Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    21-Aug-2014

القاسم.. وداعاً* د.سمير قطامي
الراي - تعرفتُ على سميح القاسم سنة 1966، عندما قرأت كتاب (غسان كنفاني: أدب المقاومة)، وكان ذلك قبل أن يعرف العالم العربي شعراء المقاومة العرب في فلسطين الذين كانوا يعانون من عزلة عربية.. وقد شدّني في ذلك الشاعر الشاب آنذاك وروحه المتوفّزة وحسّه الثوري ونزوعه العربي(وهو الدرزي)، وإيمانه بأمته ورفضه للاحتلال الإسرائيلي ووسائله الخسيسة في خلق الانقسامات بين مكونات الشعب الفلسطيني.. وقد أحسست مما يتوافر بين يديّ من نماذج شعرية لسميح وزملائه من شعراء فلسطين كمحمود درويش وتوفيق زيّاد وحنا أبي حنا وراشد حسين كم ظلمنا هؤلاء الأشقاء الذين ظلوا قابضين على الجمر، ملتصقين بأرضهم، منتمين لأمتهم التي كادت تنكرهم.
وكان لي فضل تعريف طلبتي الذين كنت أدرّسهم في ثانوية إربد آنذاك بهؤلاء الشعراء قبل أن تنتشر أسماؤهم في العالم الفلسطيني عن طريق الأردن ولبنان إلى أقطار العروبة لتغدو ظاهرة أدبية ونقدية اسمها (أدب المقاومة) و(شعر المقاومة)، تُنشر في إطاره دواوين وروايات وقصص كان مضى على إنتاجها زمنٌ طويل، وتكتب الدراسات والتحليلات والمقالات عن ذلك الأدب وروحه وأثره.
وكان جلّ ذلك في إطار الحب والإعجاب والتقدير والاستحسان، إلى حدّ أن محمود درويش قد كتب في ذلك الوقت مقالةً بعنوان (انقذونا من هذا الحب القاسي)، يرجو فيها النقاد العرب الذين يبالغون في الثناء والإعجاب أن يوجّهوا لهم نقداً علمياً ويقيّموا أعمالهم تقييماً موضوعيّاً.
عمّت ظاهرة أدب المقاومة العالم العربي واشتهر أدباؤنا في الأقطار العربية وغدت دواوينهم وكتبهم تحقق أكبر نسبة طباعة وتوزيع في الدول العربية، بل إنّ كثيراً من أعمالهم تُرجم إلى لغات عديدة وحظي أصحاب هذه الأعمال باهتمام النقاد والأجانب، في الوقت الذي كان فيه أصحابها يعانون العنت والقهر والتضييق الإسرائيلي، مما دفع محمود درويش سنة 1968 إلى ترك فلسطين والعيش خارجها لينشب بينه وبين زميله سميح القاسم خلاف حول ذلك بدا على صفحات الصحف والمجلات؛ إذ كان سميح القاسم يعاتبه على تركه الوطن والخروج، فيرد عليه محمود بأنني ما عدت قادراً على الاحتمال، ليعود سميح ويرد عليه بأنّه إذا كان كل من سيتعرض للتضييق لا يحتمل ويهاجر فهذا يعني أنّ الوطن سيخلو من أهله.
في سبعينات القرن العشرين أخذ بعض الأدباء الفلسطينيين يزورون البلاد العربية ويشاركون في المهرجانات والمنتديات واللقاءات، وكان سميح القاسم أحد أنشط الأدباء الفلسطينيين الذين زاروا معظم الأقطار العربية، وقدموا فيها مشاركات أدبية وشعرية، وقد استضفناه في الجامعة الأردنية أكثر من مرّة وكان سعيداً وهو يستمع لآراء الطلاب ويحاورهم، كما قدّمت درسات أكاديمية في الجامعة الأردنية عن شعره وأدبه.
سميح القاسم واحد من أهم شعراء فلسطين وأدبائها إن لم يكن أهمهم ومن أكثرهم شعبيةً وجماهيرية، ومن أغزرهم إنتاجاً، فما تزال قصائده مثل (منتصب القامة أمشي)، و(تقدّموا) وغيرها يتغنى بها الكبار والصغار في فلسطين وفي الوطن العربي، وقد تنوّع إنتاجه الغزير بين الشعر والنثر، بين القصيدة والقصة والرواية والنقد، وقد أبدع في كلّ ما كتب، وإذا كان بعضهم قد أخذ عليه أنّ شعره خطابي وتقريري، فقد كان يعلم بحسّه وروحه الشعبية أنّ هذا الشعر هو الأكثر إثارةً وتأثيراً وأهميةً للجماهير الفلسطينية تحت الاحتلال، تلك الجماهير التي يناسبها هذا الشعر أكثر من الشعر المغلّف بالرموز والطلاسم.
سميح القاسم من أوسع شعراء فلسطين تمثّلاً للموروث الشعبي والديني والتاريخي في المنطقة، ومن أكثرهم توظيفاً له في شعره، فهو شاعر مثقف ثقافة واسعة في شتى مجالات المعرفة الدينية والأدبية والتراثية والثقافية، ومن أكثر الشعراء قدرةً وبراعةً على توظيف الجوانب المشرقة في التاريخ وسحبها على الواقع العربي، ومن أكثر شعراء فلسطين امتلاكاً لأدوات اللغة ووسائل التعبير ومعرفةً بأسرار اللغة العربية، يتصرف بها كما يتصرف الحاوي بأدواته، وكان في كلّ ما كتب وأبدع رائداً وطنياً وقومياً وإنسانياً، لا يكره اليهود لأنهم يهود، بل يكره الصهيونية لأنها حركة عنصرية استولت على أرض العرب والفلسطينيين، وقد ظلّ طوال حياته جريئاً في التزامه برؤيته الوطنية والقومية والإنسانية، مستفيداً من هامش الحرية المتاح له في النشر والكتابة، كونه عضواً في الحزب الشيوعي العربي ومشرفاً على إصدار مجلّة، ومع ذلك لم ينج كثيرٌ من قصائده التي طُبعت في الأرض المحتلة من سكين الرقابة العسكرية وطمسها.
بفقدنا لسميح القاسم فقدنا أديباً مبدعاً وشاعراً كبيراً وعلماً وطنياً عظيماً وقومياً رائعاً وإنساناً سامياً قلّ أن يجود الزمان بمثله، فرحمة الله عليك يا أبا محمد، يا ابن الزرقاء الذي تبكيك الزرقاء، ويبكيك الأردن وتبكيك فلسطين.