Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    06-Jan-2016

أدباء عراقيون: ما زال «المثقف التابع» موجها

«القدس العربي» من صفاء ذياب على مدى تاريخ العراق الحديث، لم تعن جدلية بالنقاش والحوار الدائم، مثل جدلية: المثقف – السلطة، فبعد أن ركن عدد من المثقفين تحت جناح السلطة العثمانية، أواخر القرن التاسع عشر، خرج آخرون منددين بهم، مطالبين بأن يكون المثقف تحت جناح الشعب لا السلطة، حتى وصل الأمر مع بدايات القرن العشرين بالشاعر معروف الرصافي والزهاوي وغيرهما للخروج في مظاهرات ضد السلطات الحاكمة حينها.
هذا الاختلاف بين مؤيد ومعارض للسلطة استمر حتى ستينيات القرن الماضي ليكون حركة ثقافية مع تسلم حزب البعث للسلطة عام 1963، ليبرز حزب آخر جمع أغلب المثقفين العراقيين حينها كمعارضين ومناهضين، وهو الحزب الشيوعي العراقي، الذي سرعان ما دخل الكثير من أعضائه تحت عباءة حزب البعث.
ربما كان عام 2003 مفصلياً في هذه العلاقة، فلم تعد هناك سلطة ديكتاتورية مع بدايات التغيير، لينظم عدد من المثقفين تحتها، غير أن هذه (اللاديكتاتورية) لم تلبث أن تنهار لتتشكل ديكتاتوريات جديدة تحت سلطة أحزاب دينية، بل حتى علمانية.. حينها دخل المثقف في جدلية: المثقف- السلطة من جديد، ليشكل بذلك عودة لنقطة البدء والخلاف مرة أخرى..
فبعد ما يقارب الـ13 عاماً من سقوط نظام البعث في العراق.. هل خرج المثقف العراقي من ازدواجية المثقف- السلطة؟ وهل تمكن من تخليص نصه من الأيديولوجية التي كان مرغماً عليها؟
 
بيئة التبعية
 
لا يتردد الشاعر فضل خلف جبر بقوله، إن المثقف العراقي ما زال يمارس دوره، الذي يختاره بمحض إرادته في أغلب الحالات، في أن يكون تابعاً للسلطة، بل ويتفنن في تبرير هذه العلاقة المشبوهة. هذه الازدواجية غير قابلة للتغير طالما بقيت حاجة المثقف مرهونة بيد السياسي، الذي يمتلك السلطة.
ويضيف جبر أنه في ما مضى كانت هناك مركزية واحدة، هي مركزية النظام الشمولي. وكان النظام السابق يمتلك مفاتيح كثيرة يحتاجها المثقف ويسعى إليها: الدعم المادي، النشر، الضوء الإعلامي، التسهيلات الحياتية المختلفة والوجاهة… هذه المفاتيح لم تتغير بتغير النظام، بل إن المفارقة هي أنه على الرغم من اكتساب المثقف «الحرية» و»الاستقلال»؛ إلا أن ذلك لم يمنح المثقف العراقي فعلياً فضاءً إضافياً خارج المركزيات الجديدة المتعددة التي فرضتها ظروف ما بعد التغيير.
ويبين جبر أنه في تسعينيات القرن الماضي ظهرت قائمة سوداء باسم قائمة «المرتدين» أصدرها النظام السابق ضمت طائفة كبيرة من الأدباء العراقيين الذين غادروا الوطن مرغمين لهذا السبب أو ذاك. ويقيناً أنه لا «عبد حمود- سكرتير صدام حسين» ولا «عدي صدام حسين» كانا يعرفان أو حتى سمعا بهذه الأسماء، وأن من دوّنها هم زملاء وأصدقاء كانوا يقاسموننا المقاهي والأوقات الحلوة والمرة.. وحين تم تغيير النظام لم تتغير عقلية المثقف العراقي الذي خرج من تبعية المرغم/ المريد إلى تبعية المريد/ المرغم. فقد صدرت بعد 2003 عدة قوائم سوداء تكاد لا تغادر اسماً من أسماء الأدباء والمثقفين العراقيين، وعلى منوال النظام السابق نفسه: من لم يكن معي فهو ضدي.
وفي تقدير جبر، فإن جزءاً كبيراً من هذه الإشكالية يقع على عاتق اعتماد المثقف مادياً على السلطة، ما يفرض على المثقف أن يفقد حيزاً كبيراً من استقلاله الشخصي. ففي الغرب لا توجد مثل هذه التبعية، وتحديداً في الولايات المتحدة. فالمثقف في أمريكا؛ مثلاً، يعيل نفسه بنفسه سواء من عمل يوفر له دخلاً مادياً معقولاً، أو يعتمد على إيرادات كتبه أو أعماله الفنية إن كان فناناً. هذا الاستقلال المادي يجعل إمكانية «التملق» مستحيلاً… فالتبعية التي يمارسها المثقف هي نتاج ثقافة مجتمعية، ولكي تتغير النمطية لا بد أولاً من تغيير بيئة إنتاجها.
 
ازدواجية مريضة
 
من جانبه يشير الشاعر مهند يعقوب إلى أنه إذا أردنا أن نحتفظ للمثقف العراقي بدوره الطبيعي، وصورته خارج الأيديولوجيا، فينبغي النظر له على نحو فردي، وليس مندرجاً ضمن مجموعة المثقفين الذين ترعاهم السلطة. فمثقف السلطة هذا ظل مستمراً حتى اللحظة في تدوير مسائل الانحطاط الثقافي نفسها، سواء في حقبة نظام حزب البعث أو المرحلة التي تلتها. هذه المواقف المتذبذبة كانت مواقف طوعـــية في الغالب، ليست داخلة ضمن حملة الترويع التي تستخدمها السلطة آنذاك. وينكشف هذا الأمر واضحاً في حقبة ما بعد البعث، إذ نرى الآن المثقف ذاته يمارس تزويراً ثقافياً واضحاً يأتي في الغالب بالضد من الفعل الثقافي الخالص، وبالضد من قضايا الإنسان، ويجانب الأحزاب والسلطة في كثير من القضايا المصيرية والحساسة، وبالتالي فنحن أمام مثقف لم يتخلص بعد من تلك الازدواجية المريضة.
أما على الصعيد الفني للنصوص، فيقول يعقوب إن أي كتابة تندرج كفعل تابع، هي بالضرورة كتابة بعيدة عن الفعل الإبداعي الخالص. وما عودة شعر المناسبات والحماسة التي يصطبغ بها المشهد الشعري في العراق الآن، إلا مؤشراً على ذلك، بل هناك نزوح حتى أكاديمي على مستوى بحوث ودراسات تجانب السلطة الحالية كانتماء طائفي، ممّا ساهم في ظهور نصوص ركيكة على مستوى طرق التفكير، وعلى مستوى التكنيك والشكل… بل إن تنامي النسخة التقليدية للشعر العمودي والشعر المحلي كذلك، مؤشر واضح للتدهور الذي عليه المشهد الثقافي العراقي كتابة وتجريبا.
لكن يعقوب يؤكد أنه لا يمكن الإشارة لكل الفعل الثقافي العراقي على هذا النحو، فهناك ما هو في الهامش، أي الذي ننظر له على نحو مستقل. حيث بقيّ محافظاً على مواقفه الداعمة للإنسان وقضاياه، وبقيّ حالة فردية يجرب داخل اهتماماته المتنوعة، التي ربما سيساهم تسارع التطور التكنولوجي ووسائل الميديا الحرة في جعل هذا الفعل الثقافي الفردي فعلاً مركزياً في الثقافة العراقية، على مستوى السرد والشعر والسينما والمسرح، وقضايا سياسية وفكرية تهم النّاس. رغم أن هذا الهامش لم يخلق بعد نماذج مختلفة فنياً وطريقة قول عمّا ظهر لدينا في مطلع الستينيات والسبعينيات وما تلاها في العراق؛ لأن الأيديولوجيا عموماً لا تجعل الأدب الذي تباركه مضحكاً فقط، بل تجعل من يكتب بالضد منه مخدوعاً كذلك!
 
نحو الهاوية
 
في حين يشير الشاعر مكي الربيعي إلى أن المثقف العراقي لم يستطع الخروج من ازدواجيته، بل ازداد انغماساً وركوساً في تلك الورطة، للحد الذي عطلت لديه قدرة التطور ودفعت به نحو التراجع والنكوص، ما جعل كل ما ينتجه باهتاً لا يمت للهم الإنساني بصلة، باعتبار أن السلطة (أي سلطة) تحاول أن تستثمر المثقف لتجميل صورتها، مستغلة إمكاناته في الدفاع عن أخطائها وخلق مبررات لها. ولذلك بقيت أغلب النصوص تشتغل في المنطقة الأيديولوجية، هذه المنطقة الخطرة المضرة التي أكلت شعراء مهمين، وأضاعت طاقات شعرية كبيرة، وبدلاً من أن نتعظ من التجارب السابقة التي اشتغلت في هذه المنطقة، عادت هذه الظاهرة بشكل أكثر شراسة وأكثر تملقاً، للحد الذي بدأ الشعر يكتب عن رؤوساء العشائر والملاكين والتجار والسياسيين الفاشلين.
ويضيف الربيعي: إن الثقافة العراقية تعيش الآن ورطة كبيرة، ولا خلاص من هذه الورطة إلا بإزالة المظاهر التي تدفع بالمثقفين وأشباههم نحو هذه الهاوية.
 
بيئة ديكتاتورية
 
أحمد الظفيري يلفت إلى أن مرحلة البعث كانت مرحلة تؤمن بالفكر الشمولي، أي شمول الجميع بفكر البعث، ومن ضمن الذين أُجبروا على الكتابة بأيديولوجيا البعث المثقفون بكافة أنواعهم، ولم يكن من السهولة التخلص من خيوط الاتهام في حال عدم الكتابة، والآن وبعد ثلاثة عشر عاماً من انتهاء حكم البعث هل انتهى كل شيء؟ بدءاً علينا أن نؤمن بأن الأفكار لا تفنى، فهناك دائماً من يوقظها ويؤمن بها، والمثقف دائماً يلجأ للسلطة الأهم وهي سلطته، وأعني بذلك حريته في الكتابة وعدّ سلطته الفردية على منتجه هي السلطة الأهم، ولذلك إذا كان المثقف يؤمن بأيديولوجيا الدولة- السلطة أو يخالفها لا يمكن أن نعده خائناً أو متآمراً لأنه يستند لسلطته الذاتية… ولكي نتحدث بوضوح أكثر، فإن السلطة الآن لا تجبر أحداً على الكتابة لها، ولكن هل يسلم من يكتب ضدها؟ بما أن الحكومة الآن معظمها من أحزاب دينية، وهذه الأحزاب لديها أجنحة مسلحة، فما زال مفهوم الحرية في الكتابة غائباً ولو بصورة جزئية.. ولو تحدثنا عن النصوص الأدبية بصورة خاصة فيمكن أن نقول إن النص الأدبي قد تخلص من أي ضغط سلطوي وأصبح نصاً حراً، بل قد يصل لدرجة المعارضة الصريحة، وهذه ظاهرة إيجابية يمكن أن يستثمرها الأديب لغرض تخليص البلد من الأفكار الظلامية التي خيمت على العراق لمراحل متعاقبة، وأن يؤسس لمنطقة أدبية تمتاز بمنطلقات جمالية بحتة بعيدة عن كل تملق لسلطة أو حزب، فهذا سيساهم في خلق بيئة ديكتاتورية جديدة قد نضطر لأن ننتظر عقوداً من الزمن للتخلص منها.
 
منصة التسلط
 
غير أن الكاتب منتظر السوادي يرى أنه يندر أن تجد مثقفاً يستند إِلى ركيزة الإِبداع فحسب، وينشغل فيها دون سواها، وهي التي تعصمه من التّطواف حول السّلطة، والتّشبث بأطرافها، لا يذهبن بك القول بعيداً، فالسّلطة لها أَوجه عدّة، بيد أَنّها تُحرّك المثقفين أَنى تشاء، السّلطة السّياسيّة الآن ضعف تأثيرها، لظهور بدائل أَقوى، فهناك الآن من يتخندق وراء الإلحاد والخمر والعري، أو الدين في نتاجه الأَدبيّ عساه يصل إلى طبقة المثقف صاحب الشّهرة/ السّلطة، يمكن القول إِنّ احتماء أَغلبيّة المثقفين وراء هذه التابوهات لا عن معرفة دقيقة، وَإِنّما لغاية في نفسه.. الغاية واحدة عند المُتبع للسّلطة المتجسدة بشـــخص الحاكم، أو اللّجوء إِلى غــــير ذلك، ولهذا ترى صراعًا قويًّا وانقساماتٍ وكتلًا بين المُثقفين، من أجل الوصول إِلى بؤرة القرار والصّـــعود على منصة التّسلط، أَو الانضــــمام للحاشية من أَجل النشر والسّمعة، لا من أجل الإِبداع أَو مدارسه وموضوعاته.
ويستمر السوادي في حديثه، لافتاً إلى أن المثقف الذي لا يسعى إلى السّلطة/ المنصة وإن سعت إِليه هذه الشخصيّة نادرة الحضور في المجتمعات العربيّة على مرّ الأَزمنة، لكن يبقى السّؤال الأَهمّ: لِمَ يسعى المثقف إِلى السّلطة ونحن نعيش الألفية الثالثة؟