Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    06-Oct-2017

الموهبة والعبقرية: اختراع لا اكتشاف (4 - 11 ) - حسني عايش

 

الغد- ذكرنا في الحلقة السابقة أن الذكاء ليس محدوداً أو ثابتاً بل عملية (Process) ديناميكية مستمرة. إن معنى ذلك أن الذين ينجزون أو يتفوقون ليسوا أذكى من غيرهم بالفطرة بل مثابرون ومنضبطون أكثر منهم. ونخدع أنفسنا عندما نعتقد أن قياس ذكاء شخص ما مثل قياس طول طاولة أو عرضها، أو -على الأصح- مثل قياس وزن طفل عمره خمس سنوات. إن قياس أو نتيجة أي قياس نحصل عليها تنطبق على يوم القياس فقط. لا نعرف كيف تكون النتيجة غداً. إن ذلك يتوقف على الطفل وعلينا جميعاً. 
 وبعبارة أخرى: لو كانت الجينات فقط هي المحدد للمستقبل أو العمل أو المهنة لتماثل جميع الأطفال من مختلف الثقافات والأعراق الذين يملكونها أو لحصلوا على العلامة نفسها في اختبارات الذكاء. الجينات لا تحدد المستقبل أو العمل أو المهنة. الاتجاه تحدده البيئة. لا تنتج الجينات وحدها الشخصيات نفسها. إن البيئات المختلفة هي التي تنتجها. تؤكد البحوث العلمية أن الموهبة أو العبقرية ليستا فطرتين، وإنما نتاج أو محصلة تراكم خفي وبطيء من المهارات التي تتكون منذ لحظة الحمل بالجنين. 
نعم، يولد كل واحد منا مختلفاً، وقد يكون لبعضنا ميزات للقيام بأعمال معينة، لكن لا أحد مصمم جينياً نحو العظمة في التفوق أو الإنجاز. إن قلة قليلة جداً معوقة بيولوجياً لا تستطيع بلوغها.
يتطلب استرجاع بعضنا لكميات استثنائية من المعلومات الجديدة استخدام الإستراتيجيات الصحيحة والتمرين الصحيح والكثيف لاسترجاعها. لقد كان السيد شفيق "عامل المقسم" في وزارة التربية والتعليم سابقاً، يحفظ عن غيب جميع أرقام الهواتف الداخلية والخارجية، لأن عمله فرض عليه ذلك. وقد أحبه وتمرن عليه وأتقنه، وكذلك يفعل سائق سيارة التكسي في لندن الذي يحفظ بالتمرين عناوين المدينة الكبرى بتفصيلاتها عن غيب، لأن عمله يتطلب ذلك وقد أحبه وتمرن عليه سنة بعد أخرى إلى أن أتقنه. وكذلك كان مايكل جوردان في لعبة كرة السلة، وكل نجم في الرياضة، أو الفن. ومثله المثابرة في الاكتشاف والاختراع. إنها العامل الحاسم في النجاح فيها وهو ما صرح به دوماً المخترع المشهور توماس اديسون الذي كان يرد على ما من يصفه بالعبقري بالقول: "ليست عبقرية أو غير عبقرية. إنها 99 % مثابرة وواحدة في المائة ذكاء". 
إن أدوات التفوق متوافرة لمن يريد استخدامها، لكننا للأسف أو لسوء المعرفة أو الثقافة المتداولة نقول لأنفسنا عندما يبهرنا إنجاز: "إن لدى كل من هؤلاء شيئاً ما لا نملكه، لقد ولدوا به ونحن لم نولد به. إنهم موهوبون أو عباقرة، وهي افتراضات راسخة في ثقافاتنا، فحسب قواميسهم وقواميسنا: الهبة هي عطية طبيعية أو إلهية، والشعراء والموسيقيون.. مولودون لا مصنوعون. وقد تحول هذا المعطى الطبيعي أو الإلهي إلى معطى جيني في القرن العشرين. 
لقد عارض الفليسوف الألماني فدريك نيتشة (1844 – 1900) هذا الاعتقاد على طول الخط واصفاً العظمة بالعملية (Process) وأن الفنانين العظام مثل موزارت لا يملون أداءها. وكدليل له على ذلك بحث نيتشة في كتب وخربشات بيتهفون، فوجدها تدل على بطئه ومثابرته وتعبه في صياغة قطعه الموسيقية لدرجة انه كان يعمل ستين أو سبعين مسودة من الواحدة قبل الاستقرار على أحدها. 
قال بيتهوفن مرة: "إنني أجري تغييرات كثيرة أرفضها وأحاول مرة أخرى إلى أن أرضى عنها. وبعدئذ أبدأ الأداء بالطول والعرض والارتفاع والعمق التي في رأسي". ولكن لا كلام نيتشة ولا كلام بيتهوفن غيّر أفكار الناس التقليدية عن الموهبة والعبقرية، لأن الناس يفضلون الفكرة البسيطة عليها وهي أن الموهبة أو العبقرية فطرية، ومن الجينات.