Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    24-May-2019

من دون فناجينهم.. يرحلون!

 الدستور-ماجد شاهين 

استوقفني، في شارع البسكليتات، صديق ٌ من «أم الدنيا «، كما أحبّ أن أقول عن مصر، وسألني وبدهشة  مصحوبة باستهجان: أين أنت؟ 
لم أمنح نفسي فرصة الانتظار، ومن دون أن أدري، قلت له: هات كرسيـّا ً لكي أجلس.
عند الرصيف وعلى حجارته وفي مسافة قليلة بين « مقهى وأراجيل وفحم وكرة تتدحرج في الشاشة بين أقدام اللاعبين « 
ومحلّ تنبعث منه رائحة الغاز والكاز ونرى فيه العاملين يعيدون إنتاج الدفء والنار واللهب ويوفرون لزبائنهم فرصا ً إضافية لكي يتدفأوا.. في تلك المساحة القليلة بين مقهى ومحل سمكرة، جلست برفقة صديق يتحرك ليخدم الزبائن ثم يرجع لكي يلقي لي بالاً ويحاول الاطمئنان عنـّي.
هناك، رأيت في ما يرى العاشق والملتاع والمشوق ُ والصابر وحارس الوقت والنادل وابن التراب والكهل الذي فقد نصف حريقه ولم يفقد بريقه، رأيت ُ ما أحب ّ أن أراه  والقليل ممّا لا أحبّه كثيراً  وحاولت أن أرى ما لا يراه عابر مسرع الخطو والذهن.
قلت لصديقي النادل والعامل ورفيق المقهى وصاحبه، ومن دون أن يسألني: شراب خلطة الأعشاب بالسكّر القليل، وكفى.
قال: وأين أيّـام قهوتك نصف المحلاّة وسجائرك التي تملأ، معها وبها، الفضاء صخبا ً وأدخنة وسخرية طازَجة؟ 
قلت: تلك أيـّام ٌ خلت! وبــِت ّ من دونها.
هناك، مع روائح الناس وألوان أرديتهم وأصواتهم وأسئلتهم عن أحوالي وتحوّلاتي، رأيت ما يراه العاشق والمكلوم والفاقد والمفقود والتائه والملتاع والعاقل والمجنون والصابر والمرتبك، رأيّت في الناس ما  في الناس وفي الشارع ما فيه وعند الرصيف رأيت روحي والفاكهة!
امرأة تجرّ طفلة ًرثـّة الثياب بــــ ِ وجه ٍ نصف شاحب وتحمل في ذراعها الأخرى شكلا ً لــ طفل ٍ يبدو أنه خرج للتو إلى الحياة وتحمله من دون قماط، تتوقف هنا وتمدّ يدها وتدعو لمن تسأله بالخير وتنتقل إلى زاوية أخرى، وحين نهرها أحدهم أشاحت بوجهها عنه وشتمته بلفظ بالغ السوء وغادرت مسرعة.
بعد وقت قليل، عادت إلى الشارع ذاته تجرّ  ولدا ً ولا تحمل بين ذراعيها كائناً في القماط أو من دونه.
إنـّها لعبة الاستعطاء والشحدة ولعبة البقاء في المشهد.
رأيت عاملا ً كان رجع لتوّه من ورشته، يحمل أكياسا ً في كلتا يديه، ويظهر في أحد الأكياس أن « مائدة الليلة « ستكون عامرة برائحة السمك.. وللمناسبة، يلتذ ّ العاملون الوافدون بطبق المساء ويستعدون لتحضيره كما يليق بالجوع والتعب.
ورأيت في الشارع، ولدا ً يتفنـّن في التهام سيجارة بين أصابعه، كأنّـما ستكون آخر سيجارة يتناولها.
ورأيت بائع ترمس، ورجلا ً يحمل مدفأة لكي يعيد إليها نارها عند سمكريّ مجاور، وفتاة ً تسير مسرعة وتحمل بيدها دفتراً  أو كتاباً وبيدها الأخرى جهاز هاتف تقول فيه كلاما ً مهموساً.
ورأيت عربة ً يُوقفها عامل  هنا ويجرها إلى هناك، يجمع إليها  ما تناثر من ورق وعلب عصائر وعلب سجائر فارغة.
ناديت العامل وهمست في أذنه: إن وجدت رسالة معطرة مكتوبة بحبر بنفسجيّ، احتفظ بها وهاتها لي، فإنـّها رسالة كنت بعثتها قبل ستين سنة ولم تصل إلى عنوانها.
رأيت، وأجفلت!
أحمد يغيب ووليم وهشام والعربي وسيّد وعديدون غابوا في السوق وفي الأزقة وفي المنازل وفي الأوقات!
من دون كلام، مددت يدي وصافحت صديقي النادل/ العامل/ رفيق المقهى، وقال: هل نراك مرة أخرى؟
قلت: سأعود لكي أراك وأرى في الرصيف وفي وجهك ملامح الغائبين.
رأيت وأجفلت!
فالأصدقاء في الغياب سادرون، أو في المسافات هم ظاعنون، أو في الموت، ما أقساهم رحلوا من دون فناجينهم ومن دون الرصيف.