Tuesday 23rd of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    08-Sep-2017

قراءة في فكر نصر حامد أبو زيد (1) - عبدالرحيم الزعبي
 
الغد- تنتقل الأفكار حين ينشرها المفكر من جدليتها الصغرى في ذهنه إلى جدليتها الكبرى مع قوى الواقع. وعلى سبيل السذاجة، يحكم البعض على مشروع فكري بالفشل لمجرد أن يلفظه الواقع!! بينما يحمّل آخرون قوى الشد العكسي المسؤولية الكاملة عن فشل المشروع!! والحقيقة أن أي مشروع فكري معتبر لا يفشل، بل يحارب ويصارع ليترك بصمته الفكرية في الواقع، فالجدل الذي يدور بين المفكر والمؤمنين بطرحه من طرف وبين قوى الشد العكسي من طرف آخر يترك آثاره الكامنة في ذهنية الطرفين، ثم يدخل بعد ذلك كلبنة في البنيان الفكري لدى كل طرف. كل بحسب درجة تعاطيه سلبا أو إيجابا مع المشروع. أما المراهنة على حمل الناس بالجملة على الإيمان بمشروع فكري معين والابتهاج والتهليل له لحظة تحرره وإطلاقه فمحض هراء، كذلك فإن نشوة النصر التي تأخذ أعداء المشروع حين يعتقدون بهزيمته ما هي إلا مراهقة فكرية. 
وعلى سبيل المناكفة والمساجلة يفصل بعض نقاد الفكر بين لحظتين، لحظة الدراسة والتقييم ولحظة إصدار الحكم النهائي. في لحظة الدراسة والتقييم يتم التعامل مع المشروع الفكري كمجموعة من الجزئيات التي يمكن تفكيكها والتعاطي مع كل واحدة على حدة، ثم يتم نقد أو نقض واحدة أو أكثر من هذه الجزئيات. وبغض النظر عن صرامة أو أريحية معايير النقد المتبعة فإن لحظة إصدار الحكم النهائي هي المشكلة، ففي هذه اللحظة ينظر إلى المشروع الفكري كوحدة صلبة متماسكة لا مجال لفك أجزائها عن بعضها البعض. وبذلك تتهيأ لهم الفرصة لنقض المشروع الفكري كاملا والحكم بفشله لأنهم نقضوا واحدة أو أكثر من جزئياته. هكذا تغيب القراءة الجادة للمشروع لتحل محلها القراءة التربصية.   
ليست هناك قاعدة اسمها "خذوا الفكر الفلاني كله وإلا فاتركوه" إلا في الأذهان المتحجرة أو لدى أصحاب النوايا المغرضة، فكل شيء قابل للتفكيك وللتجزئة، وكل شيء يؤخذ بعضه بقوة وبعضه على استحياء، ويترك بعضه مع تجاهل وإهمال وبعضه الآخر مع حرب وقطيعة. وعلى سبيل المثال فقد قدم ماركس نظريته الاجتماعية الفريدة التي يبدو أثرها واضحا جليا في كل ما قدم بعده في علم الاجتماع البشري، إلا أن النظرية الاجتماعية الحديثة كانت بوتقة ضخمة تصهر نتاج ماركس وفرويد وفيبر ودوركهايم وغيرهم الكثير.
في طور تكون الأفكار في ذهن المفكر يتردد الذهن بين دورين متواترين، فهو تارة يلعب دور صاحب الأفكار، ومهمة الذهن في هذا الدور هي إنتاج الأفكار وإنضاجها، وهو تارة أخرى يلعب دور الحكم الذي يطلق الحكم بصلاحيتها أو عدم صلاحيتها لمشروعه الفكري. يستمر الذهن في التردد البندولي بين هذين الدورين إلى أن يتمكن من الربط بين أفكاره في وحدة كلية متجانسة متناغمة متساوقة يطمئن لترابط أجزائها وإفضاء بعضها لبعض. يشعر المفكر بعد ذلك بانتصاب قامة عمله الفكري وارتفاع هامته واقتداره على النزول إلى ميدان الواقع، فيحرره من سطوته ويطلقه في الميدان فارسا مغوارا. ولئن كان هناك صراع يخوضه المشروع في ذهن المفكر نفسه فما بالك بالعراك الواقعي مع المجتمع !!
يحدث في بعض الدراسات الفكرية أن يبدأ المفكر دراسته بمقدمات نتفق فيها معه، ثم ما يلبث أن يمد أفكاره إلى نهايات يعتقد أنها منطقية، ولا نعتقد معه بمنطقيتها أو لا نتقبلها رغم منطقيتها !! في تلك اللحظة لا يسع البعض إلا أن يرد الدراسة جملة وتفصيلا، ويتبع رده بالحكم على المشروع الفكري الذي تنتظم فيه الدراسة بالفشل والبطلان !! ويحدث في دراسات أخرى أن تكون خلاصة الدراسة محببة  إلينا كمجتمع غير أن المحاججة الداخلية مرفوضة، وذلك لتخطيها بعض الحدود أو مسها لبعض الإيقونات. ينطبق ما ذكرنا على مشروع نصر حامد أبو زيد الفكري، ففي كتابه "دوائر الخوف" يبدو لنا العيب الأول. وفي فكرة جدلية النص مع الواقع التي كرس لها كتابه الشهير "مفهوم النص/ دراسات في علوم القرآن" يبدو لنا العيب الثاني.
تقدم هذه التدوينة لسلسلة تدوينات أخرى تتناول واحدة من أهم الدراسات التي قدمها نصر أبو زيد. الدراسة هي "مفهوم النص/ دراسات في علوم القرآن" وقد تم اختيار هذه الدراسة بالذات لاحتوائها على أهم معالم مشروع نصر الفكري. والدراسة تقوم على ركيزتين أساسيتين هما: تشكل النص القرآني في حدود الواقع المعاش زمن التنزيل، وبالتالي اقتصار الأحكام المستنبطة منه على تقديم حلول لمشاكل ذلك الواقع دون غيره. وثانيتهما قابلية النص القرآني لإعادة القراءة لتوليد أفهام واستنباط أحكام تتناسب مع الواقع البشري المتغير على امتداد التاريخ والجغرافيا. 
تثير الدراسة عصفا ذهنيا عند قراءتها، فالمحاججة المقدمة في نسبية الأحكام القرآنية لم تقتصر على المرويات المحيطة بالنص القرآني فحسب، بل وسعت سياقها ليضم الثقافة واللغة والتاريخ والواقع الاجتماعي. كما أن الدراسة لم تهدف لإهدار النص القرآني وإقصائه عن الحياة العامة، بل للتقديم لصلاحيته لكل زمان ومكان بطريقة جديدة تتجاوز الأيديولوجية على حد تعبير أبو زيد. والدراسة وإن قدمت لفكرة تشكل النص القرآني ضمن إطار الواقع (وهي فكرة مربكة للذهن الإسلامي بخطابه التقليدي) إلا أنها لم تشكك في ألوهية مصدره. أما بالنسبة لإعجاز النص القرآني فقد أخرجته الدراسة من إطاره التقليدي من خلال الكشفت عن روابط داخلية بين أجزاء النص القرآني تتيح إعادة قراءته مرارا وتكرارا.
بدا لكاتب هذه السطور أن الموضوع متين، ويحتاج إلى أن نوغل فيه برفق، لذلك فقد اختار أن يقدم له بهذه المقدمة الطويلة. في التدوينة القادمة من هذه السلسلة سيتطرق المدون إلى موضوع "تشكل النص القرآني في الواقع"، وهو موضوع طويل قد يحتاج إلى تدوينتين. وقد يكون هناك تطرق لكتب ودراسات أخرى للمفكر نصر إن دعت الحاجة إلى ضرب مثال أو الإضاءة على مساحة مظلمة في كتاب "مفهوم النص" موضوع هذه السلسلة. 
abdul.informatic@gmail.com
Facebook: https://www.facebook.com/abdulraheem.alzubi