Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    11-Oct-2019

البيت الأدبي للثقافة والفنون

 الدستور-ناصر الريماوي

في أمسية الخميس الأول، من كل شهر، يتسع الشارع المفضي إلى بوابة «البيت الأدبي»، ويعتدل في صعوده التدريجي نحو ذروة الجبل، يحدث هذا فجأة، على غير عادة الشوارع الصاعدة في المدينة.
ليس هذا فحسب، بل يستقيم عن طيب خاطر وهو يتخلى عن مسالكه الوعرة وانحناءات الرهبة الكامنة في الصعود، حتى يهذب آخر التواء له في دقة وصبر، ليكمل اعتداله ويستقيم أمام زوّاره الطارئين في ارتقائه التدريجي.
أعمدة الإنارة، الكسولة، تهب إلى عونه مرة واحدة في الشّهر، وهي تراه يعمد وحيداً إلى طيّ مفترقات عديدة على جانبيه، مفترقات معتمة، لا لزوم لها، وزوايا أوقعتها الرهبة في الغموض لأزقّة تتلوى في ريبة أكبر.
ذلك الشارع يحيل التباس المفاهيم المتداخلة في الذهن إلى دلالات أكيدة، وواضحة في نفوس القادمين إليه، للمرة الأولى، وهو يشير إلى «البيت الأدبي للثقافة والفنون»، بموضوعية وصدق.
سرعان ما يستحيل مظهره المعتاد بعشوائية منفرّة، ومألوفة كأيّ شارع آخر، إلى لافتات إرشادية مدهشة، على الفور، مرسومة بعناية، ومنفصلة عن كل شيء حوله، لتنبت فجأة على جنباته وتعلو من عدم المساس بحرمة الطريق أولا، ووضوح استقامتها المدهشة ثانياً، ليستدل بها الحضور.
يحدث هذا ولا يظفر برؤيته إلا البعض، وهو ينتاب حشاشة الشارع الفرعي تحديداً، ولمرة واحدة في الشهر، وهو ما يُعدّ سابقة خطيرة لدى الشوارع الأخرى، البليدة، حين يجري كخرق كوني سافر في عرف المدينة، رغم حدوثه في العلن.
«الزرقاء».. مدينة قاسية، متزمتة، ترى كل شيء، ولا تهادن، لكنها هنا تغض الطرف، طواعية، عنه وعن خروقات أخرى عديد، مماثلة.
****
قلت لصاحب البيت الأدبي ذات مرّة: لعل «الزرقاء» تحابي من يعجن الفراغ المقيت، المستشري في فضائها، ليأتي بفكرة..!
فالزرقاء تحديداًمدينة تطوقها الفراغات الخالية من أيّ معنى، ويثقل كاهلها العدم.
يردّ الكاتب «أحمد أبو حليوة»، مدير البيت ومؤسسه، بزهو، بعد أن يُثني على الطريق، ويقول: بلى، لكن هذا الشارع بالتحديد.. صديقي، ليس لكونه المعبر الوحيد، المفضي إلى رحابة «البيت الأدبي»، بل لأنه باستقامته ينحني طوعا واحتراما أمام هذه القامات الأدبية العابرة في كل مرّة..
هو يساند الفكرة، بل ويتبناها كهذه المدينة، ولا يخشى الشوارع الأخرى.
****
يعبر الشعراء من تلك الطريق بقصائد عذبة نحو الأمسية، يصطحبون ابتساماتهم أيضاً كسلّم موسيقي خفي، على سبيل الاحتياط.
يندفع الروائيون وكتاب القصة القصيرة، باكرا، ومع أول اعتدال كوني للطريق، تغافلهم شخوص الحكايا، لتفر منهم، وتختفي في الزحام.
شخوص خيالية طموحة يروق لكل واحد منها أن يبحث عن ظل حقيقي له بين الناس، ليحتفي به.
رحالهم تتلاقى أخيراً لتحطّ وسط القاعة المستطيلة في «البيت الأدبي»، يوحدها عزف عود منفردة، وهتاف عذب، لآخرين، سبقوهم.
صبيّة صغيرة تحدق في لوحة لونية، منذ بدء الأمسية، رسمها فنان محليّ مغمور، كلما انزلق بصرها، ردّهُ إليها الجدار، سرعان ما تفصح عن ميلها الفطري، في ردّها أمام كل العيون المتسائلة، لتقول: عذراً.. لكن هذا اللون مرآتي.
يتفتح صوت المضيف كوردة، حين يشرع في الكلام، قبل أن يفيض بالحضور.
تلتفت إليه الواجهة الزجاجية المستطيلة على الطرف المطل للقاعة في إصغاء، زجاجها الشفاف على امتداد الجدار يحتجز الحكايا ونزعة الهروب الطائشة في وجوه أبطالها، لكنها تسرّب الضوء وبعض القصائد، لتسيل باعتدال نحو الزقاق المجاور وجدران البيوت القريبة.
وجوهها الوهمية بدت عابسة، على صدغ الزجاج، قبل أن تعود لمتن الحكايا.
يستعر اللقاء ويطول في قاعة «البيت الأدبي»، وفي تشعّبه المنظم يرتدي الحيّ عباءة الليل، حتى يتثاءب أول بيت لا يقوى على السهر، ويتهدل فوق ذروة الجبل القريب، «جبل الأميرة رحمة».
سرعان ما تتبعه البيوت الأخرى على الفور، وهي تطفىء قناديلها الليلية شيئاً فشيئاً، وترتدي نوافذها، ليعلو الصمت ويحتدم السكون.
على بقايا اللقاء المستعر وتسرب الضوء الشحيح والصدى.. تغفو المدينة، لتنام راضية.
«الزرقاء»، مدينة قاسية، متزمتة، يثقل كاهلها الفراغ، ويقتلها الركود، هذا صحيح، لكنها حين تمنح الكلّ بعضاً من علو سمائها، كفرص عديدة، متكافئة، فهي تنام راضية، أو تحابي، كل من يتخطاها –حتى وإن كان عن عمد- في سبيل أن يعجن الفراغ.. ليأتي بفكرة.