Tuesday 16th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    24-May-2019

إشكاليّة الهُويّة في رواية «صديقتي اليهوديّة» لصبحي فحماوي

 الدستور-أ‌. د. محمّد صابر عبيد

 سيميائية العنونة
تتصدّى رواية (صديقتي اليهودية) للروائي صبحي فحماوي ـ ابتداءً من عتبة العنوان ـ لإشكاليّة الهُويّة بكلّ تمثّلاتها وتجلّياتها وانشطاراتها، إذ تتمظهر (الهُويّة) على شبكة واسعة من المستويات بحسب طبيعة الموضوع الروائيّ والمقولة الروائيّة، وربّما علينا أن نبدأ من عتبة العنوان بوصفها علامةً تثير إشكاليّة الهُويّة في حساسية العلاقة بين لفظتي العنونة (صديقتي/اليهودية)، إذ تقع عتبة العنوان بين إشكاليّة التضاد والتوافق على نحو يؤسس لعنصر الإثارة في العنوان، فثمة ردّ فعل سريع معترض على علاقة الصفة بالموصوف حين تدفعه عاطفته القومية والإنسانية نحو النظر إلى شخصية (اليهوديّ) بوصفها شخصية عدوّة في الميراث العربيّ القوميّ، وردّ فعل متأمل موافق يفرّق بين صفة (اليهوديّ) الدينية التي يمكن أن تتراصف بجانب (المسيحيّ) أو (المسلم) ضمن سياق دينيّ عام لا مشكلة فيه، وبين صفة (الصهيونيّ) المرتبطة بالنزعة العنصريّة التعصبيّة المتعالية والمغتصبة للحقّ الفلسطينيّ في أرض فلسطين، على نحو لا يشكّل أيّة عقبة أمام قبول العبارة العنوانية المثيرة والجريئة على صعيد هذا التحقّق الإشكاليّ. 
الصيغة الخبريّة للدالّ العنوانيّ (صديقتي) يحيل على معنى الصداقة النوعية مع الأنثى، وهذه الصيغة ذات مفهوم خاصّ من حيث ارتباطها بـ (ياء النسب) التي تمثّل علامة سيميائية على نوع من الفهم الإشكاليّ بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، أمّا الدالّ النعتيّ في (اليهودية) فينطوي في سياق التلقّي على صراع الدين مع الحركة السياسية المغتصبة (الصهيونية)، والرواية في جزء مهمّ وجوهريّ من مقولتها تسعى إلى التفريق بين الجذر الدينيّ للمفهوم (اليهودية)، والصفة الإيديولوجية للمفهوم (الصهيونية)، واختيار الصديقة الأنثى في حقل (الآخر) مقابل ذكوريّة الراوي في حقل (الأنا) يحيل على إشكاليّة المثاقفة الحضارية على نحو تطابقيّ، فـ (الآخر) في نسخته الذكورية المرتهنة بالصفة الإيديولوجية (الصهيونية) مزّقت بكارة الأرض العربية في فلسطين عن طريق احتلالها وإذلال أهلها، في حين تنجح الأنا الذكورية العربيّة في الرواية بمضاجعة أنثى الآخر في نسختها (اليهودية) على نحو يحقّق نوعاً من التعادلية الرمزية في متخيّل الراوي.
 الهُويّة: نموذج الراوي وطبيعة التشكيل السرديّ 
يعتمد السرد الروائيّ في هذه الرواية على ما يمكن أن نصفه بالراوي الذاتيّ القريب من الراوي السيرذاتيّ، أو المتماهي معه أحياناً، وهذا الراوي يتجلّى هنا بدلالة الميثاق السيرذاتيّ على شكل إلماحاتوالتقاطات ومعلومات لها علاقة وثيقة (ميثاقية) بين الراوي/الشخصية في الداخل والمؤلف الحقيقيّ في الخارج، منها ما يتعلّق بالتشابه الحاصل بين الراوي الذاتي والمؤلف الحقيقيّ من حيث الطبيعة الشخصية ذات الأصول العربيّة الإسلاميّة، والمرجع المكانيّ الوطنيّ (عمّان)، والانتماء الفلسطينيّ (فلسطين)، والانتماء العمليّ الوظيفيّ (هندسة الحدائق)، والكثير من التفاصيل الأخرى ذات الصلة بشخصية المؤلّف وتجلياتها الميثاقية داخل المتن النصيّ وهي تسعى إلى توكيد قدرٍ من العلاقة بين الراوي الذاتيّ والمؤلّف الحقيقيّ.
يقدّم الراوي الذاتيّ في الرواية نفسه في أوّل اعتراف واضح لشخصيّته تحيل على نحو ما على شخصيّة المؤلّف (صبحي فحماوي)، إذ يقول الراوي: أنا عربي من الأردن، وأعمل في عالم الحدائق. ولقد استغللت إجازاتي السنوية، بزيارة معارض زراعية، والمشاركة في هذه الرحلة الأوربية....تتّضح هويّة الراوي الذاتيّ تماماً في عروبته وأردنيّته وعمله في حقل الحدائق، وإذا ما عدنا إلى السيرة الذاتية للمؤلّف الحقيقيّ (صبحي فحماوي) في نهاية الرواية سنجد أنّ هذه المعلومات الواردة هنا عن شخصيّة الراوي الذاتيّ تنطبق كليّاً على شخصيّة المؤلّف: (مهندس حدائق، عضو الجمعية الأمريكية لمهندسي الحدائق. زرع أكثر من مليون شجرة في الأردن)  
فضلاً عن حساسيّة الانتماء العروبيّ الإسلاميّ وقد وُسِمَ لدى الغرب بالإرهاب حين يعرف أفراد الرحلة الأوربيّة من مختلف بقاع العالم أنّ معهم شخص عربيّ وحيد: 
تدقّق الأوروبيّة في أوراقي، لتعرف هويّتي، وما إذا كنت قد سدّدت نقود الرحلة حسب الأصول، وبمكبّر الصوت تُعرّف السيّاح عليّ، بأنّ اسمي جمال جاسم.. تبتسم وهي تقول: «إنّه العربيّ الوحيد في المجموعة»
صدام حسين! صدام حسين! هكذا صهلت امرأة غربية بيضاء، جالسة وسط الحافلة على مقعد الممر وهي ترفع وجهها باتجاهي، وذلك بعد سماعها اسمي، ومشاهدتها وجهي العربيّ....توترت الحافلة بركابها الذي شنّفوا أذانهم، وجحظت أعينهم لمشاهدة هذا الإرهابيّ العربيّ، الذي يلج عليهم خلوتهم، فينكّدُ عليهم، ويعكّر جوّ فرحهم في هذه الرحلة السعيدة، إذ لم يكن متوقعاً أن يكون بينهم سائح عربيّ، في هذا العصر الذي وسموه «ظلماً» بـ «الإرهاب العربيّ الإسلاميّ».  فالحكم على العربيّ الإسلاميّ حكم مسبق بالإرهاب إذ لا يحتاج الغربيّ إلى اتهام وإدانة ومحاكم حتى توصف هذه الشخصيّة بالإرهاب، وتشكّل هذه الرؤية المسبقة مجالاً سردياً للراوي كي يستثمرها في السبيل نحو بناء نموذج للعلاقة بين العربيّ الوحيد في الرحلة، والآخرين الذين ينتمون لجنسيات أوربيّة مختلفة بينهم إسرائيلية، وهي معادلة ثريّة على صعيد إمكانية تشغيلها في المتن السرديّ لأجل مقاربة مفهوم الهويّة.
تندفع شخصيّة الراوي الذاتيّ باتجاه تكوين رؤية شخصيّة ذات طبيعة خاصّة على هذا النحو داخل الحدث الروائيّ الذي يحدّد ملامحها ويحيل على نموذجها، لتكشف عن آليّة وصم العرب المسلمين بالإرهاب من دون وقائع وبراهين وقرائن تتعلّق بشخص محدّد في مناسبة محدّدة، وهذا لا يتفق بطبيعة الحال مع أبسط حقوق الإنسان التي لا تتعامل مع الشخص على لونه وانتمائه وجنسه، بل تقاضيه على عمله المعزّز ببيّنات واضحة ودامغة تدينه وتضعه موضع المتّهم الذي من حقّه حتى في هذه الحال الدفاع عن نفسه إلى أن تثبت جريمته، فكيف يتمّ هنا تجريم زميلهم في الرحلة من دون معرفة سابقة إذ يكفي في نظرهم ليكون مجرماً وإرهابياً أن ينتمي إلى أيّ بلد عربيّ أو مسلم.
ثمّة سلسلة مترابطة ومتواصلة من المونولوجات الذاتيّة تترى في هذه الرواية بحكم أنّ الراوي هو راوٍ ذاتيّ يعتمد كثيراً في تسيير عجلة السرد على المونولوج: «ذكّرني هذا المشهد بما أراه في كثير من بلداننا العربية، حيث لا توجد أرصفة أصلاً.. ولو وُجِدت فإنّ كثيراً من أسنانها مخلّعة.. إنّهم يسرقون أغطية المجاري، فيقع طفل راكض وهو غير منتبه في نهر المجاري الهادر تحت الأرض.. يبحثون عنه في كل مجاري الأرض، فلا يجدونه.. يعملون له أكبر سرادق عزاء، وقهوة وشاي وكنافة أحلى شيء لمدة ثلاثة أيام.. لا أفهم لماذا يوزّعون الكنافة على روح الفقيد، خاصة النابلسيين منهم..»
كثيراً ما تتكرر في الرواية جملة (ذكّرني) لاستعادة مشاهد يوازن في الراوي الذاتيّ ويقارن بين ما يرى في بلاد أوروبا في أثناء رحلته الأوروبية وما يجري في بلده العربيّ المسلم من مآسٍ، ولهذه الاستعادة في سياق مونولوج ذاتيّ يقوم غالباً على أسلوب السخرية وظيفة تاريخيّة وثقافية تكشف عمّا يكمن في ذاكرة الشخصيّة من مخزونات ومشاهدات ورؤيات، إنّه نوع من العزاء الذاتيّ الكاشف عن جزء من الموروث الشعبيّ المتخلّف في حياتنا العربية الإسلامية، ويؤدي المونولوج هنا دوراً في ربط المشاهد السردية بروح درامية تنسج علاقة ضرورية مقارنة بين ثقافتين مختلفتين برواية من ينتمي للثقافة الرجعية.
يقوم التشكيل السرديّ الروائيّ على أسلوب التعبير بوساطة (اليوميات) حيث تبدأ الفصول بالتواريخ المحددة في رأس كلّ فصل، تتشكّل الخارطة الزمنية الحكائية للرواية على هذا النحو من (21) يوماً، تبدأ (8-6-1993-) وتنتهي بـ (29-6-1993-)، وهي زمن الرحلة التي يرويها الراوي على شكل يوميات، في سياق سرديّ يهيمن فيه على مقدّرات السرد هيمنة مطلقة، هذه اليوميات هي عماد النسيج الروائيّ ومادته التشكيليّة ذات الفضاء الأسلوبيّ السيرذاتيّ الذي يشتغل بوصفه حيلة من حيل السرد الروائيّ، ومنها اليومية المؤرخة في (16-6-1993) حيث يصف الراوي الذاتيّ في استهلالها ليلة ممتعة في مدينة روتردام على النحو الآتي:
بعد ليلة ممتعة سهرناها في مدينة روتردام، نغادرها صباح هذا اليوم، فتسير الحافلة بين سهول خضراء باتجاه الشمال الشرقي.. حيث الطريق أخضر، والسهول واسعة شاسعة، مصبوغة موارسها بالألوان.. تسير الحافلة بهدوء في منطقة مزارع نباتات زينة قصيرة متراصة متكاتفة.. سهول خضراء على مدّ النظر.... الخ.
هذه اليوميّة تتنازعها الصفة التسجيليّة للأحداث التي حصلت في تاريخها والصفة الإنشائيّة التي بدا الراوي وكأنّه مولع بها إلى درجة كبيرة، في حين يقوم فنّ اليوميّات السيرذاتيّة على اقتران السرد بالحدث على نحو وثيق ومتكامل، فاليوميات هي (سرد سيريّ يخضع خضوعاً كاملاً لسلطة الزمن اليوميّ، ويتقيّد كتابياً بالظروف الزمكانية والنفسيّة والاجتماعية لكيفية اليوم الذي تسجّل فيه كلّ يومية، كما يستند شكل اليومية ـ لغة وتشكيلاً وخطاباً ـ إلى طبيعة الأحداث الشخصية أو المحيط أو الماحول ـ شخصية، فتكون قصيرة أو متوسطة الطول أو طويلة، وتكون قائمة على حدث واحد أو مجموعة أحداث، وتكون ذات حيوية وحرارة وإثارة وتنوّع أو أقلّ حيوية وإثارة وتنوّعا، وتُظهِر حماس الراوي أو قلّة حماسه، وتكون ذات طابع حكائيّ أو وصفيّ أو قد تكتفي بالإشارات والملاحظات والبرقيات.وتتمتع اليوميات بخيطٍ سرديّ عام يربط اليوميات بمقولة أساسية ومركزية، تُظهِر ضرورة تسجيل هذه اليوميات في زمكانية فيها من العمق والإثارة ما يستوجب هذا التسجيل، ويعكس أهمية خاصة مشفوعة بذكاء حاد في أسلوبية الكتابة المعتمدة على التركيز والتكثيف وحدّة الالتقاط وحساسيّته، فضلاً عن الاقتصاد الشديد في لغة السرد. وهي لا تعتمد على آليّات السرد الاسترجاعيّ كما هي الحال في السرد السيريّ، لأنّ الزمن الحاضر «الآني» هو الزمن المهيمن في اليومية، لذا فهي تفتقر إلى صورة الترتيب الزمنيّ التصاعديّ الذي نجده في السيرة.).
يستكمل الراوي في كلّ يومية حلقة من حلقات الرواية في مدينة أوربية يكشف فيها عن مشاهداته الطبيعية والإنسانية، وتنهض الرواية في متنها السرديّ وفضائها الروائيّ على حساسيّة الإسهام الفنيّ لليوميات في قدرتها على تمثيل الحدث السرديّ على نحوٍ غير مباشر.
اللغة الروائية تتسلّح بالبساطة المكتنزة والعفوية القصديّة من أجل المحافظة على روح الحكي المشتبك مع نسيج الحبك السرديّ، وهي في ذلك أقرب إلى ما يمكن أن نصطلح عليه هنا بـ (اللغة الروائية الممسرحة) إذ تطغى عليها الحواريّة والتجاذب اللغويّ التشكيليّ، وثمّة إفادة واضحة من أسلوبية الحوار الفلميّ حين تذهب اللغة إلى أعلى درجات اقتصادها واختزالها، من أجل الوصول إلى الهدف التعبيريّ في أسرع زمن وأقصر مكان وأشمل رؤية: «الحياة من حولي صارت ملونة.. أجمل إشراقة شمس.الأشجار متعددة ألوان الخضرة.. السيارات مزهرة.. ترام المدينة معطر.التقينا بالأحضان. وما هي سوى لحظات من الحنان ودفء اللقاء، حتى تهنا في الطرقات. رحنا نسير الهوينا على ضفاف نهر آرنو الجميل، الذي يتمدد رائقاً صفصافاً بداخل فلورنسا.كانت تشبك يدها بذراعي، يطول الطريق، فتأخذني بابتسامتها الرقيقة إلى شوارع الفن الضيقة، بحيث لا تتسع لأكثر من مرور سيارة إيطالية واحدة بحجم الثعلب.»
تفيد اللغة السردية هنا من طاقات الدراما والسينما كي تصوّر مشاهد وترصد حالات تعبر عنها صوريا بأبسط المفردات وأقلّها، فسرديّات الرحلة تقتضي هذا النوع من اللغة وتستدعيه بقوّة فضلاً عن أنّ الروائيّ صبحي فحماوي مولع أصلاً بتشغيل سرديّاته كلّها على سكّة احتواء السينما والدراما والشعر أيضاً، وهو ما يفسّر توظيفاته الكثيرة في عتبات النصّ لمقولات تنتمي لهذا العالم الفنيّ الجماليّ وتسهم في تلوين السرد وتنويعه أسلوبياً، من هنا تأتي لغته ضاجّة بهذه الممكنات الأسلوبية على غير صعيد ومستوى.
المكان المتحوّل هو المكان السرديّ الذي يتسيّد فضاء الحدث الروائيّ (الحافلة/الطائرة/وسائط النقل الأخرى)، وحتى الأمكنة الأخرى (الفنادق/المقاهي/المطاعم/المنازل) تتحرّك في إطار المكان المتحوّل (السائر)، إذ جاءت كلّ إيقاعات الحراك السرديّ في الرواية ذات طابع سريع تعزّزه اليوميات المتلاحقة على نحو غزير وفاعل: وبعودتي بسلام إلى أمستردام تنفست الصعداء إذ ما زلت حياً، المدينة العولمية تستوعب مختلف الجنسيات وكل أنواع البشر، حيث يختلط الحابل بالنابل، ولا يعرف أحد غير القرش.