Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    08-Feb-2019

كراسي البلد* د. صبري الربيحات

 الغد

لفترة قريبة اعتقدت ان اغنية “احنا كبار البلاد، واحنا كراسيها” مجرد لحن راقص يبعث على الزهو والحماس، وانها انتشرت بفضل الطلة المميزة وبحة الصوت وغمزة العين التي أتقنتها سميرة توفيق وهي ترد شعرها بإيماءات تجعل الاداء لوحة سيريالية آسرة.
في السبعينيات كانت سميرة توفيق رمزا للجمال حسب المعايير الأردنية، وارتبط صوتها واسمها وحضورها بلون الغناء الموجه لإدامة البناء المعنوي للجنود والطلاب والرعاة والحصادين في الارياف والبوادي والمدن. في هذه الاغنية التي كتب كلماتها المشير حابس المجالي لرفع معنويات الجنود وتعميق احساسهم بالهوية التي يدافعون عنها يتداخل الصوت مع اللحن وتدغم الغمزة في الكلمات فتدغدغ قلوب واحاسيس الجنود الذين يستمعون للحن ويشاهدون الاداء. في حالات كثيرة يفقد الرجال انفسهم فلا يعرفون اذا ما كانوا يرقصون لعيون سميرة ام للحن وكلمات العز والافتخار.
من وقت لآخر ينهال البعض باللوم والعتب او بالشكوى والتذمر فيقول “يا اخي والله هالبلد كذا وكذا”، ويتناسى ان البلد ليست مقتصرة علينا ولا على هذا الجيل فقبلنا بكثير كان فيها انبياء ورسل ورهبان وشيوخ وفلاسفة وعلماء ورحالة وفرسان وشعراء واولياء وصناع وزراع وحكماء ولصوص. كان فيها كل ما جعلها بقعة مميزة على خريطة العالم وصفحة مهمة في تاريخ البشرية. 
هذا البلد لم يولد معنا ولن ينتهي بنهايتنا. فعلى هذه الارض مر موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وكان ميشع وادوم والحارث. في الأردن توقف امرؤ القيس والشنفرى وعاش نمر بن عدوان وتنقل بين بلداته عرار. وكان حابس ووصفي. وقبلهم كان الخزاعي والشريدة والجازي والاف الرجال والنساء ممن تركوا أثرا يتجاوز حدود زمانهم.
الأردنيون متعلقون بوطنهم ومتمسكون بكل ذرة تراب فيه ولا يقبلون ان يجري تسعير مقدراته ووضعها في جداول ومصفوفات تعرض على من يريد التملك والاستثمار فهم يرون ان لكل واد قصة ولكل مغارة حكاية ولا يحبون الخصخصة ولا المرور على ذكرها.
على الارض الأردنية نشأت قصص وصنع تاريخ تعرفه البشرية اكثر مما يعرفه جيل الخصخصة الذي اندفع متباكيا على الأردن، ويريد وضع خطة انقاذ ونهوض له لم تسفر الا عن ضياع المقدرات ليزداد الفقر وتتعمق البطالة وتتردى الخدمات.
خلال العقود الاخيرة انضم الى الادارة الأردنية بعض من الشباب ممن امضوا جل حياتهم في مجتمعات اخرى فغاب عنهم ما تعنيه الاماكن لسكانها وقيمة التاريخ للاجيال، فتعاملوا مع كل ما فيه كموجودات واصول يمكن التصرف بها، فتبنوا برامج للخصخصة ادارتها عشرات الشركات والمؤسسات، ومع الوقت اصبحت الخصخصة منهجا انقسمت حوله القوى السياسية والاجتماعية الى ان استقر كخيار سارت عليه الكثير من القطاعات.
اليوم ورغم الخصخصة لم يلمس المواطن شيئا من الوعود، فلم تتناقص الديون، وتدهور مستوى الخدمات ونوعية الحياة، وتغيرت قيم العمل والخدمة العامة، وتأثرت الادارة العامة بمفاهيم الاكرامية والحوافز التي شجعت البعض على الرشوة واستغلال الوظيفة واساءة الائتمان.
اليوم تعود لذاكرتي الكلمات والصورة في مشهد اقل براءة من المشهد الذي صنعته الاغنية الاسطورية التي احبها الجنود والعشاق والفلاحون. بشاعة الصورة اليوم ان من يزعمون انهم كبار البلد من تجار ومقاولين وانصاف موهوبين يأتون من كل حدب وصوب ينقضون على مواردها ويتباكون على تأخر نهضتها، فيقدمون وصفة رديئة يجري الترويج لها والمصادقة عليها من قبل المتنفعين والسماسرة، ويقضون بعض الوقت في التجريب وممارسة السلطة وتنفيع الشلل ثم يرحلون بلا محاسبة.
في الأردن اليوم حاجة ملحة الى رؤية وطنية شاملة تتحول الى برامج ذات اهداف واضحة وآليات تنفيذ مناسبة ضمن اطر زمنية محددة يشارك في صياغتها الجميع. رؤية تخرج البلاد من حالة الازمات المزمنة الى الحلول الممكنة التي يشارك فيها الجميع، وفي بيئة تسود فيها العدالة والمساءلة.