باب الريح.. الخيارات الصعبة لمصر في سيناء* سامح المحاريق
القدس العربي-بقي الامتداد للشرق مؤشراً لنفوذ مصر، ففي العصور الفرعونية كان الشرق يمثل التهديد المحدق الذي يدفع بالهكسوس والفرس وغيرهم للحدود المصرية، وسعت مصر لفرض سيطرتها على مناطق مختلفة في الشام، وبعودة مصر المؤثرة في العصر المملوكي بعد تغيب طويل في دور الولاية الرومانية، ومن بعد ذلك الأموية والعباسية كان التقدم إلى الشرق والتواجد عسكرياً وإدارياً في الشام، أو أطرافها مصلحة استراتيجية، تراجعت من جديد مع تحول مصر إلى ولاية عثمانية، وفي معظم الأحوال كانت سيناء هي المنطقة صفر بالنسبة للأمن المصري، فوجود سيناء بحوزة المصريين يعطيهم زخماً كبيراً للدفاع عن مركزهم في وادي النيل، بينما فقدهم لسيناء يعني أن الأمور أصبحت سلبية، وأنهم يخضعون لخطر محدق، وبالطبع اكتسبت سيناء أهمية كبرى بعد افتتاح قناة السويس ودخولها إلى خريطة الجغرافيا السياسية للعالم.
تفوق سيناء في مساحاتها أكثر من ستين دولة مستقلة في العالم، إلا أن التواجد السكاني في المنطقة يعتبر متدنياً لعدم توفرها على العوامل الجاذبة للإقامة، وتعتبر القبائل البدوية العربية، القوام الأساسي للتركيبة السكانية السيناوية، ويمتلك السيناوي تركيبة شخصية مختلفة عن المصري القياسي، فمن ناحية يبقى منتمياً للمكان والنسب القبلي أكثر من انتمائه للدولة، ومن ناحية أخرى، فإن مظاهر تمثل الدولة في سيناء لم تكن دائماً إيجابية، فالكثير من المظاهر الأمنية يقابلها القليل من المرافق والخدمات، لذلك فإن شعوره بالغصة تجاه ما يمكن أن يسمى إهمالاً أو حتى تجاهلاً يبقى مسيطراً وواضحاً.
الناشط السيناوي مسعد أبو فجر يعتبر مرجعاً لما يمكن تسميته بالوقائع الجارية على أرض سيناء في العقدين الأخيرين، خاصة بعد ثورة 2011 وتحول سيناء إلى بؤرة يلوذ بها الإرهابيون، بما أدى إلى أن يصبح السيناويون المتضررون أصلاً من وجود الإرهابيين في التشكك المستمر والتضييق المتواصل من الأجهزة الأمنية المصرية، وفي أحد تعليقاته على الحادثة الإرهابية الأخيرة، التي استهدفت كميناً للجيش المصري، يدلي أبو فجر بمقترحه بتحسين العلاقة بين الجيش والقبائل، وترك القبائل تتولى بنفسها عملية تطهير سيناء من الإرهابيين. ينادي أبو فجر، الذي يوجه نقداً لاذعاً للجيش المصري، بدفع القبائل لمواجهة الإرهابيين، فالقبائل تعرف سيناء ومجاهلها جيداً، وتعرف أي تهديد لمصالحها ووجودها يمثله تمركز الإرهاب في مضاربها، والقبائل تحتاج إلى بناء الثقة مع الأمن في مصر، والأخير لا يمكنه أن يمنح الثقة لأن القبائل لا تتماشى مع تصوره للمواطن القياسي، المتعاون الذي يتعامل معه في مصر المركزية المحيطة بالنيل، فالقبيلة تحتفظ ببنية رمزية وذهنية مختلفة وعميقة في التاريخ، وغير قابلة للترويض والتعديل، بالسرعة التي يمكن أن تحدث في المدن الكبرى المعتادة على وجود السلطة، وقدرتها على فرض شروطها على المجتمع.
جربت مصر التحالف مع العائلات الكبيرة في الصعيد، لتدخل معها تحالفاً ضد البؤر الإرهابية، وكان وزير داخلية مصر عبد الحليم موسى يلقب بشيخ العرب لتفهمه لذهنية العائلات الصعيدية المسلحة بطبيعتها، وعنايته بالتواصل معها ووضعها في خانة الحليف، وعلى الرغم من النقد الذي يوجه لأسلوب موسى من قبل مدرسة حبيب العادلي الأمنية، فإن المنتقدين يتناسون أن موسى أنجز مهمته بدفع الجماعات الإسلامية المحلية إلى تبني المراجعات، وتشكل حالياً قواماً مهماً داخل الجسد السلفي المتصالح مع السلطة، وحتى المتحالف معها، بينما لا يمكن القول بأن تنظيم «داعش» الذي يعمل بطريقة التفرع لتنظيم «القاعدة» وللإرهاب عابر الحدود، والمتورط في الألعاب الكبرى لأجهزة المخابرات الدولية، يدخل في خط تقييم تجربة التواصل البناء مع القوى المحلية، وتوظيفها لتكون رديفاً للأجهزة الأمنية في الحرب على الإرهاب. الإرهابيون في سيناء دخلاء استغلوا الجغرافيا والظروف التاريخية من أجل التجمع في تشكلات واسعة، ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الخبرة للوقوف على وجود الكثير من حلقات الإمداد التي تجعلهم قادرين على الاستمرار، في ظل العمل الأمني والعسكري المكثف ضدهم، ووصلت رغبة تحدي ومضايقة الدولة المصرية إلى إقدامهم على العمليات الإرهابية في صبيحة يوم العيد بما يعني الرغبة في تنغيص حياة المصريين وإلحاق الإهانة بجيشهم المشتبك في عملية عسكرية واسعة وطويلة في سيناء، وفي هذه المرة تناقل المصريون التسجيلات الصوتية لجنود الكمين وشهدائه في اللحظات الحاسمة، التي بينت مدى خطورة وتعقيد الموقف الذي يواجه الجيش المصري ميدانياً.
المساحة الشاسعة لسيناء، وطبيعتها الجبلية التي تشبه المتاهة، تحتاج إلى تحالف مع الأهالي المحليين، الذين لا يستشعرون بقدرتهم على الاشتباك الإيجابي بجانب القوى الأمنية في المعركة الواسعة تحت طائلة عدم الثقة القائمة، والإفراط في الشكوك الأمنية تجاههم، واضمحلال العمل على التنمية في سيناء مقابل التهام القاهرة ومشاريعها للموارد الخاصة بالدولة المصرية، وكذلك تجاهل العقل المصري لاستيعاب قضية خصوصية بعض المكونات خارج النمط القياسي المعترف به للمواطنة، والسيناويون ليسوا وحدهم في هذه المعادلة، فأهالي النوبة، وبعض مناطق الصعيد، وبدو الصحراء الغربية، جميعهم يعانون من منظور أمني يريد تطويع الجميع تحت النموذج المطبق في القاهرة. تمتلك مصر مواصفات وخبرات الدولة العميقة، التي تسعى للسيطرة على كل شيء، وتضيق ذرعاً بالاختلاف، وتعتبره عبئاً كبيراً، وبعد الثورة تزايدت العناية بنموذج الأسرة الانتخابية المستعدة للانصراف عن الشأن السياسي، ومنح التفويضات والأصوات التي تمكن السلطة السياسية من الانفراد بالأمور بالطريقة التي تراها مناسبة، بمعنى التحول من المواطنة البناءة والإيجابية إلى صورة من التجمعات السكانية المطيعة، وهو الأمر الذي يمكن أن يضيف للفئات المستبعدة لما تحمله من خصوصية كثيراً من أهالي مدن القناة، خاصة بورسعيد، وبعض مناطق الدلتا التي تحمل أبعادها الاجتماعية والعرفية الخاصة.
النزيف في سيناء يقلق السيناويين المسالمين والجيش المصري وعموم المصريين، والتعامل بالطريقة العسكرية – الأمنية نفسها، المرة بعد الأخرى لم يعد مجدياً، ويتسبب في كثير من الإحراج للعقلية الأمنية، ومع ذلك فسيناء كانت دائماً باب الريح الذي لا تملك الدولة المصرية القدرة أو الرفاهية لإغلاقه، وعليها أن تبقيه مفتوحاً بثرواته وخيراته لمصر وغيرها، والسيناويون من خلال الخبرة التاريخية حريصون على أمن منطقتهم ويعرفون أن تحسن أوضاعهم المعيشية، حتى من خلال الفتات الذي يتحصلون عليه من الأنشطة السياحية، مرتبط بتطهير سيناء من الإرهاب، وبدعم الدولة المصرية ومساندتها يمكن أن يتحولوا إلى طليعة المواجهة في سيناء، وأن يحققوا نجاحاً كبيراً لمعرفتهم بالـ(شرايين المفتوحة) لسيناء، والمغلقة أيضاً.
*كاتب أردني