Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    28-Sep-2021

د. منى محمد محيلان.. ذكريات بيتٍ من العلم والحكمة والثقافة

 الراي - ملك يوسف التل

يقولون في توصيف النقد الأدبي أن أجمل التقليب في صفحات الذاكرة هو ذاك العفوي الذي يستنطق الوجدان بأقل قدر من التكلف. فيه يجري تظهير الصور القديمة التي كانت بالأبيض والأسود، وإن جرى تلوينها فبأقل قدر من الزيف المُكمّم.
 
وهذا ما تفعله الدكتورة منى محمد محيلان، خبيرة مهارات الاتصال باللغة العربية، التي ترقت في حزيران الماضي إلى رتبة أستاذ مشارك في اللغة العربية بالجامعة الأردنية، وهي هنا تملأ مساحة «بعيداً عن السياسة» باستذكار حوليات عقود مضت كانت فيها أحياء جبال عمان مجتمعات محلية تنطق بالألفة، وكان فيها مجموع الرسوم الدراسية خلال مرحلة البكالوريوس لا يصل مئتي دينار.
 
ولأن أم طارق تمتلك مع كل سجايا التواضع وعرفان الجميل بالوفاء، ذاكرة متوقدة بألوان الرضا، فإنها لا تضيع الفرصة للاستذكار والتذكير بلقطات ملونة بالأخضر الزاهي الذي تُحصنه بالنأي عن الأستذة وتوجيهات النصح أو التذكير بما يأنس الكثيرون لتسميته بالأيام الجميلة.
 
فهي تستذكر ، مثلا، أن د. عبد السلام المجالي الذي كان رئيس الجامعة الأردنية، ينزل عند بوابة القباب ويقطع المسافة حتى الرئاسة سيراً على قدميه. فقد كان ممنوعا على سيارات الطلاب أن تدخل الجامعة، بمن فيهم الطالبة الاميرة عالية بنت الحسين.
 
كما لا تجد غضاضة في القول انها ما زلتُ مقهورة لأنها لم تتعلم مهارات الخياطة في المرحلة الثانوية.
 
من إربد إلى جبل التاج
 
تبدأ الدكتورة محيلان من البداية وتقول: ولدتُ في إربد عروس الشمال، في يوم ثلجي من أيام كانون الثاني. طفتُ الأردن بضفتيه بحكم التنقلات الوظيفية لوالدي، ما كان له أثر في امتداد انتمائي وجغرافيّتي إلى كل شبر من ثرى وطني.
 
وحين استقر العمل بوالدي قاضيا شرعيا في عمان، سكنا جبل التاج في مطالع ستينيات القرن الماضي.
 
كان جبلاً فتياً حديثاً يطالع صباح مساء القصور الملكية العامرة. وبيوت حيّنا تناثرت هنا وهناك فلا اكتظاظ ولا بنايات ترتفع أكثر من طابقين، ومعظم من قطن الجبل من الطبقة المتوسطة اقتصاديا،أما عن سكان الحي فهم متآلفون متجانسون اجتماعياً ومادياً من شتى الأصول والمنابت.
 
غادرت جبل التاج وأنا أحمل أجمل الذكريات مع سكان الحي من زميلاتي وطالباتي في مدرسة التاج الثانوية وذلك في بداية مسيرتي العملية التعليمية.
 
تلقيت علومي الأولى في مدارس وزارة التربية والتعليم ولم تكن المدارس الخاصة منتشرة كما اليوم، بل إن كثيرا منها كان للطلبة الذين لم يحالفهم الحظ في الثانوية العامة.
 
ثانوية زين الشرف
 
كان تصنيف التخصصات المدرسية: علمي، أدبي، تجاري. وحتى منتصف سبعينيات القرن الماضي لم تكن توجد في عمان مدرسة حكومية للتخصص العلمي للإناث إلا ثانوية زين الشرف للبنات وكلية الحسين للذكور. وكانت من تذهب منا إلى مدرسة زين الشرف تستشعر في نفسها زهواً وتميزاً على بنات جيلها. اخترتُ التخصص العلمي وعاصرت إدارة «بدرية طبّلت» التي اتصفت بالحزم، لكنها قائدة رائعة. ومن المعلمات المميزات نهيلة كلبونة، فردوس زعيتر، سهاد عرفات، ليلى عبد السلام، خولة الأشهب، سهيلة بهلوان، نورز نيروخ، شهرزاد هاكوز، وغيرهن. أذكر في الصفين الأ?يرين من المرحلة الثانوية كنا ننقسم إلى مجموعات تميل للمهارات فنية وأخرى لمهارات الخياطة، لكن معلمة الفن سامحها الله أصرت على إدخالي المهارات الفنية برغم رغبتي الشديدة في تعلم مهارات الخياطة، وبقيت تلك أمنية تراودني لغاية هذا الوقت .
 
كنا نضطر إلى استئجار سيارة بالاتفاق مع مجموعة طالبات في الشتاء للذهاب صباحاً إلى المدرسة، ثم ننزل سيراً على الأقدام رجوعا إلى البيت حتى موقف سيارات جبل التاج الذي كان يستوطن الشارع الفرعي المقابل لفندق صلاح الدين والمنتهي بملحمة الرضا. كانت الأجرة قرشا واحداً للسيارة، و«تعريفة «إذا ركبنا الباص باعتبارنا طلابا.
 
ما زالت الذاكرة تحمل مرحلة الثالث الثانوي (التوجيهي)، وأحداث أيلول الأسود فقد أُعلِن حظر التجول بعد أسبوع تقريبا من بداية العام المدرسي70/ 71، فأغلقت المدارس، وانقطعت الكهرباء، وشحّ الماء، ولم تتوفّر أي وسيلة اتصال مع العالم الخارجي سوى راديو ترانزستور، وقد حرص أبي على بطارية الراديو حرصه على توفر الخبز في البيت، و لم يُستأنف عامنا الدراسي إلا في الأيام الأخيرة من الفصل الأول، فواجهنا تحديات كثيرة على رأسها إنهاء المناهج الدراسية وانقطاع الكهرباء ا حتى نهاية شهر آذار فكان لي شمعتي وبقية العائلة لها شمعة وا?دة و كنت أضع خلفها مرآة لأزيد الإنارة كي أتمكّن من الدراسة ليلاً.
 
بالطبع لم تكن ظاهرة الملخصات موجودة، فكنا نتسابق في اقتناء كتب نستوردها من مصر للتوسع في الدراسة وزيادة التدريبات، حيث كانت معظم مناهجنا مأخوذة عن المناهج المصرية منها كتب الرياضيات والميكانيكا والمثلثات والأحياء وكتاب البلاغة والعروض وغيرها. وقد ألغت الوزارة العطل الرسمية حتى أننا كنا نداوم أيام الجمعة لاستكمال المناهج، ولمواجهة تحدٍّ ثالث عملت الوزارة على ازاحة نهاية العام المدرسي ما يقارب الأسبوعين، مما قلص المدة المعطاة في العادة للطلبة لمراجعة المواد الدراسية، علما أن النظام كان نظاما سنويا، فتقدمت لا?تحاناتي دون أن أقدر على مراجعة الكتاب كاملا. وقد جَعلَت الوزارة امتحانات الثانوية العامة في أسبوع واحد كل يوم جلستين بغية اللحاق بركب قبولات الجامعات العربية والغربية حتى لا يضيع العام الجامعي.
 
مكتبة والدي الثرية
 
تعهدني والدي منذ نعومة أظفاري بالعناية والرعاية، يتابع تحصيلي العلمي بنفسه بالرغم من مشاغله المهنية، فزرع بي وبأشقائي وشقيقاتي حب العلم والمعرفة. فهيّأ لنا مكتبة منزلية متنوعة تجاورت فيها أسفار القضاء الشرعي والفقه والعبادات إلى جانب كتب الأدب القديمة والحديثة ودواوين الشعراء، فكم تحاورت مع أشعار المتنبي، وكم تسامرت وعرار في عشيات وادي اليابس، وكم أبحرت في روايات جرجي زيدان، ومترجمات مصطفى لطفي المنفلوطي؛ مما جعل الأدب يسكنني ويوجهني إلى التخصص في اللغة العربية وآدابها.
 
كان بيت العائلة يعجّ بخمس صبايا وأربعة شباب، وكان يدرس على نفقة الدولة من يحصلون على مرتبة الأوائل في المملكة أو المحافظات. لم يكن يعرف ما يسمى بالمكرمات، فدرس ثلاثة منا على أساس التفوّق الأكاديمي، بينما درس بقيتنا على نفقة والدي.
 
وأكثر ما أستحضر من بيت العائلة رسيس حزن يرتبط بذكرى والدي وليالي إثبات شهر رمضان أو غرة شوال أو ذي الحجة؛ فقد كانت الاتصالات تتقاطر من معظم دول العالم على بيتنا الذي انتهى به المطاف قاضياً للقضاة. حين ظهرت نتائج الثانوية العامة كنت في زيارة مع أهلي إلى قريتنا سوم غربي إربد، وكانت النتائج تذاع في الراديو والإذاعة تغلق الثانية عشرة ليلا، ولا تعلن في الصحف مباشرة.
 
انتظرتُ نتيجتي حتى اليوم التالي، فظنت النسوة من أقاربي أنني رسبتُ فارتسمت علامات الحزن أو السخرية على وجوههن.
 
ما بين دراسة التمريض أو اللغة العربية
 
نجحتُ بتفوق ووقفت على مفترق طرق بين دراسة التمريض في كلية الأميرة منى، ودراسة اللغة العربية وآدابها، وقد رافقني والدي الشيخ المعمَّم إلى مدينة الحسين الطبية لإجراء الفحوصات اللازمة قبل التحاقي مرشحة في الخدمات الطبية.
 
لكن وبقرار مني التحقتُ بالجامعة الأردنية وكانت الوحيدة على مستوى الأردن ولم تكن الجامعات الخاصة مستحدثة بعد.و كليات الجامعة الاردنية حينئذ كانت الآداب، العلوم، التجارة والشريعة، كما رافقني والدي إلى الجامعة للتسجيل، وهو يهمس في أذني (أريد أن أزور مكتبك في الجامعة أستاذة فيها)،راقت لي كلمات أبي فطرزتها وساماً على صدري من ذاك الزمن. و بتواضع أقول ان المستوى الاقتصادي للطلبة متقاربا؛ ومصروفنا لا يتجاوز عشرة قروش،وكانت كافية لمواصلاتنا ولشرب كوب من الشاي،حتى أنني كنت أدّخر منه لشراء كتاب مرجعي يطلب منا؛ وبذلك ?شكلت النواة الأولى لمكتبتي الشخصية التي أتباهى الآن بموسوعيتها وحجمها.
 
الأميرة عالية الحسين طالبة معنا
 
كانت بوابة القباب هي الوحيدة لولوج قلب الجامعة، سواء للسيارات أو للطلبة، وكان عدد لا يتجاوز أصابع اليد من الطلبة مَنْ يقتني سيارات خاصة، ومع ذلك لم يكن يُسمح لهم بدخول الحرم الجامعي بسياراتهم، حتى أميرتنا منعت من دخول سيارتها إلى حرم الجامعة، أذكر أنها كانت مسجلة في محاضرة في كلية الشريعة وكانت الكلية بعيدة عن البوابة فتأخرتْ عن المحاضرة وأخذت ترجو الحارس أن يسمح لها بالوصول إلى محاضرتها في سيارتها،فلم نكن نشعر أبداً بأي تمييز لها علينا.
 
وأذكر أن د.عبد السلام المجالي،رئيس الجامعة،كان ينزل عند بوابة القباب ويقطع المسافة حتى الرئاسة سيراً على قدميه وكان مقرّ الرئاسة أبعد مبنى في الجامعة ليلقي التحية علينا، ويقف معنا، ويحدثنا ويتلمّس قضايانا وهمومنا بنفسه. وأثناء سيره كان يلتقط ما يلقاه في طريقه من أوراق وعلب سجائر،
 
كنا حين نراه يفعل ذلك نخجل ونسارع إلى التقاط النفايات قبل أن يصلها، وأكثر ما كان يُحرج بعضنا حين يتجه نحو مجموعة ليلتقط علب السجائر الفارغة القريبة جداً منهم.
 
كنا لا نتغيب عن محاضراتنا إلا في حالات وفاة قريب من الدرجة الأولى، وحين الغياب ننسخ محاضراتنا يدويا لعدم توفّر آلات التصوير.
 
أساتذتي.. من اساطين العربية
 
تتلمذت في جامعتي في درجاتها الثلاث، على أساطين العربية ومن أساتذتي د. ناصر الدين الأسد د. عبد الكريم خليفة د. محمود إبراهيم، د. محمود السمرة د. فواز طوقان والياغيان (د. هاشم، د. عبد الرحمن)، د. نصرة عبد الرحمن، د. ابراهيم السعافين د. فهمي جدعان، د. أحمد ماضي، والأخوين عاقل من سوريا، وبعضهم من مصر.
 
درست سنتي الجامعية الأولى على أساس نظام السنوات وكانت الرسوم للسنة بأكملها عشرة دنانير، تحوّل بعدها النظام إلى الفصل الواحد فصارت الرسوم خمسة وعشرين دينارا للفصل، ما يعني أن مجموع رسومي الدراسية خلال مرحلة البكالوريوس لم تتجاوز مئة وستين ديناراً، وكنا نسجل العدد الذي نريده من الساعات،ففي الفصل الواحد نسجل ثماني عشرة ساعة معتمدة. ومن الجميل جدا أنني لم ألتحق بأي فصل صيفي في الجامعة بل كنت ألتحق بمركز لتعليم الخياطة الهواية التي أحببتها وما زلت أمارسها.
 
لم تكن أنشطتنا الثقافية كثيرة في الجامعة ولكن حين يدعى أديب أو مفكر لإلقاء محاضرة داخل الجامعة أو خارجها كنا نتسابق ونتزاحم على حضورها.
 
زمالة الفاضلات اللواتي علّمنني
 
عُيّنت عقب تخرجي مباشرة في مدارس وزارة التربية والتعليم في المدرسة التي أمضيت فيها مراحلي الابتدائية والإعدادية، وصرت زميلة لمعلماتي وهذا كان يسبب لي حرجاً كبيراً في التعامل معهن، فقد كانت هيبتهُن واحترامهن مغروسة في أعماقي. وبعد تخرجي بعام حصلت على دبلوم التأهيل التربوي من الجامعة الأردنية.
 
في منتصف السبعينيات تزوجت من أمين أبو بكر ورزقنا بابننا طارق، لكن لم يشأ الله ان يستمر زواجنا أكثر من سنتين وبقيت عزباء حتى عام 2018 فاقترنت بزوجي طه مصطفى التل نجل الشاعر الثائر «عرار» وبفضل الله أننا بخير.
 
وبالعودة إلى المرحلة التعليمية وجدت تشجعاً من أبي على متابعة تحصيلي العلمي والحصول على درجة الماجستير. عُيّنت بعدها بأشهر مُدرِّسة في الجامعة الأردنية، فأكرمتني جامعتي ببعثة دراسية للحصول على درجة الدكتوراة في ذات الجامعة، فكنت صباحا أرتدي عباءة التعليم زميلة لأساتذتي في الجامعة، ثم لأعود إليهم في المساء بثوب الطالبة.
 
وبعد حصولي على درجة الدكتوراة في اللغة العربية وآدابها استقرّ تعييني في الجامعة، وخلال مسيرتي التعليمية أنجزت دورات متعددة منها دورة في الإدارة العليا، ودورات في اللغة الإنجليزية، و في قيادة الحاسوب، وفي التعليم عن بعد، وقد سعينا في مركز اللغات منذ سنة 2005 إلى الاطلاع والتجريب والتدريب على حوسبة التعليم بمعية الأستاذ الدكتور أحمد مجدوبة.
 
واصلت دراساتي وأبحاثي حتى حصلت على رتبة أستاذ مشارك. وبالإضافة إلى موقعي الأكاديمي الذي أعتبره أول وأهم أدواري في الجامعة فقد كًلّفت من قِبل الجامعة بمواقع إدارية متعددة منها إدارة مركز اللغات، والإشراف على شعبة اللغة العربية للناطقين بها أو بغيرها، إضافة إلى الإشراف على شؤون الامتحانات: امتحانات مهارات اللغة العربية أو الإنجليزية أو امتحانات التوفل أو امتحانات الكفايات اللغوية لطلبة الدراسات العليا، أو امتحانات التخرج لطلبة الجامعة الأردنية عامة.
 
أسهمتُ في تأليف مقررات دراسية لطلبة الجامعة الأردنية، وجامعة ملاوي/ ماليزيا، وجامعة الأزهر، ووزارة التربية والتعليم في الأردن. بالإضافة إلى عدد من الكتب باللغة العربية للناطقين بغيرها وللناشئين لمن هم داخل الأردن أو خارجه.
 
كما و شاركتُ في مؤتمرات داخلية وخارجية فيما يختص باللغة العربية وآدابها. وحظيت سابقاً و حالياً بعضوية عدة مجالس ولجان منها عضو المجلس الدولي للغة العربية. عضو لجان تحديث وتطوير كتب اللغة العربية في الجامعة الأردنية.وعضو لجان امتحان الكفاية اللغوية للمقبولين بدرجة البكالوريوس في الجامعة الأردنية.
 
كذلك كنت عضواً في لجنة امتحان الكفاية باللغة العربية للطلبة المقبولين في برنامج الدراسات العليا (الماجستير أو الدكتوراة) وعضو محكم بمسابقة بيت المقدس المدرسية. وفي لجنة حوسبة مهارات اللغة العربية. وحوسبة أساسيات اللغة العربية. ومقرر لجنة امتحان التوفل في الجامعة الأردنية ولجان تأليف المناهج المحوسبة لمهارات اللغة العربية وأساسياتها.