Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    01-Jan-2021

صورة الغجر في الرواية

 الدستور-د. إبراهيم خليل

 مُفْتَتَح
 
قليلة جدًا هي الكتب التي عنيت بموضوع الغجر في الرواية، منها الكتاب الموسوم بعنوان « توظيف شخصية الغجرية في الرواية العربية بمصر من 1967 – 1991 « لمراد المبروك (1992) ونظرا لهذه القلة يأتي كتاب د. مي بنات الصادر عن دار الآن بعمان (2021) بعنوان صورة الغجر في الرواية ليسد ثغرة في المكتبة العربية، إذ لطالما شكا المهتمون، والدارسون من الحاجة الماسّة لسدّها، والعثور على دراسات إضافية أخرى تقارب هذا الموضوع الذي قلَّ الاهتمام به، وندَرَ الالتفاتُ إليه.
 
وتتخذ مي بنات عددًا من الروايات العربية (5 روايات) وعددا مساويًا لها من الروايات الأجنبية (5 روايات) لكتاب من بلدان متعددة، ومن عصور مختلفة، فمنهم ثرفانتيس الأسباني، وهو من كتاب القرن السابع عشر، ومنهم فيكتور هيجو Hugo الفرنسي، وهو من القرن التاسع عشر، ونستطيع أن نسلك في هذا السياق كلا من الروسي بوشكين، والإنجليزي D.H .Lawrence صاحب رواية العذراء والغجري، أما البرازيلي باولو كويلو Coelho، والكولمبي ماركيز، فهما من كتاب القرن العشرين. وقد استعانت المؤلفة في دراستها بترجمة هذه الروايات ذات اللغات المتعددة، مع أنَّ الأنسب، والأدق، أن تستعين باللغات الأصلية، أو بلغة واحدة أجنبية على أقل تقدير، لتكون دراستها هذه دراسة مقارنة بجدارة.
 
وقد جاء التنوع في أزمنة كتابة الروايات الأجنبية، وتباعدها، ليضيف صعوبة أخرى إلى صعوبات البحث الذي تعذر العثور على دراساتٍ سابقة له، ممهدة، وموطئة. فهي ترود بدراستها أرضا بكرًا، وبقعة مجهولة، لم تطأها أقدام الباحثين. وعلاوة على ذلك تنماز هذه البقعة بواقع طوبغرافي شديد الاختلاف، متَّسع التباين. تضاف إلى هذا إشكالية المنهج. فعلى الرغم من أن العنوان يتضمَّن إشارة لطبيعة الدراسة، وأنها دراسة مقارنة – بكسر الراء- إلا أنَّ المؤلفة لا تكتفي بالمقارنة وحدها، بل تجاوزت ذلك تجاوزًا يُصنّفُ دراستها في الدراسات الثقافية المقارِنة. وهذا ما تعبر عنه تعبيرًا غير مباشر بذكرها في المقدمة لتوظيف المنهج المقارن على وفق المدرسة الأمريكية، لا الفرنسية، وإن لم تستبعدْ النهج الفرنسي. وتضيف مؤكدة التوسع المنهجي، فتقول: اعتمدتُ» المنهج الوصفي التحليلي « وهذه عبارة تصدق على كل منهج، فما من منهج في النقد يخلو من الوصف، والتحليل للأثر الأدبي قيد الدراسة. علاوةً على أنها تضيف في الملاحظة ذاتها « والاتكاء على بعض أدوات المنهج النفسي، والاجتماعي، والتاريخي « إلى جانب ما تسميه « الأدوات السميولوجية، والرمزية، وجماليات الصورة « (ص8) .
 
 النقد الثقافي المُقارن
 
والناظر في هذه الاقتباسات يتّضح له، ويثبتُ، أن المؤلفة تلتزم من حيث أرادت، أو لم ترد، بالنقد الثقافي المقارن. ويؤكدُ هذا ما تتناوله في تمهيد الكتاب من تعريفاتٍ شبه تاريخية، وحضارية، وثقافية، بجماعة الغجر، وهو تناول يحتلُّ حيزا كبيرًا غير يسير في الكتاب من ص 11- 34 . إذ لم تترك صغيرة أو كبيرة، عن الغجر إلا وذكرتها، أو أشارت إليها، تفصيلا أو إيجازًا. وحتى في الفصول الأساسية للكتاب، ومنها الفصل الأول الذي تدرس فيه الشخصية الغجرية في الروايات العشر، لا تفتأ تذكر الكثير الجمَّ من المكونات الثقافية عند الغجر، سواء منها ما يتصلُ بالقيم الجمالية، (الشكل) أو العقلية (الحكمة) أو الإيديولوجية (التحرُّر) أو الأخلاقية (الخلوق) ولم تغبْ هذه النزعة، أي الاهتمام بثقافة الغجر، ومعتقداتهم التي تفرق بينهم وبين غيرهم من بني الناس، عن مقارنتها لصورتي الغجري، والغجرية، في الروايات التي اختيرت للدراسة. فالمرأة والرجل عند كلا الفريقين يختلفان، أو يتشابهان، بالصفات التي جرى ذكرها في السابق. كالذكاء والحكمة والمسؤولية والجمالية أو الدمامة والخُلُقيّة، سلبًا وإيجابًا، وهذه الاختلافاتُ، في المحصلة النهائية، هي اختلافاتٌ ثقافية سلط المؤلفون عليها الضوء. فالروائي حين يختار في روايته امرأة، أو رجلا، غجريَّيْن، فإنه لا يسلط الضوء على الجينات الوراثية، ولا على الحمْض النووي، وإنما يسلطه على ما يمكن أنْ يتجلى في الرواية من تصرُّفات تنبئ عما يؤثر في الشخصية، وفي تصرفاتها، وأفعالها، من معتقدات، ومأثورات شعبية، ودينية، وقيم ثقافية، وأخلاقية، وفنية.
 
ومن الدلائل التي تُفصِحُ عن غَلَبة النقد الثقافي على غيره في هذا الكتاب ما جاءَ عن الطفل الغجري في الروايات لدى الفريقين العربي، وغير العربي. وذلك لأنّ المؤلفة استوعبت ما يتصل بالشخصية الغجرية عند الفريقين، ثم لما جاءت للحديث عن صورة الطفل الغجري لديهما، وجدت حضوره حضورًا هامشيًا، فالغجر، بصفةٍ عامّة، لا يعيرون الأطفال تلك الأهمية التي نجدها في موقف الكاتب الروائي من الطفل غير الغجري. فالطفل المقهور تارة، والمخطوف تارة، والمحروم تاراتٍ أُخَر، هو الذي يظهر في رواية منْ يُعنى بالغجر من حيث هم مجتمع، وموضوع، ينشغل به الكاتب، مع أنّ الشخصية الغجرية- بصفة عامة - تحظى لدى الروائيين بتعاطف القارئ لسببٍ ما، وهذا السبب كامنٌ – على الأرجح- في رغبة القارئ في التعرف على ما هو غريب، وغير مألوف، من عادات الغجر، وثقافتهم، وعلاقاتهم بالآخر. مما يتقارب مع طبيعة الأدب المتصف بالواقعية السحرية، فالقارئ يشعرُ بالانبهار من هذه الأجواء، وكأنه يقع تحت تأثير يشبه تأثير السِحْر الغريب، والعجيب.
 
وتبدأ المؤلفة فصلها الثاني بالقول:» إن الرواية هي محصلة التفاعل الفكري والثقافي والاجتماعي والشعوري بين الكاتب – الروائي- ومجتمَعِه « وتأسيسًا على ذلك يهتمُّ هذا الفصلُ اهتمامًا شديدًا بإلقاء الضوء على المجتمع الغجري. وهي بطبيعة الحال ترمي بالحديث عن المجتمع الغجري إلى ما يتراءى في الروايات لا لما هو في الحقيقة والواقع. مع أنَّ أيًا من هذه الروايات لا تقتصر على مجتمع الغجَر، بدليل أن الكتّاب، مؤلفي هذه الروايات، ليس بينهم من هو غجريٌ. وعليه فإن غير الغجري هو الذي يتحدث، ويتفاعل، بمجتمع، هو، أساسًا، دخيل عليه إذا جاز التعبير. فكلٌ من حيدر حيدر، وجمال ناجي، ووئام مددي، وأحمد أبو هيبة، وعبدالله المالكي، ليسوا غجرًا. ومن أجل أنْ يحقق الكاتب منهم هذا التفاعل ينسلخ عن مجتمعه منتسبًا لهذا المجتمع الافْتراضي، أو يقوم باستلال شخصية منه، ويوظفها في روايته التي تدور وقائعها، وحوادثها، في مجتمع آخر، ذي ثقافة أخرى. وهذا لكيْ يتحقق محتاج للتعرف، والاكتناه، اللذين ينتج عنهما انبهار بهذا المجتمع الغجري الذي يجهله الآخرون. ومن هنا تأتي المزيَّة الفارقة لهذا النوع من الروايات.
 
 أنثروبولوجيا الثقافة
 
ولا تجد المؤلفة حَرَجًا في أن تُعَنْون بعض ما في الكتاب بالعنوان « صور العادات والتقاليد في الرواية « ص 196 بمعنى أن الدرس الثقافي المقارن يلتقي- ها هنا - على نحو واضح بالبحث الأنثروبولوجي. فطقوس الزواج، والطلاق، والاحتفالات بالولادة، والختان، وطقوس الحزن على الموتى، ومراسيم الدفن، والتعازي، والمظاهر الخاصة التي تنمُّ عليها الأزياء والملابس، وتسمية المواليد الجُدُد، كل ذلك مما يدخل في باب علم الأناسَة. وذلك شيءٌ على تماسّ بالنقد الثقافي المقارن، لا بالمقارن فحسب. وقد زادت على ذلك بدراستها ما ورد في بعض الروايات من إشارة للأساطير، والميثولوجيا التي يُؤْمن بها الغَجَر. وهي تمثل لديهم رموزًا لها دلالاتها في الوعي الجمْعي. وتمثل أيضًا (ثيماتٍ) أساسية في الحياة الفكرية، والإيديولوجية، التي تميزوا، واتصفوا بها عبر التاريخ القديم، والحديث. والقارئ يلذُّ له – عادةً - التعرف على الآخر، وإن لم يختلط به، إلا عبر هذا السرد الذي يتضمن صورًا من ثقافةٍ وتقاليدَ وعاداتٍ ومعتقداتٍ ومشاعرَ في حالتيْ الفرح والحزن، أو الكراهية والحب، وهي صورٌ لا عهد له بها. ولذا جاءَ هذا الفصل الشيِّق ليتضمَّن غوْصًا في العاداتِ، والتقاليد، لدى الغَجَر، سواء منها ما يتراءى لنا في الروايات، ويتجلى، أو ما لا يتراءى، ولا يتجلى. ففي نهج المؤلفة يتطلبُ فهْمُنا للعلاقات في مخلفات الزوابع، أو أرض الغجر، المعرفة بالكل الاجتماعي كي نتمكن من تقبُّل الجزء الروائي. فالمجتمع الغجري يبدو للقارئ أحيانا لغزًا غامضًا مغلقًا ينطوي على الكثير من الخفايا، والأسْرار، ولا بدَّ للروائي من أن يميط الحجاب عن هاتيك الأسرار، وأن يمتلك المفاتيح التي تفتح كل بابٍ مُغلق. وهذا، بلا ريب، يتطلبُ الاقترابَ من واقع الغجر، والكشفَ عما ينمازون به من ممارساتٍ يوميّة في المأكل، والملبس، والترحال، واتخاذ القرارات في الأمور الحاسِمة، كالزواج، وغيره.
 
دليل على سلامة هذا الاستنتاج تعدادُ المؤلفة لوجوهٍ من العمل لدى الغجر، كالحدادة في رواية المالكي، والتسوُّل في رواية جمال ناجي، والتجارة في رواية أحمد أبو الهيبة « أرض الغجر «. ولا تختلف رواية « العذراء والغجري « للورنس عن السابق، فالغجري فيها يحترف الطّرْق على النحاسيّات. ولدى الغجر الكثيرون ممن يعملون في الفنون الاستعراضية كالرقص في الأفراح، والمناسبات، والغناء، والموسيقى، ومعرفة الفأل بقراءة الكفّ تارةً، وبوسائل أخرى مثل الضرْب بالرمْل، والوَدَع. وفي رواية وئام المدَدي من الغجر من يحترفون السرقة، وهي في رأيهم ليْستْ عيبًا بلْ (شطارةٌ) وأما السِحْرُ، والعرافة، فضروبٌ أخرى من الكِدْيَة. وهذا كله مما يلقي بالضوء على النسيج الاجتماعي لدى الغَجَر، وبعضه يتجلى في الروايات.
 
 سردية القديم والحديث
 
بقي أنْ نشير للفصل الأخير الذي تقفُ فيه المؤلفة وِقْفة جادة إزاء التقنيات السردية، وهذا الفصل قد يبدو لدى بعض القراء إشكاليًا، من حيث أن المؤلفة عدلتْ عن الاهتمام بالمحتوى إلى الاهتمام بالتشكيل الفني، وهو شيءٌ يقع خارج الحدود التي يسْمَحُ بها العنْوان. ووَجْه الإشكال، في هذا الفصل، يأتي من جهة أخرى غير تلك التي يحددها العنوان. فالكتّاب الذين تدرس رواياتهم فنيًا – مثلما ذكر في أول هذه المقالة- من عصور مختلفة، فبعض هؤلاء الكتاب يعود إلى ما قبل 400 عام كرواية الغجرية لثرفانتيس الإسباني، وبعضهم إلى ما قبل قرنين من الزمان كبوشكين وابنة الضابط، وهوجو وأحدب نوتردام، ود. هـ. لورنس مع « العذراء والغجري «. ولا ريب في أن التقنيات السردية شهدت خلال هذه الأعصر الكثير الجم من التطور، والتغْيير، وهذا قد يشكك في دقة النتائج التي يمكن التوصل إليها من مقارنة نصوص سردية حديثة بأخرى مُمْعنة في القِدَم، إذا طُبِّقت عليها جميعًا المعاييرُ، والمقاييسُ، الجديدة. فالمؤلفة- على سبيل المثال- تتكلم عن العنوان، ودوره، وعن العتبات النصيَّة في الرواية، وعن سميوطيقا الاتصال الأدبي، وعن الفضاء الروائي، والمكان، والرمز بالغجر للحرية، والانطلاق، وتعميم ما يقال عن روايات جديدة جدًا على جلّ الروايات قيد الدراسة فيه ظلمٌ يتأتى من التحيُّز المفترض لكل ما هو جديد، وحديث. فمن اختار شُموس الغجر، أو أرضَ الغجر، عنوانا لروايته يعيش في ظروف زمنية، ومكانية، مختلفة عن كاتب مثل فيكتور هيجو، أو بوشكين . كذلك الرواية التي تقع حوادثها في فضاء باريس لا يمكن أن تقارن برواية تقعُ حوادثها، وتجري، قي عمان عندما كانت قرية كبيرة. والنظرة الدونية للغجر في باريس لها أسبابٌ ودواع تختلفُ عن تلك التي نجدها في رواية «شموس الغجر»، أو مائة عام من العزلة. ومما يُشترط في الدراسة الثقافية المقارنة في الأدب أنْ تنصبَّ على أعمال متقاربة في الزمن، والموضوع، والظروف. فمقارنة جحيم دانتي برسالة الغفران لها مُسوّغ، فالأديبان متقاربان في العصر، ومتوافقان في الموضوع، وفي الرحلة للعالم الآخر. كذلك مقارنة روبنصون كروزو لدانيال ديفو برواية حي بن يقظان لابن طفيل، مقارنة مقبولة، لكون الكاتبين متجاورين في الزمان، مشتركين في الموضوع، ومقارنة ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور برواية المخطوط القرمزي للإسباني أنطونيو غالا خيارٌ صائبٌ كوْنَ الروايتين تقع حوادثهما في أمكنة مشتركة، وترويان وقائع متشابهة بنيويًا، في أزمنة متقاربة جدا.
 
ولا يحول ما نقوله- ها هنا - بين مي بنات وبين أن تكون مصيبة في اختيارها موضوع « الغجر « بصفته دراسة ثقافية في مجموعة من الروايات، لكتّابٍ متعدّدي الأعْراق، واللغات، والثقافات، إلا أنَّ الأقرب للصواب أن تقتصر الدراسة على رواياتٍ تجمعُها ظروف متقاربة، كروايتي البرازيلي باولو كويلو، والكولمبي ماركيز، بروايتين عربيَّتين كشموس الغجر لحيدر حيدر، وأرض الغجر للمصري أحمد أبو هيبة، دون سائر الروايات، فلو أنها اقتصرت على هذا لكانت النتائج أكثر دقة، وعمقًا. فكلما ضاقت المساحة في البحث ازدادت إمكانية التعمُّق فيه، والخروج منه بنتائج أكثر إفادة.
 
وأخيرًا، ثمة إشارة شكلية لا تقلّلُ من قيمة الكتاب، ولا من جهود المؤلفة المَشْكورَة، فقد خلا ثبَتُ المصادر والمراجع من ذكر الفرنسي فيكتور هيجو Hugo، وروايته أحدبُ نوتردام، على الرغم من أنّ المؤلفة أحالتْنا إليها في الهوامش، والحواشي، كثيرًا، فهي واحدةٌ من الروايات التي اختيرت للدراسة، وهذا بلا ريب من باب السهو، وجلَّ من لا يسهو.