Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    10-Mar-2018

أريد ألاّ احترس بكلامي مرة واحدة! إميل حبيبي: «رواية المتشائل» - يوسف عبداالله محمود

 الراي - وردت هذه العبارة على لسان احدى شخصيات رواية «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» للروائي الفلسطيني أميل حبيبي.

عبارة تحمل في طياتها الإصرار على مواجهة العدو الصهيوني دون التفات الى اي تحذير من هنا او هناك.
في روايته هذه التي سبق لي أن كتبت عن بعض محاورها في مقال سابق، سأتطرق إليها من زوايا أخرى. انها عمل ابداعي فذّ وصفه كاتب المقدمة الناقد المصري الكبير د. علي الراعي بهذه الكلمات «شكل عربي للرواية امتص رحيق الف ليلة وليلة شملته روح الجاحظ الساخرة حيناً، المتفاكهة حيناً آخر».
إميل حبيبي في روايته هذه تقمصّ روح الجاحظ الذي عرّى في زمانه بسخريته اللاذعة الفساد في عصره. في روايته الفذة «المتشائل» يضحكنا حبيبي ويبكينا في آن. يسخر من مفارقات يعجّ بها عالم غابت عنه أبسط معايير العدالة الانسانية. يدين هذا المبدع والمناضل الاجتماعي الحكم العنصري في إسرائيل.
المفارقة ان هذا الروائي جعل شخصيته الرئيسية انساناً ممزقاً، قبل ان يعمل مع الصهاينة تمويهاً، بينما أشواقه تتطلع الى التحرر. تصرفات «المتشائل» –وكما وصفها د. الراعي- تعكس «تمزق بعض عرب الداخل بين ضرورة الخضوع لأمر واقع ورغبة لا تهدأ في التحرير من هذا الواقع».
إميل حبيبي في عمله الفني هذا جعل المتعاون مع اسرائيل كالقاعد على الخازوق يقاوم كل من يحاول تخليصه منه. والنتيجة ان عقله يذهب فيطير على اجنحة الجنون الى الفضاء السحيق.
ينجب المتشائل وزوجه «باقية» مولوداً اسمياه «ولاء» بالرغم من اعتراض الكبير الصهيوني على هذا الاسم. يكبر ولاء ويلتحق بالعمل الفدائي، الصهاينة يترصدون ولاء، يبحثون عنه لخطورته. يرغمون والديه على إجباره بالتسليم. يرفض ولاء توسلات أمه، يدور بينهما هذا الحوار:
الأم: ولاء يا ولدي ألق سلاحك واخرج من كهفك الضيق.
ولاء: اتيت الى هذا الكهف لأتنفس بحرية، مرة واحدة أن اتنفس بحرية. في المدرسة حذرتموني: احترس بكلامك! فلما اخبرتكم بأن معلمي صديقي، همستم: لعله عين عليك»! وكنت ادندن في الحمام، فصاح بي أبي: غيّر هذا اللحن، إن للجدران آذاناً، فاحترس بكلامك!»
احترس بكلامك! احترس بكلامك! «اريد الا احترس بكلامي مرة واحدة!» إنه التمرد المشروع تجسده مفردات شجاعة.
هذا الحوار الممتلئ بالاصرار على مواجهة العدو الصهيوني رافق ولاء طيلة حياته. لم تستطع الام اقناعة بالاستسلام، الحوار بينهما يثير حماس الام فتنضم الى ابنها ولاء!.
من المفارقات المضحكة والمحزنة في آن ان صديق المتشائل يعقوب أنّبه حين سمع المذيع الاسرائيلي يدعو العرب المهزومين الى رفع الأعلام البيضاء فوق اسطح منازلهم، فما كان منه –أي المتشائل- إلا ان صنع من بياض فراشه علماً ابيض علقه على عصا مكنسة، ونصبها على سطح بيته في شارع الجبل في حيفا. أنّبه قائلاً: إن نداء المذيع موجه نحو عرب الضفة. انت ما شأنك في ذلك في حيفا التي هي في قلب الدولة ولا احد يعتبرها مدينة محتلة! (الرواية ص 121.( لم يشفع للمتشائل إفراطه في الولاء، فالرجل الكبير الاسرائيلي اعتبر ما قام به تمويهاً وتغابياً، واسرع بتسليمه الى مدير السجن.
في روايته اشارة ذكية الى ان محاولة العمل مع الحكم الاسرائيلي تؤدي الى طريق مسدود.
يستخف الضابط اليهودي وهو يوجه حديثه للمتشائل بقول الشاعر الفلسطيني توفيق زياد حين انشد:
سأحفر رقم كل قسيمة
من ارضنا سلبت
وموقع قريتي وحدودها
سأبقى دائماً أحفر
جميع فصول مأساتي
وكل مراحل النكبة
من الحبّة
الى القُبّة
على زيتونة
في ساحة الدار.
يستخف هذا الضابط موجهاً كلامه الى المتشائل «إلام يظل يحفر وتظل سنون النسيان تعبر وتمحو؟ ومتى سيقرأ لنا المكتوب على الزيتونة؟ وهل بقيت زيتونة في ساحة الدار؟» ص 33.
المتشائل لاذ بالصمت.
المتشائل ليس غبياً وثرثاراً بل هو وكما وصفه كاتب مقدمة الرواية د. علي الراعي بأنه المهرج الفيلسوف اشبه بالمتشرد شارلي او المطحون الدائم في مسرحياته الريحاني.
اميل حبيبي في عمله الابداعي هذا يصور معاناة فلسطيني الداخل من الارض المحتلة عام 1948 .أسلوبه الساخر مكنه من تصوير مأساة مواطنيه في الداخل. بطل الرواية كما رسم حبيبي شخصية لا تريد ان تموت كأسلافه مقوس الظهر. «اما أنا فقررت الا أموت مقوس الظهر كأسلافي» ص 39.
وبعد، إن اميل حبيبي في جميع رواياته الفنية حرص ان يوصل رسائله الى العرب اولاً والى ما يسمى بالعالم الحر ثانياً موضحاً لهم ان صمتهم المشين عن اقدس قضية هو سُبّة عار لا تنجيهم من إدانة التاريخ.
وصدق حبيبي حين قال في رواية اخرى متهكماً: راح زمن الانتيكا وبقيت الانتيكا.
ستظل اعمال حبيبي تخز الضمير العربي الذي لم يؤرقه الوجع الفلسطيني. سخريته المرّة تدين التخلي الرسمي العربي عن وطن عربي محتل اسمه فلسطين.
يبقى ان اقول إننا نعيش هواناً عربياً غير مسبوق. يُغار علينا ولا نغير. «حين تصبح الحياة ارخص من الموت يصبح ما أصعب من بذلها ان نعضّ عليها بالنواجد» أميل حبيبي.