Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    01-Feb-2019

حبلُ الشُبَّابة

 الدستور-رمزي الغزوي

في ظهيراتِ الأيامِ القائضة، ولمّا تهجعُ شلايا الأغنامِ في أفياء الصخورِ، وظلالِ الشجرِ الوارفِ على أكتاف الوادي. على الراعي التيقّنُ أن رائحةَ الشواءِ التي تستفزُّهُ، ليست إلا ذكرى لعنزة سليم عديمة المخِّ. 
ومن الأفضلِ لهذا الراعي، أن يلوذَ في حضنِ شجرةٍ، أو نبعةِ ماءٍ، ويلعبَ على شبابته لحناً تحفظهُ القرية، منذ سنوات بعيدة. فبهذا وحدهُ سيتبدّدُ جوعُهُ، وتدخل أغنامُهُ في قيلولةٍ تريحهُ قليلاً من رعايتها المتعبة.  
لم يترك الرّاعي الشفيفُ سليمٌ شواءهُ وشبابته تضمّخانِ ذاكرةَ القرية. بل تركَ اسمه راسخاً لهذا الوادي المنساب في جنوبها الأخضر: وادي سليم. وحتّى هذه السّاعة، فلربما يوفّقُ الزائرُ، إن أرخى سمعه، وهو يغمضُ عينيه، إلى سماع لحنٍ شهيٍّ، كان قادراً على ربطِ قطيعِ أغنامٍ عطشى، وهي تهرع ُإلى الماء، في صيف حارق. 
الأغنامُ السوداء مُتعبةٌ. تدوّخ راعيها وتنهكهُ، وتجعلهُ دآبَ الركضِ والدوران. فعادتُها النطنطةُ والتقافزُ، من فوق السلاسل الحجرية، وتسلّق الأشجارِ؛ وعليه أن يكون جاهزاً لذبِّها عن حمى البساتينِ والكرومِ. 
من أجل هذا؛ ستجدُ رعاةَ الغنمِ نزقينَ، سريعي الغضبِ، مدججينَ بشتائمَ فادحةٍ، يقصفونَ بها قطعانهم المجنونةَ؛ إذا ما ولّت هاربةً، أو جنحت عن هدي الطريقِ. وهم في غالبِ أوقاتهم يستخدمون قذفَ الحجارة لرعايتها وتوجيهها، أو إعادتها إليهم. 
وحده دونَ سائرِ الرُّعاةِ. سليمٌ كان يقودُ ويسوقُ أغنامَهُ بالشُّبابة. كان يديرُ دفتها بألحانهِ التي ترنِّم المكانَ وأهلهُ. فإن أراد أمراً، فما عليه إلا اعتلاءُ صخرةٍ، أو الإتكاءُ على جذعِ شجرةٍ، ليبدأ بتطريزِ لحنٍ محدّدٍ بعينه؛ فتأتيه الشّليّةُ كلّها مسرعةً، وتهجعُ جاثيةً في حماه، تنتظرُ أن يضربَ لحناً آخر؛ لتنفّذَ أمراً جديداً يبتغيه. وكثيراً ما جعلها ترتدُّ من طريق إلى آخر، أو سحبها من قضمِ العشب اليانعِ؛ وأعادها إلى حظيرةِ البيتِ بخطٍّ لا ينحني. ألحانهُ كانت دفةَ قطيعهِ وأشرعته.  
ذاتَ ظهيرةٍ قائضةٍ تحدّى سليمٌ جمعاً من الرّعاةِ، بأنّهُ يستطيعُ أن (يكُفَّ) بالشّبابة شليتهُ عن الماء، أي أن يرجعها وهي مندفعةٌ للشرب من فم الوادي. تحدّاهم بهذا الفعل الصّادم. فهم يعرفونَ أكثرَ من غيرهم، أنَّ الغنمَ متى انهمرتْ إلى الماءِ، لا يقدرُ على منعها عشرةٌ من الرّعاة. فالظمأ أقوى الأشياءِ. 
لمّا وصلوا رأسَ الوادي، استظلَّ سليمٌ بشجرةِ الخروبِ العوجاءِ، وانطلقت أغنامُهُ كشهابٍ نحو الماء. عندها ضربَ لحناً، لم يسمعهُ الرّعاةُ من قبلُ، فتباطأت حتّى توقفتْ تماماً، وهي قابَ رشفتين من الخريرِ. بعدها انسحبت راجعةً إلى راعيها، وكأنّها مجرورةٌ بحبلٍ قوي، حتى وصلته، فغيّر لحنهُ؛ لتهجعَ في الظلِّ كقططٍ أليفةٍ. 
لم ينتبه الجمعُ المنبهرونَ إلّا متأخّرينَ، إلى أنّ عنزةً واحدةً لم تكفَّ عن الماء، ولم ترجع إلى سليمٍ، بل انطلقت كقذيفة، وغبّت منهُ بشراهة مثيرةٍ. عندها قالوا.
- لقد خسرتَ تحدّيك يا سليمُ. 
كانت الأغنامُ كلّها في هجعةِ الظلِّ. حينَ دسَّ شبّابتهُ في حزامه قائلاً بنبرةٍ غاضبةٍ إنَّ هذه العنزةَ خرقاءُ، لا مخَّ فيها. ولو كان لها مخٌّ؛ لأرجعتها الشّبابةُ. فضحكوا غيرَ مقتنعينَ بقولهِ. فقال مراهناً:
- سأذبحها الآن، فإن كانت كما قلتُ أنا؛ فعليكم ثمنُها مُضاعفاً. وإن وجدنا بها مخّاً؛ فهي لكم حلالاً زلالاً دون مقابل.  
في ذلك النهار فرحَ سليمٌ فرحتينِ غامرتينِ، وهو يشوي للرّعاة الخاسرينَ لحماً قاسياً. فقد تخلّص من عنزةٍ تلوّثُ قطيعَهُ، وبالثمن الذي تمنّاه.  
*من مجموعة قصصية بعنوان زهريت ستصدر قريبا للكاتب