Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    08-Jan-2021

قصيدة الهايكو في الأردن.. نماذج مضيئة

 الدستور-فاطمة الزغول

شهد العالم تحولاتٍ واسعةً منذ مطلع القرن العشرين إلى وقتنا الحاضر، وواكب الأدب بكافة أجناسه مجريات هذا التغيير الذي هو سمة أصيلة في الكون؛ فالثبات على حالٍ مُحال.وكما قال الفيلسوف (هيراقليطس):»الثابت الوحيد في الكون هو التغير».
وساير الشعر العربي مَرْكب التغير، وجدّف في تياره. والشعرُ ديوان العرب، وأبو الفنون الأدبية عندهم، ما كان ليتخلف عن تطوير، أو تجديد تصير إليه حياتهم، وثقافتهم؛ فعَبَر الشعرُ من حيثُ عبَر أهلُه، ومضى من حيثُ مضوا، قاطعًا مراحلَ، وأشواطًا عديدة من التطوير،والتجديد، والتغيير، بما يتواءم مع مقتضيات العصر، ومتطلبات المراحل الزمنية المختلفة.
وبطبيعة الحال، كان لكل مرحلة سماتها، لكنّ الشعر استطاع مع كلّ ذلك التغيير، أن يحافظ على جوهره القائم على ثلاثية الشعور والخيال، والموسيقى، وما اقترن بهذا الجوهر من أصول وثوابت.
سمي الشعر العربي القديم بالشعر العمودي، كما ذكر الآمدي في موازنته بين الطائيين، وكما ذكر القاضي الجرجاني في الوساطة مشيرًا إلى عمود الشعر، ومفهومه عند العرب، فكانت المفاضلة بين شعراء العرب في الجودة، والحسن، وشرف المعنى، وصحته، وجزالة اللفظ، واستقامته، مع جمال الوصف، والتشبيه، والاستعارة، والمطابقة.
وفي منتصف القرن التاسع عشر، مرّ الشعر العربي بفترة ركود سادت في العهد العثماني، فانتشرت موضوعات بسيطة، تتماشى مع احتياجات الناس في تلك المرحلة؛فشاع شعرُ المناسبات، والتهنئات، والألغاز، والمدائح. ثم تلت هذه المرحلة صحوة للأدب في مطلع القرن العشرين، مع ظهور حركة الإحياء، والتي تبعها اختلاط العرب بالغرب، والمثاقفة، والترجمة، والانفتاح الحضاري.كما واكبت هذه التحركات حركة شعراء المهجر الذين تمسكوا بالقديم، مع مواكبة التطور والتجديد في الموضوعات، والتخلي عن وحدة القافية.
وظهرت حركة الشعر الحر، أو قصيدة التفعيلة،وتطورت على يد مجموعة من الشعراء الذين تبنوا هذه الحركة، مثل نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، ومصطفى وهبي التل (عرار) وغيرهم.فبقيت الأوزان الشعرية، مع التخلي عن القافية.
أما المرحلة الحالية التي يمر بها الشعر العربي، فهي مرحلة التغيير المتسارع، وتوليد الأجناس الأدبية المتأثرة بالمثاقفة مع الغرب، والانفتاح الحضاري، والرقمنة، والتكنولوجيا، والعولمة، وشيوع الأدب الوجيز، الذي يختزل اللغة ويكثفها في أقل العبارات.فالتسارع الذي يشهده العالم، وهيمنة الحاسوب على كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، جعل الحاجة ملحة إلى الأجناس الأدبية الوجيزة، الومضية، التي تثري الذائقة الأدبية، مع مراعاة عامل الزمن، وكثرة الضغوط،والمشاغل اليومية للمتلقي، مع حاجته إلىالزاد الثقافي اليومي الذي يشبع ذائقته المتعطشة إلى الأدب والفن.فانتشر الأدب الرقمي في مواقع التواصل الاجتماعي؛ ما حقق المتعة الثقافية الأدبية للمتلقين في شتى أماكن تواجدهم، وبات باستطاعة المتلقي الاطلاع على المنشورات الأدبية في مكتبه، أو في وسيلة النقل، أو في المقهى، وغيره.
وبرزت في الأدب العربي الحديث فنون شعرية وجيزة متأثرة بالأدب الغربي، كقصيدة النثر، والقصيدة القصيرة جدًا، وقصيدة الهايكو، والقصيدة الومضة، وغيرها، واتجه العديد من الشعراء العرب إلى نظم مثل هذه الفنون؛ فمنهم مننظم في جنس واحد منها، ومنهم من تعددت إبداعاته، لتشمل أكثر من مجال.وكانت مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة وعاءً مناسبًا لمثل هذه الأجناس الأدبية الوجيزة.
ظهرت قصيدة الهايكو في الأدب الياباني عام 1694، على يد الشاعر الياباني ماتسوو باشو، ومن حيث القالب الشعري، تتألف قصيدة الهايكو من بيت شعري واحد مكون من سبعة عشر مقطعًا صوتيًا من المقاطع الصوتية اليابانية. تُكتب في ثلاثة أسطر مقسمة: خمسة، تليها سبعة، ثم خمسة، تمثل لحظة التوتر التي تسمى في اليابانية (ساتوري) نقطة الأوج في القصيدة؛ إذ يعبر فيها الشاعر عن تجليات الطبيعة، والمشاهدات الحسيّة، والبصرية المشهديّة، تعبيرًا مختزلًا، مكثفًا، ومضيًا.ومن شروط الهايكو أن تضم كل قصيدة «كيغو»باليابانية؛ أي كلمة تدل على أحد الفصول الأربعة: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء. ويقسم كل فصل في الـ «كيغو» إلى ثلاثة أجزاء، بداية ومنتصف ونهاية. مثل:بداية الربيع، ومنتصف الربيع، ونهاية الربيع. فالهايكو تعبير عن التأمل في الطبيعة الناطقة، المعبرة عن ذاتها بكل ما فيها من تلقائية، وجمال محسوس.
سعى العديد من الشعراء العرب إلى محاكاة قصيدة الهايكو في لغتهم، مع إضفاء الطابع العربي عليها.وانبرى العديد منهم إلى دراسة أركانها، وأسسها، رغم معارضة الكثير ممن يرفضون التغيير، ويدعون إلى التمسك بالموروث القديم،دون تقبل لأي جديد. فكان عز الدين المناصرة أول من كتب قصيدة الهايكو عربيًا، لكنه تراجع عن تسميتها بالهايكو، وأطلق عليها اسم توقيعات تيمُّنًا بالتوقيعات المعروفة في الأدب العباسي القديم. ثم تعددت الكتابات في هذا المجال، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية المختلفة. وصدرت دراسات عربية بحثت في قصيدة الهايكو، وتجنيسها، ككتاب المغربي مصطفى لغتيري (ما الهايكو يا أبي؟ )، وكتاب الأكاديمي الأردني عبد الرحيم المراشدة (تمثلات قصيدة الهايكو في الشعر العربي، مدونة نضال القاسم أنموذجًا)، وغيرها من الدراسات التي اهتمت في هذا الجنس الأدبي الحديث درسًا، وتنظيرًا، ونظمًا، وتأطيرًا.
اتجه العديد من الشعراء الأردنيين للمسير في سبيل قصيدة الهايكو، متأثرين بالمثاقفة، والترجمة عن النماذج الغربية من هذا الشعر. والغالب أن الشعراء الأردنيين والعرب عمومًا إنما نقلوا هذا النوع الأدبي عن الآداب الغربية؛ أي عن النماذج الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية. وليس عن الأصل الياباني، حيث لا تزال حركة الترجمة والمثاقفة بين العربية واليابانية محدودة للغاية، وتجري في الغالب عبر لغة وسيطة. ولذلك أخذت قصيدة الهايكو العربية طريقًا خاصًا ابتعد في القالب، والتقسيمات الصوتية، والبنيوية عن قصيدة الهايكو اليابانية؛ فالشاعر العربي أدخل على هذه القصيدة طابعها لمتأثر بشعر الطبيعة الموروث في الأدب العباسي، والشعر الأندلسي.فالطبيعة كانت حية في نفس الشاعر العربي منذ القدم،وهي ليست طارئةً على الشعر العربي، لكنها في قصيدة الهايكو، اتخذت طابعًا مكثفًا مختزلًا، مليئًا بالغرابة والادهاش، والعاطفة الجياشة، والتجسيد الناطق للمحسوسات.
تأسّس نادي شعراء الهايكو في الأردن على أيدي مجموعة من الشعراء والمهتمين عام????، تحت اسم (نادي شعراء هايكو الأردن... شعراء الطبيعة) في رابطة الكتاب الأردنيين، فضم مجموعة من الشعراء الذين اهتموا بتأطير، وتجنيس، ونشر هذا الجنس الأدبي الحديث. واختيرت الشاعرة فاتن أنور، رئيسةً لهذا النادي، بعد إصدارها ثلاث مجموعات إلكترونية في الهايكو.ومن أعضاء هذا النادي:الشاعر محمود الرجبي، والشاعر نايف الهريس، والشاعر توفيق أبو خميس، والشاعرة ثراء محمد يوسف، والشاعرة ميسر أبو غزة، وغيرهم.
ومن النماذج على قصيدة الهايكو في الأردن، هذه القصيدة لشاعر من أبرز شعرائها في الأردن، الشاعر محمود الرجبي:
(وطن)
«كسلحفاة تحمل بيتها
أحمل حزني معي
لكنه ينام في داخلي!!»
ينقل الرجبي في قصيدة الهايكو هذه مشهدًا، يبدو أنه لمحه في الطبيعة،لكنّه قرنه بواقع يعيشه؛فقد ربط مشاهدته للسلحفاة التي تتنقل في الطبيعة حاملة بيتها، مختفية بداخله، تتنقل بهطالبة رزقها، بواقع الشاعر؛ فهو يسير في الحياة حاملًا حزنه، وهذا الحزن ينام مختبئًا في أعماقه.
ويبدو التناغم الموسيقي جليًّا في المشهد السابق بين مشهد السلحفاة التي تتنقل ببطء، مختفيةً داخل بيتها المحمول على ظهرها، ومشهد الشاعر الذي يسير وهو يخفي حزنًا مخفيًا في أحشائه، يرافقه، وينام في أعماقه، وكأنه يحميه من الظهور على الملأ. فالطبيعة بمشهدها المرئي، انعكست على ذهن الشاعر وتصورت أمامه بمشهد يماثل حالة الحزن المخفي بداخله، والذي جسده في مشهد السلحفاة التي تكابد حمل بيتها ليسترها من الخطر الذي قد تلاقيه من أعدائها في الطبيعة.
ومن النماذج على قصيدة الهايكو هذه القصيدة للشاعر عبد الرحيم جداية:
«سياج شائك
تعبره العصافير بفرح طفولي
ويبكيه الأطفال»
ينقل الشاعر الجداية للمتلقي مشهدًا حيًا، تأثّر به الشاعر وجدانيًّا، وهيج عاطفته؛ فهو يرى السياج الشائك الذي يمثل حاجزًا يحول دون الوصول إلى مكان معين، تستطيع العصافير التي تتمتع بالأجنحة التي ترمز للحرية، التنقل،والعبور داخل هذا الحاجز بسهولة وفرح، في حين يقف الأطفال، يبكون بسبب عدم مقدرتهم على اجتياز هذا السياج الشائك.
مشهد عادي يراه الإنسان في الطبيعة بشكل دائم، لكنه ولّد في نفس الشاعر شعورًاعميقًا، ربطه بمعاني الحرية، وقيمتها الإنسانية؛فالعصافير تعبر السياج بفرح طفولي، لتمتعها بحرية التنقل والحركة، في حين يبكي الأطفال، لفقدانهم حرية التنقل، ولاحتجازهم خلف هذا السياج.
يزخر المشهد السابق بالإيحاءات الصوتية والحركية، كصوت العصافير التي تزقزق بفرح طفولي، وصوت بكاء الأطفال، كما تبدو حركة العصافير المحلّقة فوق السياج، وحركة الأطفال التي تحاول العبور، في مشهد مرئي طبيعي، مليء بالحيوية، والمعاني الرمزية، ينقلها الشاعر في مقاطع صوتية معبرة في لغة مكثفة مختزلة.
ومن النماذج على قصيدة الهايكو أيضاً هذه القصيدة للشاعرة فاتن أنور:
«بلا ذاكرة
يعاود الموج انكساره على الصخور.»
في هذه القصيدة تنقل الشاعرة للمتلقي مشهدًا حيًا، تُجسِّد فيه موج البحر كائنًا يعاود حركته المنكسرة على الصخور عدة مرات، وكأنه شخص فاقد للذاكرة، فهو لا يتذكر حركته السابقة، لذلك يعود لتكرارها من جديد.
مشهد مرئي طبيعي، مليء بالرمزية والإدهاش، تنقله الشاعرة فاتن من مشاهداتها على شاطئ البحر.هذا المشهد ولّد في نفسها مشاعر ربطتها بتصّور لمشهد إنساني، تحتفظ به في ذاكرتها؛فالموج اللطيف يتحرك بانكسار نحو الصخور القاسية التي تصدمه بقوه، ولكنه يعود إليها من جديد، وكأنه نسي الصدمة الأولى، مشهد هيّج عاطفة الشاعرة، لتنسج لنا هذا التناغم الصوتي المدهش. ومن النماذج على قصيدة الهايكو هذه القصيدة للشاعر توفيق أبو خميس:
«الهجر حرّ رمضاء
بلةُ ريق
ناشدًا فيض وصلك!»
تبدو في هذه القصيدة معايشة الشاعر لحر الصحراء في يوم شديد الحرارة؛ مما هيج لديه مشاعر الإحساس بهجر المحبوبة الذي يشبه في نظره حر الرمضاء الملتهبة، فيطلب بلّة ريق تخفف ذلك الوهج، إلى أن تعود بوصلها، فتخفف لهيب الشوق.فمشهد حرارة الصحراء اللاهبة، حرك في نفس الشاعر ما يشابه هذا المشهد في نفسه، فعبر عنه في هذا التناغم الصوتي المليء بالتكثيف والاختزال، والصورة الحسية الحية. فالشاعر هنا استخدم المحسوسات من المشاهد المرئية المعتادة للمتلقي، ليصور من خلالها مشاعره الجياشة، فهو يشبّه ما يلقاه من تواصل عن بعد، ببلة الريق التي تخفف حرّ الشوق إلى أن يتم الارتواء بفيض الوصال.
من الملاحظ في النماذج المدرجة سابقًا نقلها لمشاهد طبيعية حسيّة، بتناغم صوتي تغمره العاطفة الشعرية التي يجسدها الشاعر، برهافة حسه، وعمق عاطفته، التي تجعله يرى المشاهد الطبيعية العادية بصورة أكثر عمقًا وتخيّلًا؛ فالشاعر ينظر إلى ما وراء المشهد ليقرنه بالخيال، والحس الإنساني، فيستلهم من الطبيعة أسرارها، ويحاور صوتها الناطق بالإلهام.
ولو أعدنا النظر في النماذج السابقة، نجد أن الشاعر الأردني أخذ من قصيدة الهايكو اليابانية محاكاة الطبيعة وتجسيدها في الشعر، لكنه لم يلتزم بالمقاطع الصوتية السبعة عشر عند اليابانيين، وتقسيماتها التي ذكرناها سابقًا، وذلك لاختلاف اللغة، ومتطلباتها؛ فالشاعر هنا أخذ من قصيدة الهايكو اليابانية أصولها ليضفي عليها نسيجًا بنكهة عربية زاخرة بجمال اللغة، وعناصرها البلاغية.