Tuesday 23rd of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    07-Jun-2019

كرسي الفرنسية آنيس فاردا الفارغ في مهرجان «كان»

 القدس العربي-آية الأتاسي

اختار مهرجان كان السينمائي لهذا العام المخرجة الفرنسية آنيس فاردا لتكون على الملصق الدعائي الخاص به، في تحية لمسيرتها السينمائية الطويلة، التي استمرت حتى وفاتها في مارس/آذار الماضي، عن عمر يناهز التسعين.
 
 
الحقيقة أن صورة الملصق الدعائي في حد ذاتها هي شغف حقيقي بالصورة، حيث تبدو فيها المخرجة وهي تقف على ظهر أحد مساعديها، لتصوير لقطة من فيلمها الأول «لابوانت كور»، الذي اعتبر حينها جديداً ومختلفاً، وصنفت مخرجته ضمن رواد «الموجة الجديدة»، على الرغم من أن الفيلم كان قد سبق تلك الموجة بسنوات، وعندما أنجزته فاردا في عام 1955 لم تكن قد شاهدت الكثير من الأفلام السينمائية، ولكنها كانت قد قرات الكثير من الأدب العالمي، وسحرتها العوالم المتداخلة للروائي الأمريكي فوكنر. ولأن الصورة كانت شغفها الأول والصورة توأم الكلمة، انتهى المطاف بفاردا إلى دراسة التصوير الفوتوغرافي وتاريخ الفن، وهكذا عندما أتت إلى الفن السابع، حيث الصورة المتحركة والناطقة، كان لديها زاد ثقافي وبصري كبير لإحداث ثورة في سينما لم تكن تعرف قواعدها، فسهل عليها تكسيرها. واختارت منذ البداية أبطالاً يعيشون على هامش المجتمع، كما في فيلمها «بلا سقف ولا قانون»، الذي يروي قصة شابة متمردة اختارت الحرية والتشرد على حياة الوظيفة المملة والآمنة، إلى أن يقودها هذا إلى حتفها.
 
 
أما فيلمها الوثائقي «جامعي النفايات»، فهو عن الأشخاص الذين يعيشون على ما يرميه المزارعون والبائعون من مزروعات لا تتناسب ومعايير السوق الاستهلاكية.
وبسبب انحياز أفلامها إلى المهمشين، صنفت سينماها ضمن مجموعة «ضفة اليسار»، ولكنها كانت تسخر من التسمية قائلة: « كل ما في الأمر أننا كنا نعيش على الضفة اليسرى لنهر السين». والحق يقال فإن روح الدعابة والخروج عن المألوف، صفتان رافقتا فاردا دوماً. فعندما تسلمت جائزة الأوسكار الشرفية عن كامل أعمالها، رقصت فرحة وهي في الثامنة والثمانين وقالت: «أمام ثقل هوليوود، شعرت بخفة ورقصت كطائر حر». كذلك قامت مبكراً بتغيير اسمها الأصلي آرليت لأنه لم يعد يروقها، وبالمقابل احتفظت بتسريحتها الخاصة طوال حياتها، حتى عندما غزا الشيب رأسها، أبقته في الجذور ولم تدعه يصل إلى أطراف الشعر، التي لونتها بالأحمر، وكأنها تقول للزمن مهلاً، ما زلت قادرة على اللعب معك، وما زلت معلقة بين لونين وزمنين. وعلى نحو ما بدأت فاردا مبكراً اللعب مع الزمن، حين جعلته سنة 1962 بطلاً في فيلمها الروائي «غليو من 5 إلى 7»، الذي تدور أحداثه حول مطربة شابة تنتظر نتيجة الفحص الطبي لمرض السرطان، حيث ترافق الكاميرا المطربة خلال ساعتين من الزمن الحقيقي عبر باريس، التي تراها البطلة وكأنها المرة الأولى أو الأخيرة. ومع أن فاردا كانت دائماً من مناصري المرأة، ووقعت في الماضي على عريضة الحق في الإجهاض، إلا أنها كانت ترفض بشدة تصنيف سينماها كسينما نسوية، وكانت ترى أنها منحازة للإنسان بالدرجة الأولى، وأفلامها إنما تصنعها بحساسية امرأة، حتى أنها بعد فيلم «السعادة» الذي أنجزته في عام 1965، تعرضت للهجوم من النسويات واتهمت بتبرير خيانة الرجل، وقد دافعت فاردا حينها عن فيلمها وأنه لا يبرر الخيانة بل يحاول فهم الأسباب التي تدفع رجلاً يعيش زواجاً سعيداً إلى الوقوع في حب امرأة أخرى. ومن هنا جاء عنوان الفيلم، لأنه يبحث في معنى السعادة التي كانت تعيشها العائلة الصغيرة، التي ظهرت في الفيلم من خلال الألوان الانطباعية ومشاهد النزهات العائلية في حقول عباد الشمس، ليتضح في النهاية أنها سعادة زائفة، ففي داخلها دودة الرغبة، التي كانت تنخر فيها ببطء.
 
وبسبب انحياز أفلامها إلى المهمشين، صنفت سينماها ضمن مجموعة «ضفة اليسار»، ولكنها كانت تسخر من التسمية قائلة: « كل ما في الأمر أننا كنا نعيش على الضفة اليسرى لنهر السين».
 
في موازاة ذلك وعلى المستوى الشخصي عاشت آنيس علاقة زواج طويلة مع المخرج جاك دومي، تشاركا فيها كل شيء حتى الولع بالسينما، ولم يفرقهما إلا موت جاك، الذي نعته فاردا سينمائياً وأهدته ثلاثة من أفلامها، أجملها كان «جاك من نانت»، وفيه اقتربت من جاك وهو على فراش المرض وقلبت ذاكرته، ولامست في لقطات كلوز آب شعره وعينيه وبقع جلده، وكأنها تلامس تضاريس جسده سينمائياً لآخر مرة. مات جاك بعد 10 أيام من انتهاء التصوير. مات ولكنه ظل حياً.
 
شواطئ آنيس
 
«أتخيل أن دواخل البشر هي تضاريس طبيعية، أنا في داخلي شواطئ وشواطئ وشواطئ…»، هكذا وصفت فاردا نفسها، وهكذا عنونت فيلمها «شواطئ آنيس»، الذي يحكي سيرة حياتها من خلال الأمكنة المختلفة التي عاشت فيها، والأشخاص الذين عبروا حياتها. وكما يضع الفنان التشكيلي المرآة أمامه عندما يرسم بورتريه شخصي، كذلك وقفت فاردا في أحد مشاهد الفيلم في مواجهة المرآة، ثم أدارتها ليظهر التقنيون والمساعدون من حولها، وكأنها تقول لا أكون إلا بهم. وفي مشهد آخر ظهرت وهي تسير إلى الوراء في مواجهة الكاميرا، في تجسيد فريد «للفلاش باك «، أو العودة بالذاكرة إلى الوراء. وربما يكون التعريف الأجمل لرؤية فاردا السينمائية، في الجملة التي قالتها داخل الفيلم: «أن تحب السينما يعني أن تحب جاك دومي، العائلة، الفن، الرسم، والبازل»، وربما يكمن السر في سينماها في قطع البازل التي يختلط فيها الواقع بالخيال، الملون بالأسود والأبيض، الشخصي بالعام، الفن بالشعر، الصورة المتحركة بالثابتة، الوثائقي بالروائي.
 
بين الوثائقي والروائي قلب معلق
 
لا حدود بين الوثائقي والروائي عند فاردا، ففي أفلامها الروائية الكثير من الواقع، ولطالما لجأت إلى ممثلين يؤدون على الشاشة أدوارهم في الحياة. فالعامل المهاجر في فيلم «بلا سقف ولا قانون»، هو مزارع تونسي أدى دوره في الفيلم، وكذلك فعل عامل الكراج، أما الزوجة في فيلم «السعادة» فهي زوجة الممثل الحقيقية، وأولاده الذين يظهرون في الفيلم هم أولاده البيولوجيون، بالإضافة لهذا فإن المخرجة نفسها ظهرت في الكثير من أفلامها الوثائقية، لتكون قريبة من المشاهد قدر المستطاع، ثم لتعود مجدداً إلى وراء الكاميرا، فالشاشة في أفلامها هي للآخرين كي يتحدثوا، حيث لكل شخص قصة تستحق أن تروى. ومع ذلك ابتعدت دائماً عن الأسلوب التقريري الجاف في أعمالها، ولم يخل أي فيلم وثائقي لها من الابتكار واللمسات الفنية، فتلك الفنانة المتعددة الوجوه، تتنقل بحرفية بين التصوير الفوتوغرافي والسينمائي، وبين فن التجهيز وكتابة السيناريو. وفي لحظة ما قد يتحول الوثائقي لديها إلى روائي، والانسان العادي إلى شخصية روائية، فلدى فاردا كل شخص هو مشروع نجم، وكل اسم يستحق أن يكتب على الشاشة، حتى أسماء 646 متبرع ظهروا في شارة نهاية فيلم «وجوه وأمكنة»، بل قد تستدعي الحميمية أن تكتب الشارة بخط اليد، وليس غريباً أن ينتهي الفيلم بكلمة «ستارة»، عوضاً عن «نهاية»، فالسينما كما الحياة خشبة مسرح لابد أن تسدل عليها الستارة في النهاية.
 
كل ما يدور فيها من مشاهد ولقطات وحوار ما هو إلا كولاج يحاكي الذاكرة، ويبقى ناقصاً مهما اكتمل، بل قد تكون القطعة الضائعة هي الأجمل ومن دونها لا يكتمل المعنى.
 
وجوه وأمكنة الأبطال المنسيين
 
«لحظة التقاط الصورة هي لحظة ملتبسة، ففي اللحظة التي يتم الضغط فيها على الزناد، ليست عين المصور التي ترى بل عين الكاميرا». هذا ما قالته المصورة فاردا، التي سعت طوال حياتها إلى نقل الواقع، والتقاط الوجوه والأمكنة والقصص المخبئة خلفه. وفي فيلمها «وجوه وأمكنة»، الذي أنجزته عام 2017 مع المصور الشاب ج آر، ذهبت إلى الناس وحكايتهم على متن كاميرا، حيث ركبت مع المصور الشاب في شاحنته السحرية، التي داخلها هو استديو تصوير متكامل، وهكذا تلتقط «الشاحنة الكاميرا» صوراً عملاقة للوجوه والأمكنة التي تعبرها بمحض الصدفة أو بمساعدتها، كما كان يحلو لفاردا أن تقول: «مساعدي الإخراج الأول هو الصدفة».
ويتم في ما بعد إلصاق الصورة العملاقة للناس على الواجهات العامة، كما تلصق عادة صور النجوم والمشهورين في عالم السياسة والفن، ولكن ليست ضخامة الصورة ما يعطي الإنسان القيمة في الفيلم، بل المساحة التي تمنح له على الشاشة ليتحدث ويروي، ويخبر قصته. وهكذا تتجمع قصص مختلفة عن عمال مصانع، مزارعين، مربي ماعز، عمال رصيف المرفأ وزوجاتهم.. ويتحول الفيلم إلى بورتريه عن فرنسا وناسها المهمشين، وأيضاً بورتريه عن المخرجين والصداقة التي بدأت تنشأ بينهما. من جهة فاردا بعينيها المتعبتين، ومن جهة أخرى ج آر الذي يخفي عينيه وراء نظارته السوداء. وفي مشهد من الفيلم تقول فاردا لصديقها الشاب «أنا أرى بضبابية وأنت ترى في العتمة، ولكننا نرى الناس بقــــلوبنا». قلب لابد أن يقود إلى «البطاطا على شكل قلــــب»، التي أصبحت مرتبــــطة بفاردا، منذ اكتشافها لها في فيلم «جامعي النفايات»، حـــيث التقطتـــــها أو أنقذتها، وبدأت تراقبــها وهي تكبر أو تشيخ…
شيخوخة البطاطا هناك تقود إلى شيخوخة فاردا هنا، وهكذا ضمن سيرورة الفيلم يلتقط المصور ج. آر صوراً لأجزاء من جسد آنيس كعينيها، وقدميها ويلصقها على قطار بضائع مسافر، على أمل أن تصل الصورة إلى أمكنة، يتعذر على المصورة المسنة الوصول إليها. إلى أن ينتهي الفيلم عند منزل المخرج غودا، الذي سيغلق بابه، بعد أن يترك ملاحظة ورقية: «لست هنا، أنا في المكان الذي اعتدنا اللقاء به مع جاك دومي»، بمعنى دعي الذكريات هناك حيث هي، ولا تحاولي إيقاظها. ولكن هل السينما شيء آخر سوى الحلم والذاكرة؟ وكل ما يدور فيها من مشاهد ولقطات وحوار ما هو إلا كولاج يحاكي الذاكرة، ويبقى ناقصاً مهما اكتمل، بل قد تكون القطعة الضائعة هي الأجمل ومن دونها لا يكتمل المعنى. وربما يكون كرسي فاردا الفارغ في مهرجان كان لهذا العام، هو قطعة السينما الفرنسية الضائعة.
 
٭ كاتبة سورية