Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Apr-2021

جماليّات الموت في رواية «تراب الغريب» لهزاع البراري

 الدستور-د. عماد الضمور/ أكاديمي أردني

 
تشكّل رواية (تراب الغريب) تجربة سرديّة واعية، تهدف إلى امتلاك الفن الروائي بإسلوب فني من خلال امتلاك الواقع الجمالي المختزل للوجود الإنساني، والرصيد المعرفي التاريخي المنبعث من الأسطورة، فضلاً عن طبيعة الرواية القائمة على قضية الموت، ممّا أظهر نزوع اللغة الروائية نحو الشعريّة التي تتناسب مع طبيعة الموت، وكيفية تصويره. إنّ الرابط بين شخوص الرواية» هو انتماؤها إلى الموت، أو قربها منه، وتحديقها فيه، وهذا الرابط هو أكثر ما يُلفت الراوي، وأكثر ما ينقله لنا في انتقاءاته من مراجع كتابته، أو مصادرها المتنوعة. معظم تلك الشخصيات تغرف من بلاغة الموت، والحبّ، وتحدق في نهايات، ومصائر مفجعة»(1).
 
يرتفع هزاع البراري بعنوانه(تراب الغريب) إلى درجة تضاهي العنوان الشعري بوعورة مراميه، وإغوائه للمتلقي، إذ تغدو» مقاربة العنوان أمرّاً حيوياً للإمساك بمكائد السرد، ومراوغاته، فالكشف عن أسرار عنونته يعني كشفاً لطرائقه في البينه، والأسلوب، وكيفيات التدليل لعلاقاته»(2). لعلّ تمظهرات العنوان واضحة في نصوص رواية ( تراب الغريب)، ممّا ساعد على التقاط فكرة الرواية التي تستند إلى المكان المرتبط بعالم الموت، وتشظي البطل فيه، كما يكشف الراوي في مفتتحه السردي على لسان البطل، حيث يقول:
 
« القسوة ليست في الموت... الموت شهوة لا بدّ أن تأخذنا ... القسوة أن تسجن روحك في مدفن قصي موحش، لا تسامر غير البرودة، وظلمة الليالي التي لا تستفيق، تعيش موتك هكذا غريباً كريهاً، بعيداً حتى عن الذاكرة، إنّي ممحية تماماً... رداء قبري مثل خرقة منسية ... مطلسمة منذ نسجوا خيوط منفاي، وحبكوا نهايتهم على أيامي الأخيرة... ما عشت من حياة سابقة ما هي إلا صورة من وجودي أسفل هذه الحجارة المستحمة بالشتاء، والمكحلة بالأعشاب البريّة، والسحالي، ورعب العابرين سهواً»(3).
 
إنّ اقتران العنوان بالنص، يجعل منه رمزاً يتحكم في مجموع الرموز المتولدة عنه، والمكونة لشبكة الترميز داخل النص، إذ «إنّ الغريب يسمح للروائي التلاعب بالمكان للكشف عن حالات سيكولوجية غامضة، تعيشها الشخصية الروائية، وترسيخ الوظيفة التخيلية للكتابة الروائية»(4).
 
يؤدي المكان في رواية (تراب الغريب) وظائف حيويّة داخل النص السردي، من إيهام بالواقع إلى تفسير سلوك الشخوص ، فضلاً عن بيان القيم، والثقافات المتصلة بتلك الشخوص، كما يظهر في حوار البطل مع أيوب:» ـ القبر مثل العنوان... وكلّ شيء يتغيّر ... الفرق بين الواقع، والأسطورة، هو كالفرق بين القراءة الصحيحة، والقراءة الخاطئة، ما هو متروك على هذه الصخرة الآن أسطورة، إذا فككت رموزها بشكل صحيح ستكون واقعاً ... أبي حدثّني عن الرجل الأبيض، كان مثل معجزة إذا امتطى حصانه الأبيض كغيمة ربيعية، لم يعثروا عليه في الجب، وليس له إخوة، ولم يكن يرتدي قميصاً على الإطلاق، بل جاء به رجل مغربي، يجول بين المنازل؛ ليقرأ البخت، ويكتب قراءته في أوراق شربت من زيت البخور، فتتزوّج العانس، وتنجب العاقر...»(5). تكشق القراءة المتأنية للرواية عن انحياز الكاتب إلى مفردات الموت، والقبر، والتراب، والغربة، التي يشعر بها الإنسان في حياته، وهي تشظيات واضحة للعنوان، انفجرت في لغة النص؛ لتشكّل جانباً مهماً في شعريته، ممّا ارتقى بلغة السرد إلى مستوى الإيحاء، وأسهم في تحقيق الوظيفة الشعريّة للغة، وبيان رؤية الكاتب في البحث عن الخلاص، وإبراز تجربته المأزومة بالوجود، ولوعة الغياب.
 
إنّ كلمة(التراب) ببعدها الفكري شكّلت بؤرة مركزيّة في الرواية، بل جنحت معظم صورالكاتب، وانزياحاته اللغوية إلى محاولة اكتناه السرّ الكامن في هذه الكلمة، وانعكاساته الوجودية؛ لارتباطه بأصل الإنسان، والقبر، وقضية الموت التي تجلّت في الرواية بشكل واضح، كما في قول الراوي:» كلما جلست على قمّة التل الحسباني خشيت أن أمدّ إصبعي حتّى لا أخدش السماء، الجهات الأربع تتجمّع على إصبعي، الكهوف أفواه متّسعة بلا صراخ، والجروف الغريبة تتحرّك وكأنّ الأرض تتنفّس من هنا، لا رعاة اليوم، فقط أصواتهم المبهمة تختبئ في الأودية الذاهبة صوب البحر الميّت، الذي بدأ يواري أطرافه بالتراب؛ إكراماً لنفسه من مهانة العطش»(6).
 
إنّ لغة الرواية مشحونة بشكل واضح بشظايا الموت، وانعكاساته المدوية في بنية النص، ممّا ألجأ الكاتب إلى اللغة المجازية ذات الطابع الشعري، التي تختزل التفاصيل، وتمدّ المتلقي بفضاء تعبيري، مشحون بدلالات نفسية، ذات طابع تأثيري، يُصعّد من شعريّة اللغة، وقدرتها على التخييل، كما في حديث الراوي مع سعدي بعدما صعقهما كلام الأم المفجوعة بأبنائها، ممّا جعل اللغة الروائية تتشكّل في أسلوب استعاري، استند إليه الراوي عند حديثه عن المقبرة بعوالمها الخفية:» في المساء، فتت رتابة الغرفة بذهابه، وإيابه، وهو يصرخ بإشفاق: ـ أنت تفوح منك رائحة الموت... معك أنا في مقبرة توشك أن تبتلعني... كيف أنام الآن، وأترك أفكرك تتسلل إلى رأسي... منذ الصباح سأجتاز العبدلي إلى الصحراء الغربية باتجاه عمّان...»(7).
 
لقد تولّدت شعريّة النص من توالي انزياحاته اللغوية، وكثافة صوره الكاشفة لنفسية البطل القلقلة، فما أن لامست أذنيه عبارة ( أيوب) :» انتبه لنفسك» حتى استعاد فكرة الموت القابعة في أعماقه، فانبعثت في مفرداته استعارات لغوية، تبرز جانباً مهماً من الشخصية، وتكشف معاناتها، التي تتجه نحو فعل الانتهاء؛ فالغروب يلملم أشعته الحمراء، والتل يتدثر بالعتمة، والأطباق اللاقطة مقفرة من الحياة، وهكذا تأسس الوصف المشهدي للحدث ضمن رؤية الموت، التي لازمت البطل منذ بداية الرواية.
 
إنّ ثنائية الموت والحياة هاجس الكاتب في روايته، ممّا جعله يعمد إلى نوع من التحايل على الواقع، والنزوع إلى إيقاع السؤال المقلق، والباحث عن الحقيقة، إذ لم تعد الرواية الحديثة تسجيلية، تحاكي الواقع ، إنما تلغي الواقع، أو بنوع خاص تلغي الفكرة القائلة بأن الواقع هو الحقيقة .
 
وهذا ما يعكسه حديث صفاء عن الموت، وتصويرها لعوالمه المخيفة، إذ تبدو إفادة الكاتب من الخطاب الشعري واضحة بما يحويه من إمكانات، توحّد صوت النص؛ لينهض على تشكيل فني يقترب من المحاكاة الساخرة:» ـ أنت لا تصدقني لأنك تخاف ذلك... لم يسبق لك أن جربت الموت ... إدراكي للحياة بدأ من هنا، من هذا القبر المتسع ... عندما تدفن وأنت ترى كلّ شيء، وتصرخ مستجدياً، فيعجلون بوضع الألواح والتراب كي لا يتراجعوا، ما معنى العمر؟ ... كيف لي وأنا بذاك العمر أن أدرك موتي المتعمد وبعثي المتعمد؟ ... موتي هو وهبني الحياة.. أبي قال لي ذلك بعد سنوات.. قال: ( وهبك الحياة لكنه تمسك بطفولتك...) انظر إليّ ... أقف على الحافة الأولى للأربعين، لكني بحجم طفلة في السابعة أو الثامنة من عمرها... الموت ليلة واحدة دفع عقلي للنمو بسرعة، أما جسدي فتجمد على حجمه، ماذا يصنع بنا موت لا ينتهي إذاً؟ عندما أموت ميتتي الأخيرة سأكون بحجم ميتتي الأولى.. هل يقودك ذلك إلى أسئلة ما... ؟ ربما ... أمّا أنا فقد عبث بحياتي... لم يبقني في الموت ولم يتركني لحياة كاملة، كالنساء يفردن أنوثتهن بأجساد طبيعية وبضة»(8).
 
لعلّ هذا الإحساس الحاد بالزمن دفع الكاتب إلى التساؤل حول سرّ الوجود، يقترب فيها الإحساس بالزمن من الإحساس بالفناء، لأن الوجود الزماني يرتبط بجدل الإنسان مع الكون، ممّا سبّب له الخوف والشقاء والقلق.
 
لقد بقي الموت هاجس الأسئلة في رواية « تراب الغريب» ومنطلقها؛ ولا عجب فالرواية محاولة للإجابة عن كنه هذه القضية، وتصويرها في جانب قالب إبداعي، كما في تجسيد الراوي لتباين أفكاره مع جابر الثعالبي الذي يرى في الحرب طريقاً للموت:» كنا نجلس في حديقة البيت الأزرق في دارة الفنون، النافورة الصغيرة تجاهد من أجل صمود لا قيمة له، والأشجار المرتوية بالأيام الغابرة تنحني فوق المقاعد المعدنية غير المريحة، والمنازل القديمة في جبل عمّان تتلصص علينا من بين الأغصان المتراقصة، وتهجس بالذكريات الممحية، تأملت خربشات وجمل لكتّاب وفنانين جلسوا هنا وطاردوا الملل بتشويه الطاولة الرخامية السطح. ـ لماذا لم تمت... أحسّ بأنني أهاجمه دون سبب، غير أنني كنت أتجادل مع هذا السؤال في داخلي حتى هرب مني، حدقني وكأنّه يصوب بندقيته إلى السراب: ـ لم أمت لأنني أردت أن أموت ... السجن والخيانة ونقض العهد .. كلها جعلتني أحبّ الموت حتى تمنيته....»(9).
 
إنّ إمعان الكاتب في الحديث عن الموت، وطقوسه الغرائبية أذكى الجانب التأملي في الرواية، وهو جانب ينزع إلى الشعريّة بما يثيره من أسئلة تبحث عن إجابات، على أن سؤال الموت بقي شامخاً في الرواية، يوحّد شخوصها، ويصيغ رؤاها الحياتية، ويكشف نوازعها الفكرية، التي تثير الانتباه نحو موقف درامي، أو مشهد وصفي يخلق الشخصيات الروائية، ويعمّق موقفها الحائر من الموت.
 
لقد اختزل الكاتب الفكرة الأساسية في الرواية بسؤال الموت الذي بقي مطروحاً؛ ليحطم نمطية التفكير، ويقود إلى صياغة الهواجس البشرية في قالب فني واسع الدلالة، يقيم في نفس المتلقي إيقاعاً يتناغم مع رؤيا الكاتب، التي بدت أكثر استعداداً لانتظار الموت:» الأبيض خاف على التباسه، أبو النور رحل بما يشبه الموت، غاب فجأة، تلاشى مثل ريح تقاسمتها الأمكنة الواسعة، ربما ركض كالمجنون نحو الجروف الغريبة المنزلقة اتجاه البحر الميت، فتنازعته الضباع، أو ابتلعته الكهوف المعتمة والمرعبة، تصورته عاد لبيع الانتيكات والنقود الرومانية قرب المدرج الروماني، ذهبت إلى هناك وتسكعت بين أروقة الشارع الذي كان معمداً ذات زمن لن يعود، كلّ شيء كما هو، الحجارة والمتسولون وخيبات العراقيين الذين ينتظرون قدوم المعجزة من خارج نصوص الكتب المقدسة، كلّ شيء حاضر إلا هو، اختفى بشكل غامض، كأنها روح الأبيض تغري بالرحيل غير المفهوم، المغربي، أبو النور، حتى فتنة، إنّها صورهُ الباقية تُطمسْ بشكل غريب، وماذا عني؟ هل عليّ أن أستعد لرحيل من هذا النوع؟!»(10).
 
لقد اندرجت تحت عبارة» هذا قبري» المتكررة كثيرا في الرواية مضامين فكرية، تحمل حالة ألم مضاعفة، وتصوير لواقع مأزوم، ممّا يكشف عن إمكانيات تعبيريّة، وطاقات فنية، أسهمت في إخصاب النص برؤى متجددة، ورفده بالقدرة على محاورة المتلقي، ودعوته إلى التعمّق في النص؛ ليمارس بعد ذلك الراوي فعل السرد بكلّ حرية.
 
لقد انبنى على هذا التركيب اللغوي تكرار كلمة الموت في معظم صفحات الرواية حتى غدت البؤرة التي تنطلق منها الأفكار والحورات بين الشخوص، فهي تؤدي وظيفة سياقية مهمة تربط أجزاء الرواية، وتشحنها بايحاءات دلالية، تجعل النص أكثر تماسكاً.كما في قوله:» الشيخ صادق ارتدى ثوب امرأة أسود، وصبغ وجهه برماد النار التي بردت في المواقد بعد فاجعة الخبر، ملوحاً بالبندقية من على صهوة حصانه الذي ينزف عرقاً وتوثباً، ويصرخ بصوت مبحوح: ـ الموت ولا الردية ... الموت ولا الردية...»(11).
 
إنّ إلحاح فكرة الموت على الكاتب دفعه إلى الاستعانة بتقنية التكرار؛ لتجسيد أفكاره، ومنح لغته مزيداً من الشعريّة التي جعلت من ثنائية الموت والحياة سؤالاً فكريّاً مشرعاً:» إن يكن الثعالي ميتاً وكذلك كلّ الباقين من حولي، فلماذا أكون أنا الحي الوحيد؟ما الفارق بين الموت والحياة لوعي الشخص؟ كيف أتأكد من حياتي وكيف أعي موتي إن كنت حقاً ميتاً؟»(12).
 
وقد يوظف الكاتب الجمل الاسمية للإيحاء بالتغريب المكاني، وانعكاسه على الشخصية الروائية، إذ يهيمن الصمت، ويستحيل المكان إلى مجرد فراغ يحاصر ساكنيه، كما في حديث البطل واصفاً نظرات صفاء له:» تأملتني طويلاً، تصنعتُ بأني شارد الذهن، أتعبها البحث عن جملة بديلة فلم تجد، شمس البحر الميت مغبرة دائماً، الجبال العارية تغرق في ضباب رمادي، الفالق ينفث الدخان والذباب، وذاكرة ملحية عن أحداث وغزاة، ونهر تجف قداسته بعد أن تقرصنوا على مياهه الشمالية، كنا نتكئ على مقدمة السيارة في مواجهة البحر الذي ينكمش كاشفاً الملح والحصى المشذب»(13).
 
لعلّ هيمنة الأسماء والصفات على الأفعال في النص أسهم في تحقيق وظيفة اللغة الشعريّة بما تبعثه من صور تفيض بمعاني الموت، والزوال، وتجعل الشخوص الروائية أكثر تفاعلاً مع فضاء الرواية، وفاعلية في معمارها الفني.
 
 الهوامش:
 
1 ـ عبيدالله، محمد، 2008م، مجلة أفكار(تصدر عن وزارة الثقافة الأردنية)، العدد231، تراب الغريب (عودة الرواية إلى مشكلة الحبّ والموت)، ص19.
 
2 ـ حسين، خالد، 2007م، في نظرية العنوان (مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية)، ص 303. 3 البراري، هزاع، 2009م، تراب الغريب ، ص 14.
 
4ـ حسين، خالد، 1421هـ ،شعريّة المكان في الرواية الجديدة (الخطاب الروائي لإدوار الخراط نموذجاً)، ص399.
 
5 ـ البراري، هزاع، 2009م، تراب الغريب، ص22.
 
6 ـ البراري، هزاع، 2009م، تراب الغريب، ص 23.
 
7 ـ البراري، هزاع، 2009م، تراب الغريب، ص 63 ـ64.
 
8 ـ البراري، هزاع، 2009م، تراب الغريب، ص ص 51 ـ 52.
 
9 ـ البراري، هزاع، 2009م، تراب الغريب، ص 77.
 
10 ـ البراري، هزاع، 2009م، تراب الغريب، ص 183.
 
11 ـ البراري، هزاع، 2009م، تراب الغريب، ص66.
 
12 ـ البراري، هزاع، 2009م، تراب الغريب، ص 80.
 
13 ـ البراري، هزاع، 2009م، تراب الغريب، ص 69.