Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    18-Feb-2018

بين الغياب والحضور - د. لانا مامكغ

الراي - كيف تمكّن من استشراف الأزمةِ في بداياتها ؟ لا أحدَ يعرف، لكنّه كان أمام التّحدّي الأهمّ بعد تسلّمه موقعِ المدير لمدرسة عريقة مثل مدرسة « المطران « في منتصف القرن الماضي... ولأنّه المديرُ العربيّ الأوّل بعد سنواتٍ من الإدارة الأجنبيّة، فقد شكّلت الظّاهرة بالنّسبةِ له قلقاً خاصّاً لا يدركُه إلا المؤرّقُ بالتّربيةِ الحقيقيّة، والمصلحةِ الوطنيّة...

إذ ضمّت المدرسةُ آنذاك طلبةٌ من مناطقَ وبيئاتٍ مختلفة؛ أبناءَ فلاحين وبدوا وسكّان مدن، وأبناءَ موظّفين، إضافةً إلى أبناءِ تجّارٍ مرموقين... لهذا، صارَهمُّه إيجادَ التّناغمِ بينهم بأيّ طريقة، وإلا، فقد أيقن أنَّ كلُّ فئةٍ منهم ستنكفىء على ذاتها، وتُقسم بنية المدرسة على أسسٍ أجتماعيّة أو طبقيّة أو مناطقيّة أو عشائرية أو أيّ هُوّيةٍ محدودةٍ... لا تتّفقُ ورؤاه في فلسفة التّربية والتّعليم !
ٍ فرعيّةٍ ضيّقة وهكذا، خطرت على بال المربّي الفذّ فكرةُ تقسيمِهم إلى فرقٍ ريّاضيّة؛ بحيثُ يضمُّ كلَّ فريق طالباً من فئةٍ معيّنة منهم، وسمّى الفرقَ بألوانٍ... فريق أحمر، وآخر أصفر، أو أبيض... إلخ، وشرعَ يجري المبارياتِ بينهم، ليجدَ الفروقَ جميعَها قد بدأت بالذّوبان والتّلاشي... لمّا شُغل كلٌ منهم بالحماسةِ والتّعلّق والانتماء للونِ فريقه لا غير هذا ما كان قد صرّحَ به المربّي الكبير» جريس هلسة « رحمَه االله في أحد اللقاءات التلفزيونيّة، ذاك الذي أدارَ تلك المدرسةَ لنصف قرن حقّق خلالها كذا إنجاز، لعلّ أهمَّها تكليفُ الطّلبةِ بزراعة أشجار في فناء مدرستهم، ومنهم كان الملك « الحسين « الرّاحل
 
الذي زرعَ ورفاقه شجرةً ظلَّ يسقيها بيديه حتى غادرَ المدرسة إلى كليّة فكتوريا في الاسكندريّة عام 1949 ،في حين ما زالت الشّجرةُ شامخةً هناك وتحملُ اسمَه حتى يومنا هذا...
وكتبَ « فوّاز الخريشا « أحد ُخريجي ذلك الصّرح إنَّ المدرسةَ لم تكن تدرّسُ التّربية الإسلاميّة في الوقت الذي كان فيه الرّاحل « جريس هلسة » يدرّسُ موّاد علميّة مختلفة قبل تولّيه الإدارة، فخرجَ الطّلابُ المسلمون والمسيحيّون كذلك، يتقدّمهم الرّاحلُ ذاتُه مع كلٍّ من غالب هلسة وجلال عبّاسي رحمهما االله، وهكذا حتى استجابت المدرسة للمطلب وعيّنت معلّمين لتدريس التربية الإسلاميّة !
هذا هو الأردن، وهكذا كان معظمُ مربّي الأجيال، الأردنُ الذي كان وسيبقى التّنوعُ قدَره الجميل، وسرُّ قوّتِه وسحرها... لا مكان فيه للعصبيّات الرّعناء، ولا للهوّيات المرَضية الضّيقة، لا مكان فيه إلا للهُوّية الوطنية الجامعة بعيداً عن أوبئة المناطقيّة والجَهوية وغيرها، لكنَّ المؤسفَ أنَّ بعضَ الشّباب غالباً ما يستقون ويستمدون عصبيّاتهم من داخل بيوتهم أوّلاً، هذا إن لم يكن من بعض الأجواء المدرسيّة، أو الجامعيّة التي تقصّرُ غالباً في احتواء توق الشّباب للانضواء تحت هُويّة ما، وهو ملمحٌ نمائي طبيعي في ذلك العمر، لكن غياب الخطط التربوية الواعية تقودُهم إلى ما نشهد من تعصّبٍ أعمى، واحتقانٍ موجعٍ دائم، ورفضٍ للآخرالمختلف دون مبرّر منطقي... إذ تمتلىء بيوتُنا بأطفالٍ كالورد أمّهم من هنا، وأبوهم من هناك... والعكسُ صحيح، ولستُ أعلمُ ما نوعُ الإجابةِ التي نحملُها لهؤلاء الملائكة الصّغار حين يسألون فلقد استمعتُ مثل غيري لهتافات بعض مشجعي الفرق الرّياضية مؤخّراً، عباراتٍ مُشينة يندى لها الجبين، فحضر السّؤال الحارق: لو كان في كلِّ بيت وليّ أمرٍ على شاكلة الرّاحل « جريس هلسة « هل كان سيخرجُ الابنُ متّجهاً إلى ستادٍ رياضي ليتفوّه بتلك الكلمات ؟ ولو كان مثلُ نموذج الرّاحل مديراً لمدرسته، أو أستاذاً في جامعته ؟
هل كان مثلُ ذلك الشّاب سيكون ضحيةً لذلك النّوع من الأفكار المريضة المدمّرة للذّات أوّلاً ؟
« جريس هلسة « غيابُك موجعٌ... لأنَّ ثمّة نوعاً من الغياب يساوي غيابات رحمَك االله، غابَ أمثالُك من الأنقياء، فحضرت ظواهرُ ومظاهر تُدمي القلوبَ من فرط بشاعتها... ولعلنّا نشكرُ االلهَ على أنّك غادرت دنيانا قبل أن تسمعَ ما سمعناه