Tuesday 16th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    25-Jun-2020

أن يُحبَّها الإيطاليون!

 القدس العربي-ابراهيم نصر الله

أتيح لي أن أكون واحدًا من أعضاء لجان التحكيم في عدد من مهرجانات السينما الوثائقية، مثل مهرجان «الأرض» الذي يقام في جزيرة سردينيا و«مهرجان الجزيرة الدولي للأفلام الوثائقية»، ولعل أكثر ما استرعى انتباهي هو ذلك العدد الكبير من الأفلام الإيطالية المشاركة، المكرسة للقضية الفلسطينية. أمّا ما استرعى انتباهي أكثر فهي قدرة هذه الأفلام على انتزاع الجوائز الأولى من أفلام عالمية حول مواضيع كثيرة، ومن أفلام عربية وفلسطينية انشغلت بالقضية الفلسطينية، وقدّمتْ كثيرًا من زواياها عبر نظرة قريبة، بل من الداخل!
ربما يصلح هذا الموضوع محورًا واسعًا لناقد سينمائي مختص، لتقديم كتاب عن فلسطين في السينما الإيطالية؛ لتأمّلِ هذا الجانب فائق الأهمية في مجال علاقة القضية الفلسطينية بواحدة من أهم سينمات العالم.
إن نظرة دقيقة إلى تاريخ علاقة السينما الإيطالية بفلسطين مفاجئ حقاً، إذ سيتبين لنا أن الإيطاليين أنتجوا بين عام 1965 وعام 2012، ما يزيد على سبعين فيلمًا عن فلسطين، وهذا رقم كبير قد يتجاوز عدد الأفلام التي أنتجها أي بلد عربي عن القضية الأولى! بل، ربما، ينافس عدد الأفلام التي قدّمها الفلسطينيون عن قضيتهم!
بدأت علاقة السينما الإيطالية بفلسطين منذ الستينيات من القرن الماضي، بفيلم للمخرج الإيطالي الشهير باولو بازوليني، حققه عام 1965، أي عام انطلاقة الثورة الفلسطينية، وهو فيلم بعنوان (مواقع فلسطينية حسب إنجيل متّى) ومدته 51 دقيقة، ويظهر فيه بازوليني نفسه بثيابه الأنيقة محاورًا ومصوِّرًا جغرافيا فلسطين وبيئتها القروية، وسنأتي على هذا الفيلم لاحقًا. أما الفيلم الثاني الذي قُدِّم في إيطاليا عن فلسطين، وأورِده هنا بناء على شهادة أحد الأصدقاء الفلسطينيين النشطاء، الباحث والمترجم الدكتور وسيم دهمش، الذي استقر في إيطاليا منذ أواسط الستينيات من القرن الماضي، وتابع إنجاز هذا الفيلم الذي بدأ بمعرض فوتوغرافي للناشط السياسي الإيطالي (فوغل)، أنجزه بعد زيارة لمخيمات الفلسطينيين ومعسكرات الفدائيين عام 1968، حيث أقام معرضه هذا في مدينة ميلانو، ولقي المعرض اهتمامًا واسعًا؛ وما لبث فوغل أن طوّر فكرة معرضه، إذ أنجز فيلمًا يستند إلى هذه الصور، وقام بالتعليق عليه، ساردًا ذكريات رحلته تلك.
بعده بعام، أي في 1969، تمّ تقديم الفيلم الصامت (فتح) ومدته سبع دقائق، وهو مكرس لصعود حركة التحرير الوطني الفلسطيني، فتح، ويبدو أن أحدًا لم يدوِّن اسم مخرجه، وقد يكون الأمر مقصودًا. وفي العام التالي، سيقدَّمُ فيلمٌ آخر يحمل العنوان ذاتَه، أي: فتح، ومدته 83 دقيقة، للمخرج لويجي بيرللي.
إذا ما تجاوزنا هذه البدايات، فسنصل إلى السبعينيات، التي شهدت إنتاج ثلاثة أفلام أخرى؛ في عامي 1970 و 1971، قدم الأول ثلاثة مخرجين، هم أوغو وكارلو وسرناغا بعنوان (طريق العودة الطويل) ومدته 32 دقيقة، وفيلم بليكا جوزيبي، حول الدور الطليعي للمرأة الفلسطينية عربيًا، 15 دقيقة، ثم فيلم لمخرج مجهول آخر بعنوان: فدائيون، 48 دقيقة.
سنشهد بعد ذلك هدوءًا سيستمرُّ عشر سنوات، إلى أن يُقدَّمَ شريطٌ هو عبارة عن مقابلة طويلة مع ممثل منظمة التحرير في روما نمر حماد، يتحدّث فيه عن منظمة التحرير الفلسطينية عام 1980، وفي العام نفسه، سيتم تقديم فيلم «الانتفاضة طريق الحرية» وفيلم «جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني»، من إنتاج إيطالي، لعبد الرحمن بسيسو والمخرجة الألمانية مونيكا ماوري، ثم لتعود ماوري نفسها لتقدِّمَ الفيلم الإيطالي (الفلسطينيون تحت النار، 1988). وقد عُرفتْ ماوري بعلاقتها القوية مع الفلسطينيين، وصوَّرت ووثقتْ لكثير من مراحل ثورتهم، وما زالت تعمل حتى اليوم باندفاع نادر، وقد أتيح لي أن أزاملها في لجان التحكيم مرات عديدة.
التسعينيات ستشهد ميلاد فيلم واحد حققه أليخاندرو بيفا، وبدءًا من عام 2000 سيشهد الإنتاج السينمائي الإيطالي طفرة كبرى، غير عادية، إذ سيتم إنتاج حوالي 59 فيلمًا عن فلسطين حتى عام 2012! وهو رقم قياسي حسب كل المعايير، ولعل أبرز هذه الأفلام في السنوات الأخيرة، والتي عُرضَ بعضُها في مهرجان الجزيرة الدولي للأفلام الوثائقية، ومهرجان أفلام الأرض في سردينيا، أفلام: «إطلاق النار على محمد»، الفائز بذهبية الأفلام الطويلة في مهرجان الجزيرة عام 2011، و«إطلالة يوم جديد»، و«هذه هي أرضي: الخليل»، و«مستشفى غزة»، و«الرصاص المصبوب»، و«أرض الغد»، و«إن شاء الله بكين».
ولعل فيلم «هذه هي أرضي: الخليل!» الذي نال إحدى أهم جوائز مهرجان الجزيرة، وجائزة الجمهور وجائزة أفضل فيلم أول، في مهرجان الأرض، لعل هذا الفيلم الذي حققه المخرجان جوليا أماتي وستيفان ناتانسون، أحد أقوى المرافعات التي قدّمتها السينما الوثائقية في مجال كشفها للعنصرية الصهيونية، ويمكن أن يكون عرضه في أي مكان في العالم أشد تأثيرًا وعمقًا من أي كلام يمكن يقال! ففيه نرى الوجه الصهيوني مدعومًا بجيش الاحتلال في أوضح حالات قبحه، وقد حوّلَ خمسمائةُ مستوطن حياة فلسطينيي الخليل إلى جحيم حقيقي؛ وفي ظني أنه كان من المستحيل أن يُنجز هذا الفيلم مخرج عربي، إذ أتاح جواز السفر الأوروبي لمخرجَيه أن يتحركا بسهولة معقولة، رغم أن الفيلم يبدأ بقيام أبناء مستوطني الخليل برشق مصوري الفيلم وفريقه بالحجارة، كما أن المخرجَين صورا مئات الساعات قبل أن يقدِّما فيلمًا مدته اثنتان وسبعون دقيقة.
يبدأ الفيلم بعبارة على لسان أحد المستوطنين، تقول: يهود الخليل أبطال، إنهم محاطون بـ 120 ألفًا من المسلمين العدوانيين! لكن الفيلم وببلاغة سينمائية فنية عالية، يقلب ذلك كله كاشفًا أي جحيم ذاك الذي يمكن أن يُصيب أي مدينة إذا ابتليت بخمسمائة مستوطن عنصري من هذا النوع!
هذا الموقف الشجاع، والمستوى الفني العالي، لن نجدهما في الفيلم الإيطالي الذي قد يكون الأول عن فلسطين، وهو فيلم بازوليني! فالفيلم يقوم على نظرية ساذجة، بل ذاهبة عميقًا في السذاجة وقلة الفهم، إذ يأتي بازوليني ليصور المناطق التي عاش فيها المسيح، متوقّعًا أنه سيجدها كما هي! وهو يفاجَأ، أولًا، بأنها أقل شأنًا وأصغر مما تخيّل! وثانيًا، أنه لا يتوانى عن هجاء أي مظهر للحضارة إن وجد، من الملابس حتى الأبنية. بمعنى أن فكرة الاكتشاف التي يمكن أن يتحلّى بها أي مخرج غير موجودة أبدًا، فهو يريد أن يرينا ما يراه ويصرّ على ما تخيَّله.
وبعـــد:
لعل أروع ما حدث في هذا المجال أن فلسطين عاشت وتعيش في قلوب كثيرة، مثل قلوب هؤلاء المخرجين الإيطاليين الرائعين، الذين استطاعوا بجمالهم ورؤاهم تجاوز ذلك العمى الذي أصاب عيني بازوليني ذات يوم بعيد.