Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    14-Oct-2017

أُحبُّ تواضعَ الكبار - يوسف عبدالله محمود

 

الراي -  «يقولون لي: لو عرفت نفسك، لعرفت الناس، فأقول لهم: لن اعرف نفسي حتى اعرف جميع الناس» جبرانخليل جبران»

أعني بِ»الكبار» هنا هؤلاء الذين وصولوا بجدّهم ونضالهم الى أعلى المراكز والدرجات. ومع ذلك ظلّ
التواضع النبيل يأسرهم، فلا يُخجلهم الحديث الشفاف عن طفولتهم او عن «العوز» الذي عاشوه في مرحلةمن مراحل حياتهم، شأن من يتجنبون الحديث عن هذه المرحلة في حياتهم إن كانوا مرّوا بها.
 
صفحاً وهم يسردون سيرة حياتهم عن سقطات ادركتهم في شبابهم المبكر، ما لبثوا ان تجاوزوها في كبرياء. واعترف هنا ان بعض «الكبار» في مذكراتهم وفي حديثهم عن «صور الماضي» لا تلمس لديهم «الغرور أو التمجيد الذاتي بل تراهم متواضعين، لا يضربون مثقفينا العرب الكبار، ومنهم من رحل، حين كتبوا مذكراتهم أشادوا بأنفسهم اشادة تشتم منها شيئاً من الزهو والغرور، سيما حين
تراهم يتناولون شخصيات لها وزنها في مجال السياسة او الأدب او الفن بالتجريح والاستصغار!
أصحاب هذه المذكرات، وان كنا نعترف بفضلهم في مجال العلم والفكر، فإننا ننكر عليهم ذم الآخرين من مُجايليهم ذماً لا يستند الا على ما يقولونه هم!
 
أما الآخرون من أصحاب هذه «المذكرات» فتأخذك مذكراتهم الى عالم آخر، فيه من الشفافية والاعتراف ما فيه.من هؤلاء الذين أُعجبت فعلاً بمذكراتهم ورسائلهم الى أولادهم والتي تزخر بالاعترافات والنقد الذاتي المرحوم منيف الرزاز الذي يحدثكعن حياته حين كان صغيراً ثم شاباً بشفافية وتواضع.
 
في رسائله الى اولاده والتي قدم لها ابنه الأديب الراحل مؤنس الرزاز نلمس مثل
هذا التواضع حين يقول «إنّ انتماءَنا البرجوازي الصغير هذا لم يصل بنا الى اي مستوى من الرفاهية، لكنه لم يحل دون وصولنا فيبعض الاحيان الى درجات من العوز والفقر شديدة».
 
(رسائل الى اولادي، ص 51.(يحدثنا منيف الرزاز عن الفروق بين الغني والفقير في ايام زمان فيرى انها كانت فروقاً «كمية» لا «نوعية» كما هو الحال الآن. المرجع السابقص 60.
 
اليوم غدت الفُروق «نوعية» لا «كمية»، بمعنى ان الفقير بات في عصرنا بالكاد يحصل على ضروريات الحياة، هذا اذا حصل عليها!
 
في رسائله الى اولاده يُحدثنا منيف الرزاز عن صفة لازمته حتى آخر حياته وهي «ايمانه بتعددية الروابط الانسانية وتداخلها، وانكاره لأحادية الروابط والعلل والأسباب التاريخية». فهذا الايمان «عصمه من الضياع في وسط العصبيات الضيقة».
 
الراحل منيف الرزاز كما تعكسه مذكراته أحب «الإنسان»، عشق «الحرية» اعتبرها قيمة ضرورية لبناء اي مجتمع انساني ينشد التقدم.عشقه هذا ونضاله من أجل «وحدة عربية» تؤمن بِ»تعددية الروابط الانسانية وتداخلها» كلَّفه غالياً. لم يساوم على قناعاته الفكريةوالسياسية.
 
أفق تفكيره تجاوز «العصبيات الضيقة» منفتحاً على الفضاء الانساني الذي يكره «التعصب» أياً كان نوع هذا التعصب. رسائلهلأولاده تقرأ فيها النُصح الرشيد. منيف الرزاز نموذج فذّ للعصامية ونكران الذات. وسع قلبه محبة الناس كل الناس.
 
من هؤلاء الكبار الراحلين أيضاً الذين تحدثوا عن أنفسهم بتواضع المفكر والأكاديمي البارز د. هشام شرابي. متواضعاً كان. احب الناس،تحدث عن تجربته الحياتية بتواضع انتقد فكر الذين اختلف معهم دون تجريح او استخفاف. في كتابه «صور من الماضي» والذي هو اشبه«بمذكرات»، حين تناول ماضيه بكل ما فيه من ذكريات تناوله بشفافية ايضاً. لم يُسرف في تقريظ نفسه بل ظل متواضعاً، كما انك لاتشتم من اقواله ما ينم على انه حقد على فكر اختلف معه في الموقف والرؤية.
 
فهو حين حدثنا مثلاً عن استاذه في الجامعة الاميركيةشارل مالك الذي غدا فيما بعد من الرسميين اللبنانيين الكبار لم يطعن في شخصيته رغم الاختلاف الكبير في الرؤية! كل الذينذكرهم في كتابه بَشَرٌ اختلف مع بعضهم ولكنه لم يحقد عليهم. هي اخلاق الكبار.
 
آخرون قرأت مذكراتهم، فوجدت انهم رغم علوّ مكانتهم في الفلسفة والأدب والعلم راحوا يتناولون شخصيات معاصرة لهم بالذم والتحقير رغم ان هؤلاء تمتعوا في نظر الكثيرين بالكثير من الذكاء والمصداقية.
 
الغريب ان أحد هؤلاء -وقد غاب عني اسمه الآن- وهو يروي لنا ذكرياته انتقد الرئيس المصري الراحلجمال عبد الناصر انتقاداً غريباً وذلك حين ازال التفرقة في المدارس بين ابناء الفقراء وابناء الاغنياء! اخذ عليه صاحب هذه المذكرات إقدامه على هذه الخطوة قائلاً بما هو معناه: كيف لابن خادمة في البيوت او حارس عمارة ان يجلس الى جانب ابن احد الذوات! تمنيت على صاحب هذه المذكرات وهو مفكر كبير لو انه انتقد مثلاً غياب التعددية السياسية في زمن هذا الرئيس الراحل اذن لقلنا انه ينتقد استراتيجية لا يوافق الكثيرون عليها، ولكنه انتقد ما لا يجوز انسانياً انتقاده!
 
من المؤسف اننا كعرب ومسلمين اليوم نعيش او يعيش الكثيرون منا وبخاصة المثقفون ضياعاً اخلاقياً -اذا جاز التعبير-، فتراهم اذاكرهوا تطرفوا في كراهيته. هم لا يبررون كراهيتهم للاخرين تبريراُ منطقياً. هم لا يكرهون موقفاً من مواقفهم يرونه متنافياً والقيمالانسانية، بل يلجأون الى تجريحهم والحط من منزلتهم على نحو غير لائق.
 
كم نحن بحاجة الى منظومة اخلاقية تنتظمنا، فلا نعود نحقد على من نختلف معه في الرؤية والموقف. كم نحن بحاجة ان نتمثل سيرعظمائنا من العرب والمسلمين الذين زانهم «التواضع» فزادهم وقاراً وعظمةً.
 
كم أُحب تواضع هؤلاء الكبار، مَن رَحل منهم وَمَن لم يرحل. ما أجدر كبارنا ان يتحلوا بهذه المزايا، فلا يسرفوا في تمجيد انفسهم بليتركوا ذلك لقرائهم!
 
أجريتُ ذات مرة حواراً مع المؤرخ الكبير الراحل أ.د. شاكر مصطفى، فاعترض أثناء الحوار على وصفي له بِ»المؤرخ الكبير» وطلب إليّالاكتفاء بكلمة «المؤرخ»!
تلك هي مزايا وخصال عظماء الفكر الانساني الذين لا تستهويهم الألقاب «الفخمة». تراهم متواضعين في سلوكهم، يدركون ان مجال«المعرفة» واسع واسع، وإن ما أدركوه منها هو القليل!
 
فليكن جميع «الكبار» من أبناء أمتنا إن في السياسة أو الفكر في مستوى هؤلاء الذين يُعتز بهم.
فليكونوا «كباراً» حقاً، لأن العظمة الحقيقية لا يشوبها غرور. العظمة الحقيقية في التواضع لا في الاستعلاء، العظمة الحقيقية قيمة انسانية تتوّج حياة الكبار