Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    25-May-2018

موسم الخير السنوي - د. هاشم غرايبة
 
 
الغد- ها قد عاد رمضان من جديد، فاستبشرت النفوس التي يعمرها الإيمان، لأنه موسم نوال الجوائز والمكافآت لمن يبتغي الاستثمار والادّخار لحياته الثانية، والتي لن ينفعه فيها مال جمعه ولا بنون أورثهم، فلا يجد له رصيدا هناك إلا ما جمعه وادخره من عمل صالح، أما الذي ألهته أهواؤه عن ذلك، فسيقلب يديه حسرة عندما يلجها وموازين عمله خاوية، ويقول بندم: "يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي".
صحيح أن العمل الصالح متاح طوال العام، لكنه في هذا الشهر أجزل، ومردوده أعظم.
على أن فضائل هذا الشهر لا تقتصر على الحياة الآخرة فقط، بل على الحياة الدنيا أيضا، فهو بمثابة دورة تنشيطية، فمثلما أن الجيوش تُجري تدريبات تعبوية موسمية (مناورات عسكرية) لتتعرف على مستوى جنودها ولتطمئن على جاهزيتهم، فكذلك المسلمون؛ إذ يتعرضون في هذا الشهر الى ظروف يمتنعون فيها بإرادتهم ومحض اختيارهم عن أهم وسيلتين لدوام الحياة للبشر وهما الطعام والماء، وبذلك يثبتون قدرة الإرادة بقرار من العقل على التمرد على الرغبة والميل؛ أي هو إثبات لقدرة العقل على التمرد على أوامر النفس حتى لو كانت صادرة بمقتضى أهم الدوافع الغريزية.
إنها فترة محددة "أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ"، وهي مدة يدرك الخالق أن المرء يطيقها ولا تشكل أي خطورة على حياته في الظروف الصحية المعتادة، ومن رحمته لخلقه أنه استثنى منها من لا يقدر عليها، لكنه حين قال "وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"، بيّن أن فضائل الصوم كثيرة وفوائده للجسم أيضا، لكنها تخفى على الكثيرين فلا يعلمونها إلا إن وصلوا الى درجة من العلم، وهذا الوصول قد يكون بالتبحر والتفقه، وقد يكون بالتطور المعرفي زمنيا؛ أي لحين وصول علماء البشرية لفهم ذلك الخير الذي يحققه الصيام للجسم والنفس والمجتمع.
لا شك أن هنالك دلالة مهمة من مجيء "وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ" تالية لترخيص الإفطار بعذر مرضي، فهي لتبيان أن هنالك فوائد للجسد من الصيام غير ظاهرة للناس لنقص علمهم وقت نزول القرآن، وسوف تظهر كلما تقدم العلم وبانت خفاياه.
هنالك بضع حالات مرضية مزمنة ينفع في علاجها الصيام، مثل السُمنة والنقرس وارتفاع ضغط الدم والكولسترول والدهنيات الثلاثية الضارة وتصلب الشرايين وأمراض المفاصل وارتفاع الكرياتين والبلورات...الخ، لكن قد يقول قائل ما نفع شهر واحد ثم يعود المرء أحد عشر شهرا لما اعتاده؟، الحقيقة أن الشهر مفيد جدا، فهو بمثابة كبح الجماح، وتصفير للنمط الضار، بدل أن يبقى النمط الغذائي في تصاعدٍ متوالٍ على الدوام، وبلا شك ذلك يعيد تنظيم الأيض واستنفاد مخزون الدهون المتراكمة وكذلك تفريغ مخزون "الجلايكوجين"؛ أي سكر الكبد الذي يتجمع من فائض السكر في الدم فيريح البنكرياس من الإجهاد الشديد، كما أنه يدفع الجسم الى استهلاك الخلايا الضعيفة واستخراج "الإنترفيرون" منها، وهذه المادة هي التي تحارب الخلايا الضارة (السرطانية) في الجسم، وهذه من الاكتشافات المفيدة التي ربما تساعد مستقبلا في معالجة السرطان.
ربما ليس مفاجئا معرفتنا أنه بموازاة التقدم العلمي والتقني، كان هنالك في صدارة ذلك، تطور في تغذية الإنسان وحصوله على أكثر من حاجته للبقاء والنمو، بل وتغلبه على الفقر الغذائي. من كان يعلم بذلك مسبقا هو الخالق مقدّر تجدد الأرزاق (الغذاء)، وهو ذاته الذي تعهد بتأمينها للأعداد المتزايدة من البشر، لذلك قدّر في سابق علمه مدى الحاجة الى ضبط الاندفاع نحو التهام الطعام، بالتوازي مع سهولة الحصول عليه، لذا جعل الصيام حائلا موسميا سنويا دونه ومتبدلا بتبدل الفصول والمناخات، ولتذكير الناس بضرورة الضبط والتنظيم ومقاومة المغريات الشهية.