفسير بلاغتها وتأثيرها وقوتها، معنى ذلك أنه يتجاوز ما هو نظري، إلى ما هو تأويلي عملي، مرتبط بتطبيق الوجه الأسلوبي على الحالات الخاصة، ويكشف عن خصوصيته وارتباطه بالسياق. ذلك لأن التأويل ـ كما يرى الباحث – يعد إجراء ضروريا من إجراءات البلاغة في مقاربتها لوجوه الأسلوب، يفسر بلاغتها، أو يجيب عن أسئلة البلاغة الأساس، ويترجم مبادئها التي ترتكز عليها.
 
4 ـ من الصور الأسلوبية إلى السمات البلاغية:
 
يُعد مفهوما «الإطار النوعي» و«نمط الخطاب» مرتكزين أساسين في الخطاب البلاغي العربي الحديث، الذي يقوم على استراتيجيات خطابية أوسع من الصور الأسلوبية المقننة، تتجاوز بلاغة العبارة إلى بلاغة الخطاب، وهو ما مكَّنَ من مدِّ النظرية البلاغية خارج حدود الوجوه الأسلوبية المقننة، وتوسيع مفهوم الوجه الأسلوبي، وتطويعه مع الخصوصيات النوعية للأنواع والأنماط الخطابية (كما فعل لويس شيخو في بنائه لبلاغة السرد، حيث عمل على توسيع وتطويع مفهوم «الإيجاز» ليستوعب خصوصيات السرد)، وصياغة مجموعة من السمات البلاغية الجمالية والحجاجية (كبلاغة الافتنان، وبلاغة التدرج وبلاغة المقابلة الموسعة، كما فعل جبر ضومط). وبهذا فإن البلاغة في هذا الخطاب لم تعد مقتصرة على الوجوه الأسلوبية الضيقة، بل إن انفتاحها على المقام، ووعيها بأنواع الخطاب وأنماطه، أدى بها إلى أن تكتشف سمات أسلوبية جديدة، وتوسيع مباحث البلاغة والانزياح بها عن البلاغة الموروثة إلى بلاغة الأنواع.
 
5 ـ البلاغة في الخطاب البلاغي
العربي الحديث آلية لتحليل النص:
 
يرى الباحث في الفصل الأخير من كتابه أن الخطاب البلاغي العربي الحديث، لجأ في بعض الأحيان، رغم هيمنة التنظير عليه، إلى استثمار البلاغة آلية للتحليل، كما فعل لويس شيخو، الذي قام بتحليل قصيدة أبي بقاء الرندي في رثاء الأندلس، وهو تحليل أعاد الباحث صياغته، واقترح وصفه بـ«التحليل البلاغي الحجاجي»، نظرا لأن لويس شيخو، استثمر فيه أسس بلاغة الحجاج كما تبلورت مع أرسطو، حيث تمثل فيه الأركان البلاغية الثلاثة (الإيجاد، الترتيب، العبارة)، التي تمثل مراحل إنتاج الخطاب الإقناعي في النظرية البلاغية القديمة، وأعاد صياغتها وتطويعها لتصبح آليات لتحليله، وبالتالي فإن البلاغة لم تعد عنده معرفة نظرية بمراحل إنتاج النص، بل غدت آلية لتأويله… غير أن ما يلاحظه الباحث على هذا التحليل هو أن لويس شيخو، لم يقدم مسوغا نظريا لتطبيقه مفاهيم بلاغة الحجاج على نص تخييلي، ويبرر ذلك بأن البلاغة عنده لم تكن تقبل إجرائيا القسمة بين بلاغة أدبية وأخرى حجاجية.
 
خلاصة:
 
لا نجانب الصواب إذا قلنا، إن كتاب محمد مشبال «عن بدايات الخطاب البلاغي العربي الحديث» هو دعوة إلى عقد صلحٍ مع الخطاب البلاغي العربي الحديث، وإعادة النظر في كثير من الأفكار التي نحملها عنه، وتمثُّلِ ما يتميز به من سعة ورحابة، تجعله خطابا متميزا عن الخطاب البلاغي الذي ساد بعد هذه الفترة، فقد بين الباحث أنه كان شاملا للخطابين التخييلي والحجاجي، إذ تبنى بلاغيو هذه الفترة، ما عدا أمين الخولي، المكون الحجاجي في تصوراتهم، غير أن هذا لا يعني أن الحجاج – حسب الباحث ـ أصبح موضوعا لمقارباتهم البلاغية، بل ثمة فجوة واضحة بين أفكارهم النظرية التي ينطلقون منها، ومقارباتهم التطبيقية للنصوص أو الغايات التي عقدوا لها تآليفهم.