Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    08-Dec-2019

أزمة الشرعية في الجزائر: مسار نحو المأزق

 الغد-زين العابدين غبولي* – (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 26/11/2019

في شباط (فبراير)، خرج الجزائريون إلى الشوارع بالملايين احتجاجاً على ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة بعد عشرين سنة أمضاها في الحكم. وما بدأ كحراكٍ سياسي عفوي ضد بوتفليقة تحول سريعا إلى مطلب شعبي بتغير سياسي جذري. وتمكّن الجزائريون على مدى الأشهر التسعة الماضية من إبقاء احتجاجاتهم المتواصلة سلميةً على الرغم من استفزازات النظام الحاكم، ومن الحفاظ على وحدتهم في وجه المحاولات الكثيرة التي تُبذل لتفريقهم.
اليوم، لا تفصل البلاد سوى أيام قليلة عن الانتخابات الرئاسية المقررة. وفيما تدأب الطغمة العسكرية التي تسيطر على زمام السلطة بحكم الأمر الواقع على الضغط لإجراء الانتخابات في 12 كانون الأول (ديسمبر)، ما يزال الجزائريون يتظاهرون في الشوارع ليؤكدوا رفضهم لهذه الانتخابات ويطالبوا بتغير سياسي حقيقي وبنيوي.
في ظل هذه الأجواء السياسية المشحونة والاستياء الشعبي الراهن، ستكون الأيام القليلة المقبلة حاسمة لضمان الاستقرار السياسي في الجزائر. بل إن الاستقرار في شمال أفريقيا، وحتى في منطقة البحر المتوسط عموماً، سيكون مرهوناً بالانتقال السلمي والسلس للسلطة في الجزائر.
الجيش في مواجهة الشعب
صحيحٌ أن بوتفليقة استحوذ على السلطة على مدى عشرين عاماً، لكن استقالته كشفت عن الجهة الفعلية الممسكة بزمام الحكم، الطغمة العسكرية. لطالما اعتُبر الجيش المؤسسة الأكثر أهميةً وشعبيةً منذ أن نالت الجزائر استقلالها في العام 1962. وحتى حين غرقت البلاد في حرب دموية مسلحة في تسعينيات القرن العشرين، وعلى الرغم من تدخل الجيش المباشر فيها، رأى الجزائريون عموماً في المؤسسة العسكرية خلاصهم الوحيد. ولكن استقالة بوتفليقة القسرية في ظل غياب أي خطة خلافة مستدامة أو عملية أجبرت المؤسسة العسكرية على الاضطلاع بدورٍ واضح في السياسة -وحتى في القضاء. وجاءت الخطوة الصريحة التي أكدت على تحكم القيادة العسكرية بمفاصل العملية السياسية في الجزائر من رئيس أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح، الذي أعلن أن الانتخابات الرئاسية ستُجرى في 12 كانون الأول (ديسمبر) في خطاب من داخل ثكنة عسكرية.
منذ تزايد ظهور قايد صالح أمام الرأي العام، أدّت خطاباته السياسية التقسيمية في غالبيتها إلى إثارة سخط شعبي وشعارات احتجاجية تطالب بوضوح بدولة مدنية تحل محل الحكم العسكري. وعلى ضوء دينامية المد والجزر التي تتضح معالمها أكثر فأكثر بين الجيش والشعب، باتت سمعة المؤسسة العسكرية وتماسكها الداخلي معرّضين للخطر أكثر من أي وقتٍ مضى. ومع أن الجزائريين ما يزالون قادرين على التمييز بوضوح بين الجيش كمؤسسة وبين الطغمة العسكرية كـ”نخبة حاكمة”، لن يطول الوقت حتى يصبح هذا الفاصل مشوشاً وضبابياً -خصوصاً مع ازدياد تعقيد الوضع السياسي في الجزائر.
لقد بدأ صبر الشعب ينفد، لا سيما بعد إطلاعه على قائمة المرشحين الرسميين للانتخابات الرئاسية، والتي تضم خمس شخصيات معروفة بأنها نتاج النظام السياسي القائم. وأصبح كثيرون ممّن آمنوا بالتغيير من خلال هذه الانتخابات يشعرون اليوم بالخيانة ويعون أن هذه الانتخابات ما هي إلا وسيلة للتجديد لهذا النظام بدلاً من إنهائه. ومع اقتراب موعد الانتخابات، ثمة دلالات واضحة على أن النظام مستعد للتصعيد من خلال ممارسة القمع العنيف، حيث ترى الطغمة العسكرية في هذه الانتخابات السبيل الوحيد أمامها، في حين أن رفضها لأي حوار حقيقي لن يؤدي إلا إلى مواجهة محتملة مع الشعب الذي ما يزال محافظًا على سلميته.
أزمة اجتماعية-اقتصادية وشيكة
علاوة على أزمة الشرعية السياسية في الجزائر، فإن تزايد المخاوف من حدوث انهيار اقتصادي تلوح في الأفق. منذ بدأت أزمة النفط في العام 2014 بسبب التراجع الكبير في سعر النفط الخام، ارتأت الجزائر اتباع تدابير تقشفية قاسية -وهي التي يعتمد اقتصادها بالدرجة الكبرى على قطاع النفط والغاز. ومع ذلك، وصلت كل المحاولات الحكومية اللاحقة بتنويع الاقتصاد إلى حائط مسدود. ومع ارتفاع معدلات البطالة وسوء الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية، بات البلد مقبلاً على الانفجار.
سجّلت احتياطات الصرف في البلاد انخفاضاً حاداً من 193.6 مليار دولار في العام 2014 إلى نحو 65 مليار دولار في تموز (يوليو) 2019. وفي هذا السياق، ألمح وزير المالية الجزائري، محمد لوكال، إلى إمكانية حدوث انهيار اقتصادي في الجزائر بحلول العام 2022 حين أدلى بتصريح مقلق ذكر فيه أنه بنهاية العام 2020، لن تسمح احتياطات الصرف بالاستيراد لأكثر من 12 شهراً إضافياً فقط.
إذا كانت المطالب بتغيير النظام السياسي قد ظلت سلميةً حتى الآن، فقد يعد الخوف من الانهيار الاقتصادي الوشيك إلى ذاكرة الجزائريين الأزمة التي أصابت سوق النفط العالمية في العام 1986، وأسفرت عن أعمال الشغب العنيفة الشهيرة في العام 1988. ومن المؤكد أن ضبابية الوضع السياسي ليست عاملاً إيجابياً يشجع الاستثمار، ولكن الانتخابات المقررة ستفضي على الأرجح إلى ساحة سياسية أكثر تعقيداً تحول دون إجراء الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية التي تمس إليها حاجة البلاد.
التداعيات الإقليمية: المزيد من نزع الاستقرار
علاوةً على ما تواجهه الجزائر من احتمال عدم استقرار، ينبغي أن تنتبه الدول المجاورة بشكل خاص إلى تأثير هذه المسائل على وضع الجزائر الأمني. فمساحة الجزائر هي الأكبر بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولهذا السبب كافحت الجزائر على مدى الأعوام الخمسة الأخيرة للدفاع عن حدودها بوجه بيئة متنامية في عدوانيتها. وما بين الاستقرار المنعدم في ليبيا ومالي، ووجود “القاعدة” المحتم والمقلق في المغرب الإسلامي، تشكل الجزائر اليوم جزيرةً من الاستقرار في المنطقة، وشريكا مهما في الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب.
وفي حين نجح الجيش الجزائري حتى الآن في إبقاء الوضع تحت السيطرة، قد يؤثر تدخّل الجيش الواضح في السياسة على قدرته على إتمام أهم واجباته، أي حماية الحدود. وقد يؤدي هذا الخلل الى إضعاف الجهاز الأمني في الجزائر فتتمكّن التنظيمات الإرهابية والمنخرطة في الجريمة المنظمة من الانتشار وتعزيز وجودها في الصحراء الجزائرية والمنطقة.
فضلاً عن ذلك، إذا لم تتوصل الجزائر إلى توافق سياسي حول المرحلة المقبلة، وفي حال بلغ الغموض السياسي نقطة التصعيد على ضوء الأزمة الاقتصادية المحدقة بالبلاد، من الممكن أن يصبح قطاع النفط والغاز -الحيوي بالنسبة للاتحاد الأوروبي- معرضاً للخطر. وإذا ما انعدم الاستقرار في الجزائر، سيصبح البلد هدفاً للكثير من القوى الدولية ذات المصالح المتضاربة والتي تتناقض مع مصالح الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأميركية. سوف ترى روسيا في ذلك فرصةً لتعزيز نفوذها في شمال أفريقيا بما قد يشكل خطراً على مصالح الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ وستقدم الصين المساعدة المالية للجزائر بطريقة كفيلة بتعريض المصالح الاقتصادية للقوى الأخرى للخطر.
مسار المرحلة المقبلة: تنازلات وتفاهم متبادل
تعاني الجزائر من مشكلة رئيسية واحدة تتمحور حول أزمة الشرعية. وتُعزى كل الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي حصلت منذ العام 1962 في معظمها إلى هذه الأزمة التي أوصلت في النهاية إلى انتفاضة شباط (فبراير). ومع أنه لا يخفى على أحد المحاولات المختلفة التي بذلها كلٌّ من النظام الحاكم والمعارضة لمعالجة هذه الأزمة، فإن من الواضح أن كل هذه المحاولات كانت بلا جدوى.
اليوم، لن تعالج الانتخابات أزمة الشرعية هذه، بل سوف تفاقمها فقط لأنها سوف تنتج رئيساً يتمتع بـ”شرعية دستورية”، لكنه يفتقر إلى الشرعية الشعبية. وسوف تؤدي هذه الاستراتيجية حتماً إلى انتفاضة أخرى بحلول العام 2022، واحدة قد تحمل أولى بوادر العنف. وبذلك، لا يمكن معالجة أزمة الشرعية إلا من خلال حوار وطني يُعقد قبل أي انتخابات. ويجب أن يقود هذا الحوار الوطني، الذي يمكن أن يتخذ شكل مؤتمر وطني، الى اتفاق سياسي يشمل جميع الجهات الفاعلة السياسية والاجتماعية، بما في ذلك المؤسسة العسكرية. ويجب على جميع القوى في الجزائر الدخول في نقاش صريح للاتفاق على بديل سياسي. ومع ذلك، من الضروري قبل أي مفاوضات مباشرة مع المؤسسة العسكرية حدوث نقاش داخلي بين الجهات الفاعلة في المظاهرات. فالجزائريون بحاجة إلى استعادة الثقة بمؤسسات الدولة، بما فيها الجيش. ويصعب استعادة هذه الثقة بما أن النظام يواصل فرض القيود على حرية التعبير والإعلام والتجمع، في حين أن توفير بيئة أهدأ تحترم حريات المواطنين وتسمح للمتظاهرين بمناقشة رؤيتهم لمستقبل الجزائر بكل حرية، وبذلك يتم التوصل في النهاية إلى توافق سياسي وبديل عملي يجعل هذه العملية الانتقالية أكثر سلاسةً وسلمية.
نظراً إلى الأهمية الإقليمية للجزائر، يثير هذا الغموض السياسي منذ الآن قلق المجتمع الدولي، خصوصاً شركاء الجزائر في قطاعَي الأمن والتجارة. وبينما يواصل الجزائريون رفض أي نوع من التدخل الخارجي في شؤونهم -وسيظلون كذلك على الأرجح- يجب أن يعي المجتمع الدولي أن اتباع أي استراتيجية تؤدي بشكل غير مباشر إلى تقوية النظام السياسي قد لا يكون الخيار الأكثر حكمةً في هذا الإطار. فمصالح المجتمع الدولي تعتمد على استقرار الجزائر، ومعارضة مطالب الشعب قد تهدد هذه المصالح. ويعيش الجزائريون اليوم في دولة عسكرية قائمة بحكم الأمر الواقع، والإقرار بهذا الواقع هو الخطوة الأولى اللازمة لاتخاذ موقف استباقي يضمن تلبية مطالب الجزائريين ويحافظ على استقرار الجزائر في الوقت نفسه.
في النهاية، سواء أجريت الانتخابات أم لم تُجرَ، تختبر الجزائر أصلاً مرحلة انتقالية تتطلب من كلا الطرفين، الطغمة العسكرية والمتظاهرين، تقديم بعض التنازلات الصعبة -وإنما الضرورية. ولا يجدر بالطغمة السياسية وضع نفسها في مواجهة مباشرة مع المتظاهرين، وعليها أن تبدأ بالإصغاء لصوت الشارع. أما المتظاهرين، فعليهم أن يفهموا أن انفصال الجيش بشكل كامل ومفاجئ عن السياسة ليس ممكنا بكل بساطة، وأن التعاون مع المؤسسة العسكرية للتوصل إلى رؤية بعيدة المدى هو أسهل وأكثر سلامةً من أي طريق آخر أسرع، لكنه أخطر، والذي يؤدي الى مواجهة بين الشعب والمؤسسة العسكرية. إن البلاد تسير ببطء نحو مأزق خطير، وخطر التصعيد يزداد يوماً بعد آخر. وستكون التنازلات والتفاهمات المتبادلة وحدها هي القادرة على الحؤول دون دخول الجزائر في نوبة فوضى جديدة.
 
*كاتب جزائري يهتم بالقضايا السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع تركيز على الشؤون الجزائرية.