Tuesday 23rd of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    11-Dec-2017

بائع الجرائد - رزان الزيود

الراي -  كان يستيقظ قبل أن ينشر الفجر راياته على ربوع الأرض، تبث العصافير زقزقاتها في أذنه، يرتدي زياً ضبابي اللون، هكذا كان أبي، كنت أراقبه وهو يرسم ابتسامته على المرآة، وينظر نحوي بعين تبعث المحبة، ووجه صبوح مبشر بيوم سيكون على ما يرام، كان يقبل على توضيب هندام عمامته البيضاء، ويهندسها على أتقن ما يكون، كمن يهم بالذهاب لحفل زفاف بهي، ينثر عطراً مغشوشاً اقتناه من زميله صالح، ولا أدري هل يتعطر هو أم يكتسب العطر رائحتَه من أبي!

كان صالح يعمل على استبدال زجاجات العطور بالكتب القديمة، ثم يحمل هذه الزجاجات إلى صانعي العطور ليشتري قِدراً، ثم يعبئ القليل منها في كل زجاجة ويملأ بقيتها ماء، ثم يبيعها بثمن جيد، ولكنه أقل بقليل من قيمة سعر الزجاجة الأصلية، كان كثيراً ما يتردد على بيتنا ليسأل والدي عن أسماء الكتب ومواضيعها ، جيدها من رديئها، ثمينها من بخسها، ليبتاعها من المكتبات ويستبدلها بزجاجات العطور الفارغة، كان ينظر إلى الكتب التي تفترش أرضية الغرفة برتابة فنان أجهد نفسه بتصفيفها، محاولاً إقناع والدي بأن هذه الكتب قد تُدر عليه الربح الوفير، لكنها لوالدي أكثرُ قيمة من كل أموال العالم، كانت له بمثابة زمنٍ جميل يستحضره بقراءتها، ويتلذذ بكل كتاب كمن يستعيد جزءاً من ذاته، لا أبالغ إن قلت إن والدي ينزلها من قلبه منزلة الولد.
 
قبيل نور الصبح تحدوه آمال كبيرة: بالانتصار، بالتحرير وبالوحدة، يوماً بعد الآخر يتجه أبي صوب مبنى جريدة الوطن، يسترق النظر إلى الأخبار ويُسكنها على عناوين الصحيفة يحفظها عن ظهر قلب، ثم يتبطأ جرائده ويتجه إلى شارع الحرية الذي كان يكتظّ بعد الظهيرة بطلاب المدارس والجامعات والعمال والكتاب وأصحاب الأعمال، يتأهب الإشارة الحمراء.
 
وكانت الجموع تُهلل بمجيئه، ويبتهج المارةُ فيلقون عليه التحية ويدسون القروش العشرة بجيب ردائه، فيبسط كفه بالصحيفة مع انحناءة احتراماً لها، فقد كانت الصحيفة قضيته وإيمانه، يقينه وأمله، كان يؤمن بأنه بها ستكون استفاقة الشعوب واستهداؤهم إلى الحق الضائع، وصحوة الضمير الغائب، كان منطقه وعاداته واعتراضاته ونقاشاته مع المارة وأصحاب المحلات على أرصفة الطرقات.. كان يستدعي انتباه طلبة الجامعة الذين يتجمعون حوله ليناقشوا احوال البلاد، كان الخبر قضية والعنوان رسالة والحبر الأسود اعتراضاً للظلم واعتناقاً للحرية.
 
كانت شمسُ الظهيرة حارقة، ومع احتقانها تمتزج رائحة الكعك برائحة أوراق الصحيفة. وكانت حبات العرق تنزلق من جبهته انزلاقة المطر من على سفح الجبال.. يوما بعد الآخر..
حتى هبت أهوال الأعاصير التي ألمت بعقول العباد والبلاد، وانتزعتهم من دنيا إلى أخرى، أحاطتهم، وحاصرتهم وترصدت أوصال أيامهم وأحلامهم وأمانيهم، وأحكمت على تفكيرهم إحكام السوار بالمعصم.
أحاطت بنا في دوامة من التساؤلات غير المجدية، كان أبي ينهض من رقدته، في عالم فقد الناس فيه السمع والأبصار، ليبيع الجريدة، لكن الناس يغوصون ويغطون في سبات هواتفهم النقالة.. فلا يشتري الصحيفة أحد بل يرمون له بضعة قروش إشفاقاً على حاله.
 
في نهاية الشارع سيارة شرطة وسيارة إسعاف وفي حافلة المدرسة شجار.... وعلى الرصيف طلاب المدارس، وأعقاب سجائر يتشاركونها، في موقف الحافلات صراخ وهتاف، سيارة شباب في نهاية الطريق تسابق أخرى. مكب نفايات محترق، وطفلة تطرق شبابيك السيارات متوسلة علها تجمع من القروش سعر رغيف تهدئ به صراع أحشائها.
 
اضطر -متأـسفاً- أبي أن يبيع كتبه لصالح، وفي كل مرة ينسل فيه كتاب تنسل روحه من جسده النحيل.