Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    01-Feb-2017

زمانان في عالم واحد أم عالمان في زمن واحد؟! - أ. د. عبدالله نقرش
 
الغد- نذكر أنه في معرض حديثه عن الثورة الإيرانية في أواخر سبعينيات القرن الماضي، قال محمد حسنين هيكل عن الخميني إنه سهم انطلق من القرون الوسطى ليستقر في القرن العشرين. ومع أن حلم الخميني بولاية الفقيه ارتد اليوم إلى القرن التاسع الميلادي في عهد الدولة الساسانية الفارسية، إلا أن أدوات تحقيق الحلم تمزج بين القديم والحديث بامتياز. ولربما ينطبق هذا الوصف على ما يجري في العالم العربي اليوم؛ فهناك الكثير من السهام التي انطلقت في القرون الوسطى وربما ما قبلها وبعدها، لكنها كلها ليست من سهام القرن الواحد والعشرين، إلا سهم واحد هو سهم الأمة الذي وصف بأنه "ربيع"، وإن اختلط فيه لون الورد مع لون الدم.
إن إمعان النظر في ما يحدث في العالم العربي من تفاعلات وأحداث ووقائع، حتى على مستوى التفاصيل، يكشف عن أن العالم العربي لا يتفق مع السياق العالمي؛ لا من حيث طبيعة ما يحدث، ولا من حيث التوافق الزمني والظروف التي تشكل نسق المجتمع الدولي واهتماماته وغاياته، الأمر الذي يجعل العالم العربي يبدو وكأنه يعيش خارج الزمن التاريخي الراهن، ويتناقض مع طبيعته وبنيته.
يعيش عالم اليوم، في أغلب مكوناته ومنظوماته، في ظل عناوين رئيسة انبثقت من تراكم التجارب التاريخية الإنسانية، وفي سياق متواصل من الخبرات والإنجازات التي حققتها الشعوب وتحرص على بقائها وتطورها. ومع أن هذه العناوين لا تمثل الـخلاصات الإيجابية وحسب، وإنما تعكس أيضاً العبر الإيجابية من التجارب السلبية، إلا أنها تشكل بمجموعها نسقاً منضبطاً وهادياً لمسيرة التقدم الإنساني. ومع وجود تحفظات قوية على كثير من مفردات الخطاب الدولي الراهن، فإن خلاصته تفيد بإمكانية تحقيق تقدم إنساني في مجالات عدة.
فعنوان "حتمية التقدم" يفرض نفسه كغاية لمختلف الشعوب. وهو من الشمول والتنوع بحيث يتصل بكل مناحي الحياة، بمختلف أطوارها؛ ويشكل قيمة إنسانية تجتهد وتجاهد كل الشعوب لتحقيقها وباستمرار. وفي "السعي نحو التقدم" تواجه المجتمعات تحديات الفكر والثقافة والقيم، علاوة على التحديات المادية والمعيشية والارتقاء الإنساني؛ بمعنى التأكيد على كل ما من شأنه أن يتجاوز أوجه التخلف المحسوس والمستتر. وفي سبيل هذه الغاية، تعتمد المجتمعات على نفسها وعلى غيرها، وعلى تنمية قدراتها وتطورها النوعي. والتقدم يعني الإنسان الفرد بكل ما هو عليه، والمجتمع بكل ما فيه. والتقدم لا بد أن يشمل علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعلاقته بالطبيعة، كما علاقته بالزمن، بحيث تتأكد إنسانية الإنسان كفرد وكجماعة، وإيجابيته في علاقته بالأشياء وإدراكه لمركزية البعد الزمني في الحياة الخاصة والعامة.
هذا ما نستطيع لمس حقيقته بوضوح وجديه في معظم بقاع العالم، بينما لسنا متأكدين منه في كثير من بيئات الوطن العربي. فالإنسان الذي يجسد التقدم المادي والمعنوي والإنساني حقيقة كونية لا يستوجب البحث عنها الكثير من الشك والتنقيب. بينما الإنسان العربي المتقدم تتلاشى معالمه ومؤشرات حضوره، تحت وقع ما يحدث من وقائع تؤكد سيادة التخلف والهامشية واللاوعي التاريخي لمسيرة الزمن.
ويتصل بحركة التقدم عنوان "التنمية" الذي أتى بعد أن تبين للجميع أن شروط الحياة الأفضل والأكثر إنتاجا ورخاءً والأعدل توزيعاً، هي البيئة المناسبة لحياة الكل، حيث تنعكس خيرات الحياة العامة على مزايا الحياة الخاصة إيجابياً وخلق مجتمع السلام الاجتماعي، وتنأى به عن مجتمع الصراع الطبقي أو الفئوي أو العنصري.
أما العنوان الآخر المهم أيضا، فهو العنوان "الديمقراطي"؛ وهو عنوان لعلاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان الفرد أو الجماعة بالسلطة السياسية التي تحكم أو تدير شؤونه. ولم يتحقق هذا العنوان للشعوب إلا بعد صراعات مريرة بين أولئك الذين احتكروا السلطة تاريخياً، وأولئك الذين سعوا إلى المشاركة فيها وتنظيم ممارستها بشكل سلمي على العموم. وفي هذا الخصوص، حيث لا مجال لزيادة التنظير، يبدو العنوان الديمقراطي شائعاً في العالم ويحقق الاستقرار والتقدم للشعوب، ويؤكد على النزعة الإنسانية للسلطة والمسؤولية، ويضمن الحرية كقيمة مركزية لحياة الفرد والمجتمع. إلا أنه في العالم العربي ما يزال يقبع خلف أنساق من العلاقات البدائية اللاإنسانية التي تؤكد صيغ الاغتصاب والتملك والاحتكار والعبودية. وهي صيغ أقل ما يقال فيها إنها تعكس علاقة القوة المتوحشة مع الوجود الإنساني الذليل والمشلول.
ومع أن الديمقراطية لم تزل في حدها الأدنى كنظام أقل سوءاً من الأنظمة الأخرى -كما قيل– فإنها بالرغم من ذلك ما تزال النظام الأنسب لإدارة علاقات السلطة في المجتمعات الحديثة، وتحتاج إلى التطوير والإبداع.
أما عنوان "حقوق الإنسان" الذي يشكل نبراساً للإنسان المتقدم والراقي في العالم الراهن، فهو لم يأت صدفة ولا نزوعاَ مثالياً، وإنما جاء بعد أن تبين ظلم الإنسان لأخيه الإنسان وتجاوزه على طبيعته وحقوقه. لهذا، فمن خلال الرؤية الجماعية والموقف العام للذين أدركوا أهمية الإنسان كإنسان، وسعياً منهم إلى مأسسة حقوقه وخصائصه الإيجابية، تقرر أن العالم المتحضر لم يعد يحتمل التجاوز على الإنسان وحقوقه تحت أي ذريعة كانت. وبقدر ما تنعكس ثقافة حقوق الإنسان وتطبيقاتها في الحياة العامة للفرد والمجتمع، وفي الحياة الخاصة لكليهما، بقدر ما يكون الفرد والمجتمع في عداد المجتمعات الحضارية المتقدمة وذات النزعة الإنسانية الكريمة.
وعنوان "التقدم التكنولوجي" جاء محصلة للتقدم العلمي واكتشاف الأدوات والآليات التي تجعل من شروط الحياة وظروفها ووسائلها أكثر ملاءمة وفعالية وخدمة للإنسان، وتوفر له إمكانات أفضل وأرقى في إدارة الموارد وتعظيم الإنتاج، واستثمار الوقت وضمان أكبر قدر من  الراحة والتيسير والتسيير.
كما أن عنوان "التعاون الدولي والإنساني" لم يتحقق إلا بعد أن ارتقى الفكر الإنساني ليجعل من الحياة المشتركة والإنسانية مصلحة للجميع، تتسع لكل البشر على اختلافاتهم التفصيلية، والاكتفاء بمجتمعهم الإنساني كقاسم مشترك لحياتهم كمجتمع إنساني. وكذا عنوان "العولمة الإيجابية" والمشاركة في الاستثمار والإنتاج والتوزيع وأوجه الإدارة وضوابط الحركة ووسائل الاتصال... كلها لم تأت صدفة؛ وإنما سياقاً متصلا من سنن التطور الايجابي  لحياة الإنسان، مطلق "إنسان"، وحتمية انضوائه كوحدة أو خلية في تكوين عالمي يفترض أنه يتعايش في بيئة مناسبة ويتحمل المسؤولية نفسها ويقدم ما يستطيعه من مساهمة لخدمة الحياة الفضلى لبني البشر ولنفسه ولدائرته الاجتماعية التي ينتمي إليها.
أما عناوين "الأمن والسلام والرفاه" وإن ما تزال غايات تتحقق بشكل نسبي في مكان ما وبصورة ما، ولا تتحقق بشكل مناسب أو لا تتحقق فعلاً في مكان آخر وبصورة أخرى... فإنها في جميع الحالات تبقى غايات مطلقة، والسعي إلى تحقيقها يبقى جهداً جماعياً متواصلاً ودائماً.
وهناك أيضا في هذا العالم عناوين فرعية يفترض أن البشرية أو قطاعات منها تسعى إلى تحقيقها؛ كالحد من الكوارث الإنسانية أو الطبيعية المحتملة، والاجتهاد في التعامل مع الظروف الإنسانية الصعبة، من قبيل الفقر والبطالة والمرض والجهل، أو المساهمة في تحقيق التقدم العلمي الذي يخدم البشرية بصورة أكثر تطوراً مما هو قائم، أو السعي المنظم والشامل الذي يستهدف التدخل لتنظيم العلاقة بين حياة البشر وأنظمة الكون من بيئة وكواكب وزمن وسرعة... وما إلى ذلك مما يفترض من تحديات.
كل هذه العناوين وغيرها يجتهد العالم المتقدم والساعي إلى التقدم في التعامل معها والمساهمة في أن تنعكس على الحياة الإنسانية بصورها الإيجابية. وهذه النتيجة هي التي تحدد مستوى حضارية المجتمع ومستوى إنسانيته. وبقدر ما يتوافر البعد الإنساني في حياة المجتمع ونشاطاته واهتماماته وغاياته، بقدر ما يكون المجتمع إنسانياً وإيجابياً وقابلاً للحياة والاستمرار؛ وبقدر ما يضيف في السياق العالمي الزمني والواقعي. وفي غير هذا السياق، سيكون من الصعب أن يحظى أي مجتمع بوصف إنساني أو حضاري أو إيجابي وحيوي أو حتى قابل للبقاء.
بالعودة إلى بداية المقالة، نحاول أن نشير فقط إلى ما يعرفه الجميع، ويسود كعناوين واضحة في الزمن العربي الراهن، وفي الذهن المعرفي والسياسي والثقافي والاجتماعي الذي يعبر عن نفسه بصورة يومية في مناح كثيرة من العالم العربي. وبغض النظر عن أدب المجاملة والنسبية والاحتمالات، وما نتذرع به عادة من اختلاف في الرؤى والاجتهادات والتفاسير، فإن ما يتفاعل في الساحات العربية من عناوين لا تتصل أبداً بالسياق العالمي؛ لا من حيث الزمن ولا من حيث الطبيعة. وإن محاولة حصر العناوين المحتمل إيرادها هنا باعتبارها ذات مرجعية واقعية، لا يعني (وللأسف) بالضرورة أنها لا تنطبق على الحالات التي لم يكشف عنها الواقع بعد.
إن ما يجري في سورية أو العراق أو اليمن أو ليبيا أو سواها، وما يمكن أن تنبئ عنه الأحداث في مواطن عربية أخرى كثيرة، تبرز به عناوين لا علاقة لها بالسياق العالمي وبالذهن العالمي، وهي مجرد حالات نكوص إلى التاريخ غير الإنساني في حياة البشرية.
إن "الطائفية" أو "التعبير الطائفي" عن الوجود الاجتماعي والسياسي للفرد أو للجماعة، هي مجرد نسبته أو نسبتها إلى أفكار مجردة مغلقة لا تنسجم مع شمولية العقائد والأفكار والتوجهات، ولا تستوعب حالات المشاركة والتداخل الإنساني. ومع أنها لايقينية في معظم الحالات، فإنها تضع الإنسان/ الفرد أو الجماعة في هذه الحالة في قوقعة مغلقة فلا يرى من حوله ولا يعيش في بيئته العامة، ولا تنكشف خصوصيته؛ ما يرتب بحكم التعصب موقفاَ عدائياً تجاه كل ما هو خارج القوقعة. وهذا يعني احتمال التصادم الدائم مع الغير أياً كان هذا الغير، ومهما كان معيار تصنيفه. ومثل هذه الحالة لا يمكن أن توجد في مجتمعات إنسانية مدنية حديثة، من سماتها تلك العناوين التي ذكرت في بداية المقالة. 
إن الطائفية حالة خارج السياق الزمني والواقعي، تعود في أصولها إلى موقف تاريخي تجاوزه الزمن، والعودة إليه نكوص إلى الوراء يتعارض مع سمة الحياة التي تستهدف التقدم إلى الإمام والتطور. كما أنها تخلو من البعد الإنساني، وما يقتضيه من عمومية وقبول واحترام وانتظام قيمي مع الخير والإيجابية والإنسانية. لهذا، فالطائفية لا يمكن أن تكون موضوعاً للمنطق ولا للحوار ولا للتعميم ولا للمستقبل، ولا للإنسانية؛ إنها في حالتها الراهنة في العالم العربي مجرد سهم انطلق من حالة الانحياز "المانوي" والتعصب التي هيمنت على العقل العدائي الفئوي إزاء الأعم أو "الأغلب"، أو وجدت للتبرير والدفاع عن الذات كردة فعل على حالة العداء المفترض من الآخر، ثم التوسع في تفسيرها وتبنيها والاجتهاد فيها، حتى غدت وكأنها منهجية قائمة بذاتها. إن الطائفية في المنطقة العربية مجرد حالة نكوص وانحياز غير عقلاني وغير مبرر وغير إنساني، وخارج السياق العالمي بالعناوين الرئيسة التي ذكرت. إنها أمر لا يمكن لعاقل أن يقره أو يبرره، فكيف يتقاتل الناس من أجله وبسببه؟!
أما القبلية والعشائرية والفئوية أياً كان تصنيفها، فهي لا تعدو أن تكون كالطائفية؛ مجرد حالة نكوص إلى شكل أو بنية أو مكون اجتماعي محدد ومحصور ومعرف بذاتيته، لا يتطابق أبداً مع فكر أو ثقافة أو مصلحة أو طبيعة أي مفهوم يعبر عن مجتمع. فأي مجتمع لا يكون مجتمعاً يستحق الوصف إلا إذا كانت خصائصه تستوعب خصائص وحداته المكونة له. ويقوم المجتمع على الشمول والمشاركة والتعاون وإرادة العيش المشترك، وهذه كلها شروط موضوعية تدفع باتجاه الوحدة الاجتماعية. ومن طبيعة المنطق الجمعي أن لا تتطابق فيه الشروط الموضوعية للعموم مع الشروط الخاصة أو الذاتية. فحالة القبلية أو العشائرية التي تقوم على عنصر ذاتي (عامل القرابة بالدم) لا تتطابق مع المجتمع الذي يقوم على إرادة العيش المشترك مثلاً. لذا، فما ينصرف على القبيلة لا ينصرف بالنتيجة على المجتمع. وإذا حاولنا أن ننظر إلى المجتمع عبر قبائله وعشائره، فهذا يعني أننا ننفي عنه صفة المجتمع، بل ونلغي كينونته حتى لو زعمنا غير ذلك. ولهذا، كان القانون كقواعد عامة مجردة وضعية واتفاقية، هو الذي يدير شؤون المجتمع، وكان العرف العشائري هو الذي يدير شؤون القبيلة. ولهذا قامت المدينة والمدنية والحضارة على القانون وعلى المجتمع الذي يتكون من أفراد مهما بلغ عددهم ولا يتكون من وحدات اجتماعية مهما تأكدت خصوصيتها.
لذا، عندما نرى ما يحدث في اليمن على سبيل المثال، ونبحث فيه عن دور القبيلة أو دور الطائفة، فهذا يعني بالضبط أننا نبحث عن حالة اجتماعية أقل من المجتمع، وبالتالي نبحث عن حيازات جغرافية للقبائل اليمنية وعن يمن متعدد الحيازات وليس عن يمن واحد. بالضبط كما لو أننا نحاول أن نعطي الشرعية للتجزئة، ليس مُهماً بعدها كيف تكون؛ على أساس طائفي أم عشائري أم جهوي أم خلافه؛ ففي منطق الاعتماد على القبيلة والعشيرة نلغي المجتمع.
ومن العناوين المطروحة فيما يتفاعل على الساحات العربية، يبرز دور "العسكرتاريا". ولا نعني به مجرد وجود مؤسسة الجيش، بقدر ما نعني توجه الجيش إلى صبغ الدولة بصبغته كمؤسسة حاكمة وليس كمؤسسة محكومة. وهذا المكون الذي لا يبدو طائفياً ولا قبلياً، ويرتبط بصورة ما بمعنى المؤسسة الرسمية أو الوطنية أو الأمنية، يحمل أيضا في ذاته تناقضه مع منطق الدولة الحديثة والمعاصرة. الأصل أن الجيش أداة سياسية؛ أي أداة من أدوات الدولة لإدارة شؤونها في السياسة الخارجية تحديداً، وفي حالات يستعمل فيها العنف المشروع. وهنا تبدو المهمة مقدسة وشرعية وحاسمة. أما أن تكون الجيوش أداة من أدوات السياسة الداخلية، فهذا خروج عن النظام المألوف وعن الوظيفة الأصيلة. أو أن تكون الجيوش هي ذاتها جهاز إدارة الدولة، فهذا خروج عن منطق الدولة نفسه. إذ إن الدولة مؤسسة مدنية بالتعريف، لأنها دولة شعب ما، وهذا الشعب ليس "أسبارطياً"؛ إنه شعب عمومي التكوين من حيث الأجناس والأعمار والأعراق والأفكار والمعتقدات، كل فرد فيه وحدة قائمة بذاتها، تتسق مع البناء الاجتماعي لهيئة الدولة من المواطنين المتنوعين. وفي هذه الحالة، تكون "العسكرتاريا" نقيضاً للحالة المدنية بدل أن تتوافق معها. فالعسكرية كنهج وكمؤسسة تقوم على الضبط والنمطية والتخصيص ووحدة التكوين والوظيفة والغاية، لا يمكن أن تشكل مجتمعاً ولا يجب أن تكون. إنها حالة خاصة مؤسسة بذاتها أكثر خصوصية من أي بنية اجتماعية أخرى. لذلك لا يجوز أن تكون بديلاً عن المجتمع ولا مناطاً لإدارته. وبالنتيجة، ليس من حقها ولا من وظيفتها أن تقرر سياسة الدولة ولا أن تقودها.
كيف يقبل المجتمع الحديث أن  تقوده مؤسسة عسكرية؟ هذا لا يجوز. وإن جاز أن يحكم فريق عسكري دولة ما، فذلك لظروف طارئة ولفترة محدودة، ولا يشكل ذلك حكماً بقدر ما يشكل ضبطاً للحركة باتجاه خلق حالة الاستقرار الضرورية للحكم والإدارة.
إن المؤسسة العسكرية، وعلى الرغم من قدمها في تكوين المؤسسة الرسمية الحاكمة في التاريخ الإنساني، ارتبطت بعوامل الصراع أكثر مما ارتبطت بعوامل الاستقرار والسلام؛ بل على العكس من ذلك، أضحى المطلوب من هذه المؤسسة المتخصصة القائمة على تعابير القوة والضبط أن تضمن سلام المجتمع وسلامته، وأن تحمي كينونته كهوية ووطن ودولة. فاحتكار القوة الذي تستأثر به يضعها في موقع المنافس مع ما يناظرها من القوى الدولية الأخرى وليس مع القوى الداخلية الأضعف قدرة وتكويناً. فهذه لها عوامل ضبطها الداخلية، ومن هنا جاءت المؤسسات الأمنية الاجتماعية.
وفي عناوين المرحلة الراهنة عربياً يبرز عنوان "السلفية" بمختلف مكوناتها وأنواعها (سلفية دينية أو قومية أو اجتماعية أو فكرية). وهي تجمع عنوة بين القديم والحديث، والماضي والمستقبل، والأيديولوجيا والبرامج، والفرد والجماعة، والسياسي والعقائدي، والنكوص الى التاريخية والإصلاحات التقدمية، كفكر وتنظيمات. وهي تطرح نفسها كبديل من أوجه الحداثة الأخرى، أو كبديل من صيغ الحكم والإدارة، أو كبديل من الأنساق الدولية المجربة. وهذه السلفية التجميعية تبدو في نظر البعض وكأنها الاستجابة الحتمية على كل أشكال ومضامين وتحديات الحاضر المعاش، أو المستقبل المرتقب/ المأمول.
إن المنطق التاريخي لا يؤكد بأن أمراً ما في زمن سلف وفي ظروف تختلف، يمكن أن يكون خياراً ملائماً لزمن آخر، وأن يحقق النتائج ذاتها. كما أن المنطق الواقعي الذي له حيثياته الكثيرة والمعقدة والمستجدة، لا يشير إلى أن النقل التاريخي لوصفة معينة يمكن أن تستوعب ما هو قائم وتداعياته. وأكثر من ذلك أن النزوع إلى الإكراه بالقوة لفرض القناعات والتجارب والتطورات، لا يمكن أن يحظى بالإجماع المناسب، بالضبط كما أن الحتميات لا يمكن أن تستجيب للحوار أو حتى تعترف بالآخر أو بالأفكار والأعمال الأخرى. إن العالم لم يتشكل تاريخياً ولا واقعاً ولا مستقبلاً على صورة نمطية محددة ومعرفة سلفاً. إن العالم تشكل عبر صراع التناقضات. وإذا كان لكل فكرة نقيضها، ولكل سلوك نظير مغاير له، فالمنطقي أن النتائج تختلف وبشكل متواتر. ومسار النتائج وآثارها هي التي شكلت الصيرورة التاريخية للبشرية، وليس الافتراضات المسبقة والحتميات المتخيلة.
أما وقد كان استعمال القوة غير المشروعة بواسطة الاستبداد في الحكم والإدارة أو بواسطة الإرهاب هو الخيار المتاح أمام بعض حالات السلفية التجميعية لفرض رؤيتها النظرية وفرض نفسها كتشخيص لهذه الرؤية، وكبديل لما هو قائم ولما يحتمل أن يقوم، فإن هذا الاستعمال غير المشروع للقوة حكم على المشروع السلفي برمته بالفشل. ذلك أنه يتناقض مع طبيعة الحوار الوجودي القائم على التطور والتدرج والاختيار الأسلم، ويتناقض مع الواقع الذي هو حالة تجاوز لظروف المشروع السلفي وخياراته، كما يتناقض حكما مع المستقبل الذي إما أن يكون مخرجاً من مخرجات الواقع أو أنه سياق يتناقض مع حتميات مرجعياتها تاريخية حكماً. لذلك، يمكن القول بوضوح شديد إن المشروع السلفي في الحكم والإدارة وصياغة المستقبل يبقى مجرد محاولة للاشتباك في الصراع الدائر، تعكس توجها نحو النكوص والخروج من السياق التاريخي العالمي، لا يتفق مع طبيعة الأشياء ولا مع طبائع الإنسان.
أما أن يكون التراث الإنساني، والديني فيه خاصة، مرجعية لأخلاقيات حميدة، فهذا أمر إنساني، تقبله مدنية الإنسان وتحضره ونزوعه نحو الأنسنة والتعايش. فالقيم التي تحكم السلوك الفردي والمجتمعي قد تتكامل ولا تتطابق بالضرورة مع تلك التي تصلح لإدارة الإنسان وإدارة شؤونه وموارده وعلاقاته على الإجمال.
ومن عناوين المرحلة الراهنة، جملة من العناوين الفرعية. منها، الافتراض بأن بنية سلطوية ما تستطيع أن تقوّم نصاب الأمور باتجاهات أكثر شرعية وعقلانية وفاعلية، ويمكن أن تقدم أنموذجا لخدمة الاستقرار والازدهار والحرية والإنسانية. إن بنى السلطة المكرسة راهناً وتعود جذورها وصيغ العلاقات بين أطرافها والآخرين إلى ما كان هو النمط السائد في القرون الوسطى، لا يمكن أن تقوم بالوظيفة المتطورة لبنية السلطة الحديثة. فليس من المعقول، مثلا، أن تقدم فئة مذهبية حاكمة أنموذجا للحكم  وللعلاقات وللتقدم وللنزوع الإنساني يتفق وجملة العناوين التي يمثلها السياق العالمي. فهل يا ترى تستطيع الفئات الحاكمة في أي قطر عربي أن تقدم أنموذجاً حديثاً وفاعلاً ومستقبلياً لنظام سياسي وأن تكون مرجعيتها في الوقت نفسه الرؤية الثيوقراطية أو الميثولوجية ذاتها التي أنشأت النظام أو بررت وجوده عبر الزمن؟ بل وهل من المعقول أن تقدم السلفية التجميعية على جملة من الإصلاحات يتحول فيها النظام الحاكم في مكان ما إلى نظام سياسي حديث مكتمل الشروط التحديثية الديمقراطية والملتزمة بحقوق الإنسان والتنمية والعدالة، وما إلى ذلك؟  وهل يعقل أن تقوم طغمة عسكرية بتحقيق تلك الفرصة التاريخية وإيجاد نظام سياسي تشاركي إنساني النزعة يحقق السلام الاجتماعي والأمن الإنساني؟ الخبرة الانسانية في مختلف بقاع الأرض تؤكد عكس ذلك.
أم هل يمكن لقبيلة ما أو مجموعة قبائل أن تصوغ حالة سياسية حديثة يسود فيها القانون وتتوزع فيها المكاسب وتنشط فيها الأحزاب السياسية كإطار للعمل السياسي المنظم والمستقر، وكوعاء لتداول السلطة بالانتخاب وبحرية الاختيار؟! بل هل يمكن لمجموعة من الموتورين المرتبطين بدوائر خارجية وبثقافات نخبوية مفرطة في التقليد والنمذجة والارتهان، أن تقيم نظاما عاما للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية قوامه المواطنون، كل المواطنين ووفق أنساق تتفق مع قناعاتهم وتعدديتهم؟
إن احتمالات الحسم لما يجري في العالم العربي يمكن أن تفضي إلى هذه الفئة أو تلك، من تلك التكوينات المتصارعة في دول العالم العربي؛ فهناك في مكان ما احتمال لأن تحسم الموقف قوى تحالف فئات حاكمة تقليدية المرجعية والبنية والتطلع، وفي مكان آخر يمكن أن تحسم الموقف طغمة عسكرية موغلة في التعصب والانغلاق مولغة في الدم والقتل والتدمير. وفي مكان ثالث هناك احتمال لان تحسم الموقف بنية قبلية عشائرية تعرف ما لها ولا تعرف ما عليها. وهناك احتمال أن تحسم الموقف في مكان رابع طائفة أو تكوين سلفي، أو حتى مجموعة إرهابية. وربما هناك من يعتقد أنه ببعض الإصلاحات الشكلية والتجميلية يمكن أن يحسم الموقف لمصلحته.
كل هذه الفئات يحتمل أن تحسم موقفاً معيناً في بعض بؤر الصراعات الدائرة. لكن السؤال الأهم: هل هنالك بين هذه الفئات من هو مؤهل لإدارة الدولة والمجتمع وإيجاد الصيغة المدنية لكينونة سياسية اجتماعية ما؟ هل بين هذه الفئات من كان يجسد خياراً محتملاً لتلك القوى الاجتماعية النظيفة والغالبة التي تحركت في "الربيع العربي"؟ من يمكن أن ينقذ الأمة من هذا الجحيم المتنوع المصادر والتكوينات والمشروعات؟! من يستطيع أن يخرج الأمة من مأزق التناقضات الذي يتفاعل على حسابها؟! من يستطيع أن يضع الأمة في المسار التاريخي الصحيح وفي السياق العالمي الشامل؟!
بتقديرينا، هناك مخرج واحد، هو العودة إلى روح وحركة وتطلعات وجماهير "الربيع العربي".
الربيع العربي كان حلما شرعيا للأمة، استوفى شروط الولادة السليمة، لكنه لم يستوفِ شروط الحياة الملائمة. وشباب هذه الأمة مدعوون إلى إعادة النظر، بالتزام وحسم وبصيرة، ليستعيدوا فرصتهم بصياغة مستقبلهم وفقاً لرؤاهم ومصالحهم وتطلعاتهم؛ هذا هو الخيار السليم. أما تلك الخيارات التي يحتمل أن تكسب الجولة الراهنة في الصراع فقد تكون الجحيم المنتظر مستقبلاً، كما أنها الجحيم القائم حالياً.