Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    22-Sep-2020

نظرات في رواية «أجراس القبّار» لمجدي دعيبس

 الدستور-ذيب ماجد غنما

 
صدر للأديب مجدي دعيبس في السنوات الثلاث الأخيرة عدد من الأعمال الأدبيّة المتميزة منها رواية «الوزر المالح» الحائزة على جائزة كتارا للرواية العربية للعام 2019 ورواية «حكايات الدرج» بالإضافة إلى مجموعة قصصية بعنوان «بيادق الضالّين»، وأخيرًا رواية «أجراس القبّار» والتي صدرت في شهر آب من هذا العام عن دار (الآن ناشرون وموزعون).
 
القبّار نبتة بريّة وصفها المؤلف بقوله «في فترة ما من السنة تكون الوحيدة التي تحمل الأزهار البيضاء الطازجة بينما يصفرّ المشهد من حولها، كما ويمكنها العيش في أحلك الظروف من حرّ وقرّ وإهمال». ويبدو أنه قد اختار هذا الاسم لروايته نظرًا للصفات التي تتمتع بها هذه النبتة والتي هي الأقرب لما طُبع عليه المسيحيون الأوائل في القرن الرابع الميلادي من صمود وتحد وثبات على الإيمان والشهادة في سبيله مقابل الاضطهاد المقيت الذي مارسته ضدهم الدولة الرومانية.
 
جرت أحداث هذه الرواية بشكل رئيس في مدينة فيلادلفيا «عمان» حيث تركّزت السلطة بيد الحاكم مكسيموس، وأيضًا في حامية زيزيوم وهي بلدة «زيزياء» جنوب عمان. وكان لهذه الحامية أهميتها الخاصة بالرغم من وقوعها في منطقة شبه صحرواية وذلك لدورها في حماية قوافل التجارة التي تمر من منطقة نفوذها.أما على صعيد الزمان فهوفي عهد الإمبراطور دقلديانوس 284- 303 م الذي عُرف باضطهاده الشديد للمسيحيين وقسوته وتجبّره ولجوئه إلى هدم الكنائس وحرق كتب المسيحيين واستخدام كافة أشكال التعذيب والقهر والتنكيل. كان هذا الاضطهاد استمرارًا لوحشية نيرون وغيره من الأباطرة، حيث انتهت هذه المرحلة وفُتحت صفحة جديدة من تاريخ الديانة المسيحية مع نهاية حكم دقلديانوس. تولّى الإمبراطور قسطنطين الحكم، وقسطنطين هو آخر الأباطرة الرومان الوثنيين وأول إمبراطور مسيحي في التاريخ.
 
اشتملت الرواية على كثير من الأحداث وعلى عدد من الشخصيات حيث تنوّعت بين أحداث وشخصيات تاريخيّة وأخرى أبدعها خيال المؤلف. هناك شخصيّة الضابط زينون وخادمه الأمين زيناس بطلا الرواية بلا منازع، وهناك أيضًا برميدوس وقصة عشقه للجميلة صوفيا وصيفة زوجة الحاكم مكسيموس وعلاقة المحبة والتسامح بين زينون وعبيده والتي تجلّت بقراره الجريء بتحريرهم من العبودية وغير ذلك من وصف جميل ومعبّر للمكان وللشخوص وللاحتفالات وأهمها الاحتفال بعيد هرقل في معبده على جبل القلعة، وتصوير حياة الناس في مدينة فيلادلفيا ومركزها التجاري حول المدرج إلىجانب عدد آخر من التفاصيل والأحداث والقصص الطريفة.
 
يستطيع المتتبع لأعمال الروائي الأردني مجدي دعيبس ملاحظة أكثر من سمة فنيّة تميّز أعماله وإبداعاته منها تأثره بالعسكرية وخدمته الطويلة في سلاح الجو الملكي، وهذا ما جعل منه راصدً اذكيًّا ومحترفًا في رسم صورة الجندي بانضباطه وقوته أو حتى لحظات انكساره، وكان ذلك واضحًا في روايته الأولى «الوزر المالح» وفي هذه الرواية أيضًا، كما له لغته الخاصة في وصف المكان والطبيعة واللحظات الإنسانية الدافئة. تزخر صفحات مؤلفاته بالكثير من الجمل والعبارات والتي تكاد تكون أقرب إلى الحكمة ومحاولة لفهم الحياة وفلسفة التعامل معها ومجاراتها أو أخذ مواقف منها، وإن كانت جميعها تحقق الغرض المطلوب ضمن النص الذي جاءت في سياقه إلّا أنني أرغب بإيراد بعض ما جاء في رواية «أجراس القبّار» مثل: لكنّ الجندي يبقى جنديًّا؛ لا يختار الحياة أو الموت، بل الحياة هي التي تختاره فقط إذا أخطأه الموت/ما أبشع الانسان عندما يخلع إنسانيته بحجة الثقافة الفاسدة/ أي عذاب هذا الذي ينهك الجّلّاد! ما حال المجلود إذن؟/ الكلمة الصادقة تصل إلى هدفها بأقصر الطرق/الحياة ترقص لمن يعزف لها الموسيقى وتعبس في وجه من حمّلها ذنوبه وأخطاءه/ البطانة الفاسدة أسوأ ما يمكن أن يحدث للحاكم/ هناك دائمًا من يخون الأفكار الجميلة والمعاني الطاهرة، وإن لم يجد ما يستحق الخيانة خان نفسه/ لماذا يرفض الإنسان أن يمارس إنسانيته؟!
 
لماذا يرفض الإنسان أن يمارس إنسانيته؟ لعل هذا السؤال الاستنكاري هو محور هذا العمل الإبداعي، فالرواية تتكئ في مضمونها على عنوان رئيس واحد وهو الرفض التام لمعاقبة الآخرعلى أفكاره ومعتقداته، ورفض أي شكل من أشكال الاضطهاد للإنسان فردًا كان أم جماعة.ولعل صدور هذه الرواية في هذا التاريخ من شهر آب له معنى دلالي واضح يتقاطع مع ما رمت إليه الأمم المتحدة عندما اعتمدت تاريخ الثاني والعشرين من شهر آب يومًا دوليًّا لإحياء ذكرى ضحايا أعمال العنف القائم على أساس الدين أو المُعتقد.
 
وإن كانت البشرية قد شهدت عصورًا من الظلمة والعبودية والاضطهاد والوحشية ضد الأفراد والجماعات بسبب الاختلاف في المعتقد والدين والرأي السياسي، فإننا- وبعد عقود طويلة من اعتماد ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية-ما نزال أمام مشهد عالمي مؤلم بعيد كل البعد عن الشرعية الدولية لحقوق الإنسان ومبادئ الحق والتسامح والمحبة التي دعت إليها الأديان السماويّة ومدارس فكريّة وفلسفيّة عديدة مما دفع بالملايين من اللاجئين والمهجّرين قسريًّا والمظلومين لمغادرة أوطانهم والانتشار في أرجاء المعمورة، لا لشيء إلّا لما يحملونه من أفكار ومبادئ ومعتقدات.
 
لقد وُفّق الصديق الروائي مجدي دعيبس بحسّه العالي ولغته الجميلة إلى إعادة تجسيد صورة هذا المشهد القاسي من تاريخ البشرية، حيث لم تسلم ديانة أوفكرة أومعتقد من شرور هذا الاضطهاد. في رواية أجراس القَبَّار دعوة للعودة إلى الإنسانية والمحبة وإلاخاء بين أفراد الأسرة البشرية الواحدة، فالمهزوم سيصبح منتصرًا والمنتصر سيتقهقر يومًا ما، ولم يذكر التاريخ بقاء حال على حاله. الشيء الوحيد الذي لا غش فيه هو إنسانية الإنسان وضرورة احترام كرامة الفرد والجماعات لنعيش جميعًا بسلام.
 
نرحب بهذه الرواية المتميّزة ونحيّي مؤلفها الذي بذل جهدًا واضحًا في التأريخ أدبيًّا لمرحلة مهمة ومؤلمة من مراحل الاضطهاد الديني، وقدّم لنا عملًا ماتعًا وجديرًا بالقراءة والاحتفاء.