Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    14-Jun-2020

كورونا.. الوحدة في استدعاء بعض الوجوه الشمعية

 الدستور-ناصر الريماوي

 
 المخرج حاتم علي
 
كلما خطر ببالي الفنان والمخرج اللامع «حاتم علي»، حلقت بذاكرتي المجروحة مجبرا نحو رحابة الزمن الأجمل، والأكثر فداحة ببعده عن هنا.
 
أعود مرغما إلى ثلاثين عاما للوراء.
 
إلى دمشق ومشروع دمر السكني، وتحديدا إلى تلك الفكرة القديمة، السيئة، التي استقرت لزمن طويل في ذهني حول ذلك الشاب اليافع، النازح من القنيطرة المدمرة.
 
فكرة، أجدها الآن بائسة وشمعية، تولدت في شتاء عام 1990 وأخذت تكبر شيئا فشيئا، حتى استقرت لدي كقناعة مطلقة، اكتملت أركانها مع انطلاق شارة النهاية لحلقات مسلسل السهرة الشامي.. «دائرة النار»، والذي كان من بطولة الفنان المرحوم «طلحت حمدي»، والفنانة «سمر سامي» آنذاك.
 
ذلك الفتى اليافع، «حاتم علي» المتحرش بصبايا حارته والحارات المجاورة، من خلال دوره المستفز، الفائض عن حاجة السفالة المألوفة في أي دور تمثيلي، مماثل، بما كان يبوح به من خسّة وطيش، وصفاقة مرتهنة لطبعه المنبوذ و»زعرنته» المتأصلة، وهو ما جسده بكل اقتدار.
 
لكن ولسبب ما، ارتبط حينها بحدسي وقناعتي الذاتية، فإن تلك الصفات إنما تستمد جذورها من حقيقة راسخة لا تنفصل عن بعض طباعه وصفاته المتأصلة في شخصيته، والتي تملأ عليه نواحي حياته الواقعية المستهترة.
 
كان مما لا شك فيه، أن ملامحه، وتقاطيع وجهه القميئة تسلبانه البراءة، وتشيان باستهتاره، ليس هذا فحسب، بل وتثبتان بالدليل القاطع صحة ظني.
 
طبيعة الفكرة ومدى تأصلها حول ذلك الشاب، النازح الطموح، كان يصعب طردها لإحلال فكرة أخرى مغايرة
 
حتى بعد أن صادفته لأكثر من مرة برفقة زوجته الشابة، وهما يسيران في سوق الصالحية وشارع الحمراء. ومشروع دمر السكني بالطبع، وخلّف هذا انطباعا مختلفا لدي في حينه، بعد متابعات حثيثة، وفضولية، لأدق التفاصيل السلوكية في مشيته وأحاديثه، وحتى نظراته العابرة، بعفوية.
 
كل ذلك لم يقو على انتزاع فكرتي الشمعية الأسوأ حوله من مكانها، أو زعزعتها على أقل تقدير.
 
لكن سمعته الطيبة التي راح يتناقلها الناس بعد ذلك، ممن عرفوه عن قرب، وراحت تتناهي إلى سمعي، كانت قد بدأت تثير اهتمامي، وتدفع بملامح وجهه الصفراء، الموحية بالدونية، بعيدا عني، ولكن بصعوبة وتثاقل كبير، لزحزحتها من فراغها الذهني الكامن في رأسي، فيما راحت تعينها على ذلك ملامح وجهه الجديدة، الهادئة، والتي بدأ منحاها يأخذ شكلا مختلفا في ذهني، شكلا عامرا بالرزانة والهدوء، إصافة إلى عفة بصره وتواضعه الجم مع الآخرين.
 
كان لا بد للصدمة أن تقع حتى تفر من رأسي فكرتي الأولى، ويحل مكانها شيء آخر، فكرة مغايرة ولائقة، تليق بشاب طموح، كفنان مميز، ونازح خلوق.
 
التغريبة الفلسطينية في هذا الرمضان تحديداً، أعادت «حاتم علي» إلى ذاكرتي مجدداً، بملامحه الشمعية الواجمة، والتي افتقرت لواقعها الزمني البعيد منذ دهر، لكنها تجرّأت على حاضري بما جلبته عنوة من وقار وهيبة، وإبداع عظيم.
 
أعادت لي هذه التغريبة كل شيء، مثلما أعاد لنا متنها الضمني مأساة شعب حيّ،شعب لم يزل عالقاً بين مأساته على امتداد أرضه، وكفاحه المتجدد في سبيل تحريرها، مأساة وقعت له منذ سبعين عاما.. ولم تزل.
 
لكنها لم تُعد لي بأي شكل من الأشكال فكرتي الشمعية، القديمة، حول ذلك الفنان الشامل، «حاتم علي»، أو بعضا من زمني.
 
 مسلسل بروكار
 
استوقفني بذهول ذلك الجانب الشمعي لبعض شخوصه. وتحديدا لبعض الوجوه المألوفة لنا عن قرب.
 
استوقفني الأمر ببعديه، المتحفي، كملحمة زمنية قاسية، والوجداني، بما يستدعي من مشاهد عتيقة، ومختزنة في أعماق الذاكرة، وبالمقدار ذاته.
 
سلمى المصري.. الجميلة، والفنانة القديرة، في آن معا، بدءا بوهج الأداء المذهل وانتهاء ببث فتنتها عن بعد.
 
وأنا الذي ظننتها لن تشيخ، أبدا.
 
رغم كل شيء.
 
هذا ما كان يقوله لي قلبي، في دمشق، وأنا اراها وأحدق فيها عن قرب، على مسرح نقابة العمال، وخشباته، متأملا طاقة السحر الهائلة من حولها، بكل ما أوتيت من قوة وصبر، وطلاقة بصرية ممكنة.
 
عبدالهادي الصباغ.. بملامحه الفتية وتلك الأناقة الباذخة، على امتداد قامته الممشوقة، وهو يشارك الفنان القدير «عبدالرحمن آل رشي»، مشواره اليومي في حي «ركن الدين» الدمشقي كل مساء.
 
هناك.. بين «مخابز ابن العميد» و»جسر النحاس»، كنت ألقاهما، عصرا، أمر بجوارهما ثم أتخطاهما ببضع خطوات ثقيلة، مختلسا ما تيسر من نظرات غزيرة، متلاحقة، وغير قانعة، وأمضي.
 
تلك النظرات، سقط أغلبها عن هالة البصر وظل عالقا هناك، حتى يومنا هذا.
 
إلى أن جاء هذا «البروكار»، بحلقاته التلفزيونية العديدة، ومزاجه الشمعي اللدن، المتقلب.. وأعاد لي بعضها.
 
 الفنانة أنطوانيت نجيب
 
لا أدري لم خالجني فرح مفاجىء وأنا أشاهد مقطعا مصورا للفنانة القديرة «أنطوانيت نجيب» قبل قليل، مما يعني أنها ما زالت على قيد الحياة.
 
هذه الفنانة التي جمعتنا بها الصدفة، أنا وبعض زملاء الدراسة الجامعية، منذ أكثر من ثلاثين عاما، في إحدى الجزر السكنية الهادئة، بالضاحية الدمشقية المعروفة بمشروع دمر السكني.
 
كانت شرفتنا المعلقة على كتف الطابق الرابع، تطل على شقتها الأرضية مباشرة، في البرج المقابل لنا.
 
ربما كانت تجد فينا كطلبة عيونا متلصصة فقط وربما بؤرة مؤرقة وحيدة تنفرد بخرق حالتي الهدوء والسكينة في ذلك المكان.
 
لم نحظ منها يوما ولا حتى بنظرة ودودة واحدة، على امتداد سنوات احتلالنا لتلك الشرفة العامرة والمرتهنة بديهيا لحالتي الصخب والتلصص.
 
ونحن أيضا لم نكن نبادلها المودة بالمثل.
 
فقط نظرات حانقة ومقفلة نتبادلها بلا سبب واضح، على امتداد المسافة القصيرة بيننا، تنتهي بشتائم عادية متوسطة الأثر، وغير مفهومة، أحيانا، تطلقها صوبنا قبل أن تصفق في وجوهنا ظرفة النافذة بقوة ونزق.
 
كان زوجها الفنان الراحل «يوسف شويري» أكثر تعقلا، فهو لم يكن يلقي بالا لوجودنا، أبدا.
 
ذات مرة.. فتحت شباكها المطل بعنف لافت، وأخذت تصيح في اتجاهات عديدة ومختلفة، مطلقة عنانها لكل انواع الشتائم القاسية، قبل أن تعمدإلى توجيهها بنبرة هستيرية غاضبة، لتطال كل الشرفات البرجية المتراكمة أمام وجهها العابس، بينما نظراتها البركانية اللاهبة تتركز نحونا، نحن فقط، معشر الطلبة.
 
لتتوالى قذائفها النارية سريعا وتتساقط فوقنا ومن حولنا، دون رحمة.
 
لجمتنا الدهشة ولم نعرف بما نرد.
 
انتصبت قاماتنا على حافة الشرفة وأخذنا ننقل بصرنا بينها وبين سكان الشقق الأخرى في برجنا الشاهق، قلنا لعلها تقصد بهذا الهجوم المباغت أناسا غيرنا.
 
خرج الجميع على صوتها الذي خار تدريجيا وتلاشى بفعل التعب.
 
ثم هدأ كل شيء، وعاد السكون للمكان، ولم نعرف السبب.
 
تكرر فعلها المباغت لمرات، ولكن بنسب متفاوتة من الغضب الهستيري، وعلى مراحل زمنية متفرقة.
 
رحلنا ذات يوم عن ذلك المكان، ولم نعد إليه أبدا.
 
ربما تنفست بعدها الصعداء.. على أكمل وجه، تلك الفنانة.
 
في مسلسل «الفصول الأربعة» المعاد على إحدى القنوات الفضائية المحلية، كنت كلما رأيتها دعوت لها بالرحمة، لها ولتلك الأيام الشامية الجميلة، ظنا مني بأنها قد رحلت كغيرها.
 
اليوم وقبل قليل.. فرحت، كونها لم تزل حية.
 
إنطوانيت نجيب.. نقدم لك اعتذارنا اليوم بأثر رجعي، أنا وزملائي، يشهد على صدق اعتذارنا هذا رحابة الزمن الندي، الممتد بيننا، فهو الذي جمعنا طويلا ثم غاب.
 
كما أننا نتمنى لكِ الحياة بحلوها، وحلوها، والعمر المديد.