Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Mar-2021

النزعة العبثية في رواية «دفاتر الوراق» لجلال برجس

 الدستور

تنزع العبثية، كمذهب أدبي، إلى رغبة الفرد في التمرد على الواقع، بعد أن منيت أفعاله لإدراك معنى الكون بالفشل، وقد ارتبطت بالوجودية والعدمية، وتجلت في العديد من الأعمال الأدبية لكتاب يمكن أن نعدهم من أدباء المدرسة العبثية في الأدب العالمي كصموئيل بيكيت وأوجين يونسكو والبير كامو ولا سيما في روايتيه الغريب والطاعون، كما تمثلت العبثية في الأدب العربي في العديد من الأعمال الأدبية.
 
في رواية «دفاتر الوراق» لجلال برجس، ثمة منحى عبثي، بالرغم من أن الرواية تنحو منحى واقعيا سواء في سرد الأحداث وتقاطع مصائر الشخصيات والمسرح المكاني لأحداثها الذي اتخذ من عمان بؤرة مركزية له، ويتجلى هذا المنحى العبثي في هذه الرواية، من خلال سلوك شخصياتها التي تعاني من حالة مأزومة تجعلها تجدّ في البحث عن الخلاص، ولكنه بحث عبثي لا يؤدي إلا إلى السقوط في براثن الواقع المرير.
 
قامت الرواية على سرد أحداث في حقبة زمنية تمتد بين عامي 1947 و2019، من خلال بنية سردية تعتمد سرد حكايات لأشخاص عاشوا في زمنين مختلفين، وقد استثمر برجس باقتدار تقنية تعدد الأصوات واختلاف جهات النظر بين شخصيات روايته، التي تتقاطع مصائر أحداثها في لعبة سردية محكمة، من خلال تلك الدفاتر التي سردت بها كل شخصية شذرات من حكايتها، التي تماهى فيها المنطق واللامنطق، المعقول واللامعقول، الممكن واللاممكن.
 
ثمة شخصية رئيسة في الرواية، هي شخصية إبراهيم الوراق صاحب كشك الكتب، فهو الشخصية المحورية في الرواية والذي أشبه ما يكون بالبؤرة الفاعلة التي تدور في فلكها شخصيات الرواية الأخرى وأحداثها، فتتقاطع معها زمانيا ومكانيا في أكثر من مفصل في الرواية، وهذه الشخصيات هي ليلى اللقيطة الفارة من المأتم بعد تعرضها لمحاولة اغتصاب من قبل المشرفة، والصحفية ناردا التي التقى بها إبراهيم على شاطئ العقبة حين أوشك على الانتحار، ولكنه عدل في اللحظة الأخيرة، وجاد الله الشموسي الذي هو والد إبراهيم الوراق.
 
فإبراهيم الوراق هو الشخصية المحورية في الرواية، يملك كشكا للكتب في وسط عمان على أول رصيف شارع الملك حسين، قام أحد الفاسدين ويدعى إياد نبيل بالاستيلاء عليه وتحويله إلى محل تجاري له، في إشارة واضحة إلى الصراع الدائر رحاه بين سلطتي الثقافة والمال، حيث ترجح كفة المال في هذا الصراع، ويتم تهميش الثقافة وإقصاءها، فيعيش إبراهيم في شقته الكئيبة في جبل الجوفة وحيدا بلا عمل، فيسقط في بئر الخسارات بين كشك للكتب انتزع منه بالقوة عن طريق أحد الفاسدين، وأبوه الذي شنق نفسه في لحظة يأس قاتلة، في إشارة واضحة إلى موت الحلم الشيوعي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وتحول العالم إلى عالم أحادي القطبية تتزعمه أمريكا.
 
إن مأساة إبراهيم الوراق هي المعادل الموضوعي لمأساة المثقف العربي في عالمنا المعاصر، تلك المأساة التي لم تتوقف عند ابن حنبل وابن رشد والغزالي ونصر حامد أبي زيد، بل هي مستمرة إلى ما لانهاية، فالمثقف العربي ما زال يجدّف عكس التيار أيضا تماما كإبراهيم الوراق، فهو يعيش في أزمة فكرية ووجودية مع واقعه الذي اختلطت به الأوراق، وغدت المادة هي التي تحكم الواقع المعاش فغدا مجرد مسنن في دولابها، وهنا تكمن مأساة المثقف الذي غدا غريبا في وطنه منبتا عن تاريخه وفكره، فلبث في غربة حتمية أقصته عن دوره التنويري والطليعي في المجتمع، عاجزا عن العودة إلى جذوره الأولى.
 
فإبراهيم الوراق الذي انتزع منه كشك الكتب الذي ورثه عن أبيه، يمثل المثقف الذي انتزع منه فكره، والكشك هنا له قيمة رمزية ودلالية، فهو ليس المكان الذي تتكدس به أكوام الكتب فتباع وتشرى، ولكنه يمثل التاريخ والجذور، فيعيش إبراهيم في حالة من الفصام الفكري والنفسي، الذي يجعله غير منسجم مع هذا الواقع المرير الذي وجد نفسه فجأة بين مخالبه، فيشقى بالبحث عن لحظات من الطمأنينة، ولكنه يقع في نهاية المطاف، فريسة لحالة من ذلك الفصام المزمن، الذي أفضى به إلى أن يحاول الانتحار.
 
العبثية في الرواية تتمظهر في سلوك شخصيتها المحورية إبراهيم الوراق، الذي يرى أنه لا منطق يسود الحياة التي انعدمت فيها قيم العدالة والمساواة والحرية، فنراه يتخذ من اسم الفيلسوف اليوناني ديوجين الكلبي اسما مستعارا له على الشبكة العنكبوتية، بالتالي فهو يرى أنه لا بد من بناء عالم آخر مواز لهذا العالم المتناقض، فيتمرد على واقعه، فيخوض حروبه الخاسرة ضد هذا الواقع كأنه دون كيشوت يحارب طواحين الهواء، فيسطو على أكثر من بنك متقمصا شخصيات روايات قد أعجب بها، ولعل لعبة التقمص أتقنها الوراق حين كان طالبا في المدرسة، بالرغم من أنه لا يدري لماذا فعل هذا، فهو يتقمص شخصية سعيد مهران في رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ، وشخصية مصطفى سعيد في رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، وشخصية كوازيمودو في رواية أحدب نوتردام لفكتور هيجو وشخصية الدكتور زيفاجو لبوريس باسترناك، وشخصية أحمد عبدالجواد بطل الثلاثية.
 
وتتمظهر العبثية في الرواية في تلك السخرية السوداء التي اكتنفت تصرفات وأقوال إبراهيم الوراق، فها هو يجزم على الانتحار، ويسافر إلى العقبة، ليموت غرقا في الماء، ولكنه بالرغم من أنه مقدم على الموت في ذلك القبر المائي كما وصفه، إلا أنه يتصرف بصورة عبثية أمام مصيره المحتوم وهو الموت، فها هو يختار مطعما فخما لتناول الطعام، ويذهب إلى صالون حلاقة ومحل لبيع الفطور، ثم يذهب إلى فندق فخم في المدينة لينام فيه ليلته الأخيرة.
 
كما تجلت عبثية الوراق حين أقدم على حرق كتبه، ونلمح في هذا الفعل تعبيرا عن عقدة أوديبية كامنة في شخصية الوراق نحو أبيه، فهو ينتقم من أبيه بحرق كتبه التي ورثها منه، الذي يرى أنه من العبث أن يحملها معه بعد أن ترك البيت الذي يستأجره، ولعلنا نجد تمثلات تلك العقدة في غير موضع من الرواية، فعندما يغيب أبوه عن البيت يقول إبراهيم الوراق: «فأبلغت الشرطة باختفائه بعد أن بحثت عنه كثيرا، ثم استسلمت، ربما فعلت ذلك انصياعا لأمنية دفينة في أن يغيب عني» الرواية ص 12، «لم يحدث أن ضمني، أو حتى لامس رأسي كما يفعل الآباء» الرواية، ص 22، «عليك أن تعترف أنك كرهت أباك رغم حبك الشديد له، كرهت أبوته» الرواية، ص 53.
 
وتتجلى العبثية في تلك النهاية التراجيدية لبطلها إبراهيم الوراق تلك الشخصية المأزومة والعبثية في ختام الرواية، التي تعيش في صراع مزمن مع ذاتها والآخرين، حين يلقى القبض عليه وتوجه له تهمة قتل والده جاد الله الشموسي وعماد الأحمر وإياد نبيل ورناد محمود، بالرغم من أنه لم يرتكب هذه الجرائم، لينتهي به المطاف في مستشفى الأمراض العقلية، ولعل هذه النهاية تتقاطع مع نهاية «ميرسو» بطل رواية الغريب للألبير كامو.
 
وقد عمد الروائي جلال برجس في تعميق النزعة العبثية في روايته من خلال طرائقه اللافتة في السرد واستخدام تقنيات سردية مختلفة واللغة الشعرية المكثفة والمزاوجة بين ضمائر السرد، والتناصات المعرفية في علم النفس والفلسفة؛ ما أثرى من الرواية وأغنى من عالمها التخييلي المتفرد.