Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    26-Jun-2020

الحب إشكال في «المحبوب»

 الدستور-خالد البلوشي

تبقى علاقة الفرد بالجماعة، مؤسّساتٍ وقيمًا وتقاليد، بين شدّ وجذب؛ فإذا ما أراد منها أمانها كان عليه أن ينحت نفسه بحسب أطرها، وإذا ما أراد أن ينتصر لذاته وكان في ذلك شيءٌ من الخروج على تلك الأطر فقد أمانها بمقدار خروجه عليها؛ من هذه المؤسّسات ما هو مشكلٌ على نحو يصعب به تحديد ما إذا كان مبادرة فرديّة أم منظومة جماعيّة، ما إذا كان قوّة تسائل ما هو قائم أم تناصره؛ فنجد، مثلًا، أنّ ثمة من جانب قصص حبّ يتحدّى فيها الأفراد العشّاق سلطة النظام الأبوي، ومن جانب آخر يعدّ الحبّ مادّة احتفاء نمطيّة في قصص وأغان شعبيّة حتّى في أكثر المجتمعات أبويّةً.
لعلّنا نرى وجهًا لهذين الجانبين في مسرحيّة ويليام شكسبير الرومانسيّة التراجيديّة المشهورة جدًّا: «روميو وجوليت»؛ فمن جهة تتصدّى المسرحيّة، بعشيقيها المشار إليهما بالعنوان،لسلطة الجماعة متمثّلةً بأسر بينها عداء، ومن جهة أخرى أسهمت، بتقنياتها الدراميّة وحبكتها الرئيسة المحكمة والمعزّزة بحبكات ثانويّة وبلغتها المجازيّة الجاذبة، في إرساء «الحبّ» مادّةَ تناولٍ لا إشكال فيها، راسمةً بذلك خطًّا سار على نهجه كثيرٌ مما تلاها من أعمال دراميّة وأفلام تجاريّة لا حصر لها.
هذا الخطّ يغضّ الطرف عمّا يمارسه الفرد بالحبّ من سلطة، فإذا كان «الحبّ» أداةً لتحدّي سطوة الجماعة فإنّه سلطة نفرضها على من نحبّ؛ فشخصيّة «حكاية ساعة» الرئيسة لكيتي تشوبين، مثلًا، امرأة تشعر، بعد سماعها بخبر وفاة زوجها في حادث، بشيء يدنو منها، شيء تترقّبه، بذعر وفزع،لا تعرف ما الشّيء هذا، ولكنّها تحسّ به يتسلّل إليها من السّماء خفية، يبلغها عبر ما فاح في الهواء من روائح وألوان وأصوات، شيء يواصل التسلّل إليها حتّى يأتيها همسًا يفلت من فمها: «الحرّيّة»؛ تقارن هذه بالحبّ، فتقول أو يقول الراوي ناطقًا بلسانها:»ماذا يساوي الحبّ، ذلك اللغز الذي لم يفكّ بعدُ، مقابل تملّكها أمر ذاتها؟! فقد أدركت فجأةً أنّ تملّكها هذا قوام وجودها وعماد كيانها؛» ومع أنّ ثمّة في القصّة رؤى نافذة حول الدراما النفسيّة المصاحبة لاكتشاف يصدم كيانك، فإنّها تنطلق، في التحليل الأخير، من الحبّ سلطةً تفرض على شخص آخر.
سأنتقل الآن إلى قصّة تتناول «الحبّ»خبرةً نفسيّة معقّدة مشكلة تأتي فيها السلطة تعبيرًا لقوى مجهولة لا نعيها، قوى قد يكون تأثيرها السلبي في أنفسنا أكبر من تأثيرها فيمن نودّ أن نمارس عليه السلطة باسم الحبّ أو من نودّ أن نمتلكه بوجه من الوجوه.
يبدو رجب العالي، الشخصيّة الرئيسة في «المحبوب» للقاصّة والروائيّة العمانيّة جوخة الحارثيّة «عاليًا» راقيًا، سلوكًا ومعرفةً؛ فهو يقدّر أهمّيّة التّفاصيل اليوميّة البسيطة، يهاتف زوجته من العمل غير مرّة ويسألها عمّا صغر وكبر من يومها، يطلب منها أن تهتمّ به طفلًا، تحلق شعره وتقصّ أظفاره، يرافقها إذا خرجت حتّى لما كان غير مهمّ من الأشياء؛ يحاول ألا يتوقّع منها شيئًا مؤمنًا بفكرة أنّك إن توقّعت شيئًا من شريكك فسدت على نفسك متعة الحياة الزوجيّة؛ كما يبدو مطّلعًا على أحوال النفس، عارفًا أنّ ثمّة قوى مجهولة يبقى الإنسان أمامها عاجزًا لا حول له ولا قوّة.
لكن هذا الرقي والتمدّن يخفي وراءه اضطرابًا وقتامة يعكسها عنصرا الزمان والمكان في أوّل القصّة؛ فالوقت آخر الليل، قبيل الفجر، وشجرة المانجو مغشية بزرقة قاتمة، وإن رأى رجب العالي ثمارها كانت منحنية بظلال كبيرة؛ هذا الجوّ القاتم انعكاس لغموض نفسيّة رجب أو، في كلمات أكثر دقّةً، لتوق غامض غير واع إلى الوضوح بشأن ما يقضّ مضجعه: رؤيا فتى نحيل أسمر مراهق شرب توًّا من ثلّاجة الماء العموميّة يصفّر بمرح، تمرّ عن يساره فتاةٌ عائدة للتوّ من المدرسة تحمل حقيبة ملآنة بكتب، فتاةٌ ما إن يسمع منها همسًا حتّى تختفي «كأي جنية...»؛ يكبر رجب وتكبر البنت، يتزوّج بها، يصبح كهلًا، إلّا أنّ الصورة التي أحبّها فتًى تظلّ «محفورة» بثبات في ذهنه كأنّما كانت خارج إطاري الزمان والمكان.
هذا الثبات يقابله اضطراب، اضطراب الحدود بين الرؤيا والرؤية، بين الحلم والواقع، بين الغموض والوضوح؛ فرغم قتامة أجواء الرؤيا فإنّ رجب، فتًى وكهلًا، يرى لون حقيبة التلميذة الأحمر والتماعة عينها أوضح من أيّ شيء آخر؛ هذا الصفاء يأتي على خلاف غموض «همسها المضطرب»، يريد من هذا الهمس أن يتلوّن بوضوح احمرار حقيبتها ويتألّق بالتماعة عينها،فيكافح في كشف كنهه طيلة حياته، إلّا أنّه كلّما أجهد نفسه فشل؛فالغموض هذا ليس إفرازًا ذهنيًّا مجرّدًا، وإنما هو حالة نفسيّة تكتنفها معان بعضها له علاقة بالسّلطة، فهو يرى الغموض «سلاحها» للعبث به والسيطرة عليه؛ لذا يسعى إلى تفكيكه، وذلك بكشفه نطقًا صريحًا لا لبس فيه، فيحاول أن يقوّلها ما يبدو أنّها لم تقله، بطريقة فيها غلظة وشدّة، إذ يهزّ كتفيها وينهش طرف أذنها قائلًا لها: «قلتِ .. قلتِ، تذكرين، قرب الثلاجة..».
واللافت أنّ مأتى ذعر رجب ووسوسته ليس أذًى جسديًّا ولا قولًا جهيرًا بذيئًا، وإنّما هو هذا الهمس الذي ربّما كان أقرب إلى بنت خياله نفسه منه إلى كلمة خرجت من فم البنت العائدة من المدرسة؛ فنحن لا نعلم على وجه اليقين إن كان قد أتى منها، وإن أتى منها أكان أمرًا ذا بال أم لا؟ ويؤكّد لنا الراوي مبلغ صغر الهمس باستخدامه صيغة التصغير لـ»ذاك» في الإحالة إليه: «ذياك الهمس»؛ ولكن رجب العالي من فرط وعيه به يكبّره أضعافًا مضاعفة، فيتحوّل إلى طاقة تصرفه عن سواه، فطقوس الخطبة وعرس الزواج، مثلًا، أو فلنقل تقاليد تملّكه إيّاها اجتماعًا،تصبح كلّها»مجرّد خيوط باهتة مهترئة»، بل إنّه يرى في طفلته «البنت التي أصبحت زوجته.»
يبدو رجب العالي شديد الوعي باستحواذ الهمس عليه، بتألّمه من غموضه، ولكنّه يضفي على كلّ ذلك طابعًا فكريًّا، فيعبّر عنه بقوله: «’العجز عن امتلاك المحبوب‘«؛ فـ»رغبته العارمة تظلّ دائمًا منقوصة وغير مكتملة، وهو يريدها، يريدها له، وهي ليست له، رغم كلّ السنوات التي أمضياها معًا،» فالبادي أنّ ما يسمّيه بـ»امتلاك المحبوب» يعني عنده أن يفنى فيك من تحبّ، فلا يرى أحدًا سواك، ومثل هذا الفناء في الآخر لا يتأتّى إلّا إذا نسي المحبوب نفسه، وإن فعل كان أقرب إلى قالب وأنموذج جامد منه إلى إنسان عرضة لصروف الزمن وتقلّبات النفس؛فالحبّ عند رجب حالة واحدة لا ثاني لها، حالة جمدت في نظره جمودَ الرؤيا، فهو لا يرى المرأة التي تعيش معه وجودًا وخبرةً وتجارب، وإنما يلوذ بتلك الحالة الواحدة؛ بيد أنّ تلك الحالة لا تنزل عليه بردًا ولا سلامًا، وإنّما «تمعن» في «تمزيقه»، فيتألم، فيسلك مسلكًا شرسًا تجاه زوجته، من ذلك أنّه يضربها مرارًا حتى تسقط مغشيًا عليها ويباغتها غير مرّة ليغتصبها.
خلاصة القول إنّ الحبّ في جزء منه هنا طاقة تدفع برجب العالي إلى ما يسبّب له ولمن يحبّ كثيرًا من الألم؛ ومن المفارقة أنّ هذه الطاقة السّلبيّة يرسخها، وإن على نحو دقيق، الخطاب الذكوري؛ فمع أنّ الراوي يتواطأ مع رجب العالي في تغييب صوت المرأة في وجوه عدّة يضيق المقام بشرحها فإنّ القارئ لا يصعب عليه أن يخلص إلى أنّ غموض «الهمس» ربما كان إشارة إلى خبرات المرأة التي لم تتحوّل بعدُ إلى رموز لغويّة يشاطرها المجتمع، ذكورًا وإناثًا؛ ولما كان الرجل يرى ما تريه اللغة السّائدة ويعمى عمّا تغضّ عنه أو ما لا تقرّ بشرعيّته، ولمّا كان حبّه «امتلاكًا» (أو، أقلّه، سعيًا إليه) فإنّ ما يأتيه من المرأة يؤوِّله بلغة السطوة أيضًا، والنتيجة أنّ رجب»بقي معذّبًا» بما يسمّيه بـ»نظرة الاستعلاء في عينها».
ولكن هذا التأويل بدوره أثر تراكميّ لا يمكن أن يختزل في عاطفة واحدة واضحة؛ فربما كان سعي رجب إلى «امتلاك» من يحبّ أثرًا أو نتيجة لتلك الرؤيا، لتلك القوّة أو القوى المجهولة التي استبدّت به فتًى، وربّما كانت التلميذة العائدة توًّا من المدرسة ترجمة لانجذابه إلى غير جنسه انجذابًا يعجز نفسه عن فهم كنهه أو ربّما حلمًا وحسب، فالتي تعيش معه زوجةً لا تذكر شيئًا عن الهمس؛ أيًّا كان الأمر فرجب العالي في كلّ هذه ليس بالفرد المتماسك منطقيًّا ولا هو بالواعي بالحبّ شعورًا واحدًا ولا هو بالمبادر إلى امتلاك من يحبّ.
من هنا أقول على سبيل الختام إنّ الحبّ الذي يحتفي به إنّما هو مادّةٌ إعلاميّة، والحبّ الذي يُبرَّر به فرض سلطة إنّما هو أداةٌ سياسيّة، أمّا الحبّ تجربةً وخبرةً فهو من الشمول والتعقيد ما كان كثيرة مجهولًا لنا، وإن قلنا بمعرفتنا بقليله فنحن لا سبيل لنا إلى القطع في قولنا.