Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    19-Apr-2019

بين محمود السمرة ومحمد مندور والممارسة النقدية

 الدستور-أ. د. إبراهيم خليل 

يعد محمد مندور (1907- 1965) ثالثَ ثلاثة شُغل بهم المرحوم السمرة في أخَرة من عمره، فعكف أولا على قراءة آثار العقاد، فكان كتابه « العقاد دراسة أدبية « 2004، ثم عكف على قراءة آثار طه حسين، فكان كتابه « سارق النار طه حسين « 2004، وأخيرا يأتي هذا الكتاب « محمد مندور شيخ النقاد « (2006) ليتم به هذه السلسلة من الكتب، ففيه نجد المؤلف يتتبع آثار الناقد بدءًا من كتابه «النقد المنهجي عند العرب» مرورا بسائر مؤلفاته: في الأدب والنقد، والأدب وفنونه، والأدب ومذاهبه، وفي الميزان الجديد، ونماذج بشرية، و المسرح النثري، ومسرحيات شوقي، وقضايا جديدة في أدبنا المعاصر، والشعر المصري بعد شوقي، وانتهاء بكتابه « النقد والنقاد المعاصرون..»
وجريًا على عادته يبدأ أستاذنا كتابه عن مندور بنبذة عن سيرة الناقد الأدبي، وقد رأيناهُ يفعل هذا في كتابه عن القاضي الجرجاني، وفي كتابه عن العقاد، وكتابه عن طه حسين، وأخيرًا في هذا الكتاب، مما يرسِّخ في الأذهان أن الكتابة عن النقاد كالكتابة عن الشعراء والأدباء، لا بد من أن تبدأ، أو تنطلق، من الحديث عن حياة الناقد، والعوامل التي أثرت فيه. ونحن - ها هنا- لا نحذو حذوهُ؛ لأن ما يعنينا في هذا الموْضع هو ما يرتأيه أستاذنا في ممارسة مندور النقدية من آراء. لذا نتجاوز السيرة إلى شيء مهم، وهو حماسة مندور لنقدنا، وأدبنا القديم. وهذا ما توقّف عنده أستاذنا. فمندور يرى في الشعر الذي قيل في عصر البداوة مزيَّة لا يجدها في  الشعر الذي قيل في عصر الحضارة. فالرجل الفطري يستطيعُ، بإحساسه، أن يبدع أجود الشعر في صياغة مشاعره، وهو ليس في حاجة إلى العقل الناضج ليرى جوانب الأشياء، ومن الثابت أن الشعر لا يحتاج لمعرفة كبيرة بالحياة، بل ربما كان الجهْل بها أكثر مواتاةً للشعر الجيّد، وربما كان أجودُه أكثرَهُ سذاجة» (ص36)
وهو إلى ذلك يكرِّر القول إن الذوق، والنقد، وجها قطعة النقود الواحدة، فليس من المرغوب فيه أن نتخلى عن استجابتنا التلقائية للأعمال الأدبية، لأن من طبيعة الأدب أن يثير فينا هذه الاستجابة. (ص38) ويستخلص أستاذنا من هذا الملْحظ أن مندورًا لا يختلف عن طه حسين في أنه انطباعيٌ تارة، وتأثريٌ تارةً أخرى. فللتأثر دوره في المرحلة الأولى من الممارسة النقدية، أما الثانية، فهي التي تُسْتقصى فيها الأسباب المفسِّرة لذلك التأثر. فالناقدُ يستخدم في نقده حساسيته المرهفة قبل اللجوء إلى ثقافته، ورصيده المعرفي. وتبعًا لذلك، فإنَّ النقد عند مندور لا هو ذاتي خالص، ولا موضوعيٌ خالص، وإنما هو مزيج من الاثنين(ص39).
 لانسون
ويضيفُ أستاذنا لما سبق أنَّ مندورا تأثر بأستاذه لانسون، وقد تجلّى هذا  الأثر في نزوعه لقراءة النصوص وتفسيرها، وبرز ذلك بوضوح في كتابه الأول « في الأدب والنقد «. ومثلما تأثر بلانسون تأثر بجورج دوهامل، مؤلف كتاب « دفاع عن الأدب» الذي ترجمه للعربية وصدر عن الدار القومية للطباعة والنشر – سلسلة من الشرق والغرب- مع مقدمة ضافية من ص5- 32. فالفنُّ عندهما، كالأدب، صنعةٌ لا إلهام(ص51). والفنان في رأي مندور – كالأديب- لا يعبر في أعماله عن تجربته الخاصة حسب، فهو بخياله الخصب، الخلاق، يستطيع أنْ يعبر عن الإنسان في مواقف مختلفة، وكأنه عاشها بنفسه (ص52). ويتفق مندور مع لانسون في أن الشعراء يعرفون من أسرار الشعر ما لا يعرفه نقادُه، وأما الأسلوب الشعري، فهو الذي يطمَحُ لإذابة الفوارق بين الألفاظ والمعاني، على فرض أنّ ثمة فرقًا، فمن زاوية جمالية خالصة ليس ثمة فرق بين الشكل والمضمون، ولا بين اللفظ والمعنى. وفي ذلك يقولُ أستاذنا عن مندور إنه يرى في الألفاظ الشعرية ألفاظاً حافلة بظلال كثيرة، من المعاني، والموسيقى الموحية، مما يفنِّد القوْلَ المألوف عن أنها أوعية للمعاني. (ص55) فالمعاني لدى مندور أمورٌ ثانوية، بينما الكلماتُ هي روحُ الشعر، وهي ليست وسيلة تعبير مثلما يُظن، إنما هي خلقٌ فني. واستعمال الشاعر لهذه الكلمات هو الذي يجعل من الشعر شعرًا جيدًا (ص56) وتبعًا لهذا لا يجد أستاذنا في موقف مندور ما يتعارض مع موقف الرمزيّين، فالشعر عنده إيحاءٌ، وتلميحٌ، وسبيله إلى ذلك هو الموسيقى التي تنبعث من جُروس الأصوات، وموسيقى التراكيب. وقد ألمح مندور للوظائف التي تؤديها الصوائت في القصيدة، ففي تعليق له على أبيات لأبي شادي يرى في حروف العلَّة الطويلة حروفًا أكثر نجاحًا من الكلماتِ في نقل توْق الشاعر (ص58) وَشَغَفه.
 هل النقد علم؟
وعن السؤال حول طبيعة النقد الأدبي، وهل هو علمٌ أم فنّ، يرى أستاذنا أن مندورًا من أنصار القول بفنية النقد، كونه يسعى للكشف عن القيم التي يُهْملها العلم، وجل المحاولات التي سعت لجعل النقد علما باءت بالفشل الذريع. (ص60) ومندور لا يكتفي بهذا، فهو يُنكر على برونتيير إقحامه نظرية داروين عن النشوء، والبقاء للأصلح، في الأدب، فإقحام مثل هذه النظرية لا يمكن أن يفيد الأدب في شيء، ولعله يفسده لكثرة ما فيه من التعسُّف. (ص62) وموقفه هذا ينسحب على نظرية الحتمية التاريخية التي تبناها تينTaine  فهو، على الرغم من قناعته بتأثير بعض العوامل الخارجية كالبيئة، والمجتَمَع، في الأدب، إلا أنه يرفض رفضًا باتًا قاطعًا الزعم بأن الأدب، أو الأديب، نتاج هذه العوامل، ويرفض – أساسًا – تفسير الأدب في ضوء حياة الأديب. وهذا يعني – في صورةٍ من الصُور- رفضه لنهج سانت بيف، ورفضه الاعتماد على علم النفس في دراسة الأدب (ص63) وتبعًا لهذا يجدُه أستاذنا غير راض عن جُلِّ الدراسات التي كُتبت عن أبي العلاء المعري، فهو يسخر من دراسة العقاد لزعمه أن المعري من أوائل الاشتراكيّين، وأنه كان دارْونيّ الهوى(ص64). ووجَّه نقدًا قاسيًا لكل من العقاد ومحمد النويهي على دراستيْهما لأبي نواس، وبشار بن برد، وما فيهما من أحاديث مطولة عن الشذوذ الجنسي، وعن الجينات، والغُدَد.(ص65) ويتلخص موقف مندور من التحليل النفسي بالعبارة الآتية: إن تطبيق علم النفس على الأدب ينبغي له أن يتمَّ في حَذَرٍ بالغ. (ص66) وهو في هذا على وفاق مع طه حسين(ص67).
 مندور والمسرح
وقد لاحظ أستاذنا أن ما كتبه مندور عن الرواية، والقصة القصيرة، أقلّ منْ أنْ يُؤْبه له، ولكنه في المقابل كتب الكثير من النقد المسرحي. ولعلَّ من أبرز آرائه التي يُعتد بها نفيه أن يكون الأدب العربي القديم عرف المسرح، إذ من العبث - في رأيه - مجاراة بعض المتعصبين ممن يرون أن هذا الفن كان موجودًا في الأدب العربي القديم، ومن العبث أيضا الادعاء بأن المصريين المحدثين ورثوا المسرح عن أدب مصر القديمة (ص80). وهذا يعني أن مندورًا يرى في الأدب المسرحي نوعا جديدًا ظهر في حياتنا العربية عن طريق التثاقُف. والأدب المسرحي في رأيه من أكثر الفنون الأدبية تعبيرًا عن الحياة، ففيه تجتمع الأسطورة مع التاريخ.. مع الحياة المعاصرة، والواقع مع الخيال، وتجربة الكاتب مع تجارب الآخرين(ص86)، ولذا كان الانشغالُ بالأدب المسرحي تأليفًا، وإخراجًا، ونقدًا، من دلالات التطور في الحياة الأدبية، والفنية، والنقدية.
ولمندور نقدٌ جريءٌ لبعض المسرحيات، فمسرحية « شجرة الدر « لعزيز أباظة لا تعدو كونها فصلا من التاريخ، وليس فيه شيءٌ من المسرح. (ص92) وفي رده على نقد العقاد لمسرحية شوقي (قمبيز) يقول: إن كاتب المسرحية لا ينبغي له أن يلتزم حرفيًا بما ذُكر في كتب التاريخ.(ص93) وقد أخذ على مسرحية «أميرة الأندلس» لشوقي لجوءه إلى حبكة جانبية، وهي زواج ابنة المعتمد من شابٍ أحبَّتْه، فهذه الحبكة أضرَّتْ بالمسرحية، وأضرت بوحدة الحبكة. (ص95) وفي كتاباته يلحُّ على مزية الأدب المسرحي المتمثلة في الصراع. وهو في الغالب يرى في مسرحيات شوقي صراعًا يفتقِرُ للعمق، مما يضعف الجانب الدرامي.(ص97) فشوقي لا يحسن إدارة الصراع؛ لأنه يغالي في التركيز على العواطف الشخصية للبطل المسرحي(ص98). ونموُّ الشخوص لدى كلٍّ من شوقي، وأباظه، نموٌّ ضعيف، وما يحدث من تغيير لدى الشخوص غالبًا ما يأتي بصور مفاجئة لا تتَّفق مع الدوافع الموجودة. وهذا يتجلى في « مصرع كليوبطرة « لشوقي. (ص99) ومما يُؤخذ على شخصيات هذه المسرحية أنّ تصرفاتها لا تبدو طبيعية، مما يؤدي لشعور المشاهد بغياب الإيهام بالواقع. أي أنَّ الشخصية، والأفعال التي تقوم بها، لا تنْسجم مع قانوني الاحتمال والضرورة. 
ولمندور آراؤه اللافتة بالنسبة للُغة الحوار، فهو لا يشترط أنْ تكون العربية الفصحى لغة الحوار الوحيدة، ونجده يسخر من فرح أنطون الذي حاول استعمال ثلاثة أنماط في الحوار هي: العربية الفُصحى، والفصيحة، والعامية. ويرى مندور- في ما يذكره أستاذنا - أنّ طبيعة الموضوع تتطلب اللغة المناسبة في الحوار، فالكوميديا تتطلب استخدام الدارجة، أما التراجيديا فتتطلب استخدام العربية الفصحى، وكذلك المسرحية التاريخية، والمسرحية الفكرية، والمسرحيات المترجمة. (ص104) ووجد مندور في مسرحيات توفيق الحكيم مادَّة غنية يعرض من خلالها آراءَه في لغة الحوار المسرحي. على أن لأستاذنا رأيًا في ما كتبه مندور من نقدٍ مسرحي، فهو ،على الأرجح، نقدٌ غيرُ عميق، وعلة ذلك أن المسرح فنٌ جديد في أدبنا العربي الحديث، وليس ثمة تراثٌ نقديٌ يرتبط بهذا الفنّ، ولهذا جاء نقدُه ريادة في أرض وَعِرَة، لا تخلو من عثرة بين الحين والآخر ، ولكنْ، إذا قارنا نقده المسرحي بما كتبه معاصروه، وجدناهُ متفوقًا عليهم(ص128).
 الشعر المهموس
وثمة شيءٌ آخر لفتَ أستاذُنا إليه النظر، وهو ما كتبه عن الشعر المهموس. وفي هذا المقام يؤكد أن ما يرمي إليه مندور من هذا الحديث هو تحرير الشعر العربي من النَغَمَة الخطابية، التي هيمنت عليه من عصر المتنبي إلى عصر شوقي. وقد استحوذ الشعر المهجري على إعجابه لما فيه من الموسيقى العذبة الهامسة، غير المجلْجِلَة، وفي اعتقاد أستاذنا أن هذا الميل للشعر الهادئ، الرزين، السَلِس، يفسر لنا تعاطف مندور مع الشعر الجديد الحرّ، خلافا لموقف العقاد الذي اتصفَ بالتشنّج.
صفوَةُ القول أنَّ السمرة راضٍ الرضا كلَّه عن الناقد مندور، خلافا لموقفه من العقاد، فهو يثني على رأيه في أن النقد فنٌ لا علم، للذوق فيه المقامُ الأول، وعلى موقفه من التطبيق المتعسّف للنظريات العلمية في دراسة الأدب، مما يجعله على خلاف مع طه حسين، والعقّاد؛ فهو لا يُؤْمن بالحتمية التاريخية، وأن الأديب نتاج عوامل الزمن، والمكان، والجنس، ولا يؤمن بأن النتاج الأدبي تعبيرٌ عن الأحوال السيكولوجية المرضيَّة للأديب من نرجسية، أو شذوذ، أوْ عُقَد نفسيةلم يثبت العلم صحَّة القول بها، وهو يرى في المسرح تعبيرًا عن الحياة الجديدة المتجدِّدة أكثر مما يعبر عنها أي نوع أدبيّ آخر، علاوة على أنه يمقت الشعر الخطابيّ الذي تهيمن عليه الموسيقى الصاخبة، ويأنسُ للشعر الرقيق الهامِس، وهذا يتيح له تذوُّق الشعر الجديد الحر، لأنه- في الأصل- يقوم على تجنّب الوزن التقليدي، ويميل إلى التحرُّر من القوالب الجامِدَة المهْجورَة.