Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    16-Jun-2017

القداسات الزائفة، أو سيكولوجية المتدينين - معاذ بني عامر
 
الغد- كإحكام واستكمالٍ لدورة نشوة المُتديِّن بدينه أو بالنصوص الدينية التي شرعنت له وجوده في العالَم، يضغط هذا المُتديِّن باتجاه التأسيس –بوعي أو بدون وعي- لمعادلة: (تقديم حالته السيكولوجية/ تأخير الحالة المعرفية للنص الديني)، بما يجعل الناس رهنا للتقلّبات النفسية للمُتدينين، لا للحالة المعرفية للنصوص الدينية.
نعم، إنّ بعض النصوص الدينية أو الكثير منها بالأحرى، تُشرّع لنفسها –بصفتها ذات حمولة قدسية مبدئية- الحَجْر على أذهان الناس ومسلكياتهم على أرض الواقع، تحت وطأة العقاب الشديد إن لم يكن هُنا والآن، في الزمن والمكان، ففي عالَم آخر، بحيث يبقى المرء مُهدّداً أو تحت رحمة التهديد، بما يجعله يُفكّر بآليات الخلاص من هذه العقوبات، لا بآليات بناء الحضارة الإنسانية. بما يجعل منها، أعني بعض هذه النصوص، نصوصاً ضد الوجود الإنساني بصيغته الزمكانية. لكن الأخطر من هذا -على اعتبار أن مثل هذه النصوص تبقى قابلة للنقد، لا سيما إذا ما تعاظمت مسلكيات المرء المعرفية، واستطاع التحرّر من لبوساته القدسية في التعامل مع هكذا نصوص- هو الحالة النفسية للمُتديِّن الذي يتشرّب مثل هذه النصوص، تشرّباً كاملاً، فيختلط عليه الأمر لاحقاً، لناحية أيهما أكثر قداسة: هو بصفته حاملاً للنصّ الديني وتمثّلاته التي وصلت إليه واعتُبِرَت تجلّياً طاهراً أخيراً لهذا النص. أم النص بصيغته الأولى، قبل أن تطاله أيدي أية جهة ما تسعى إلى احتكاره أو الاستئثار بتفسيره، دون الجهات الأخرى؟.
ولقد حدث تاريخياً، أن تقدّمت الحالة السيكولوجية للمُتديّن على الحالة المعرفية للنصّ الديني، إلى درجة أنّ أي نقد وُجِّهَ إلى النص الديني، ولم ينسجم مع مقتضيات مَنْ يعتبر نفساً حارساً له، قُوُبِل بالرفض، بكلّ تبعات هذا الرفض مادياً ومعنوياً. ولقد تعاظمت هذه المسلكية السيكولوجية بالتقادم، وأخذت بُعداً اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وأيديولوجياً، إلى درجة التصديق –سواء من قبل المُتديِّن نفسه أو من قبل كثير من مُنتقديه- بأن لا فرق بين المُتديِّن والدين، رغم تكرار لازمة: "أنّ الدين شيء والتديِّن شيء آخر"، على كُلّ لسان تقريباً. بل إن الأمر يصل في كثير من الأحيان إلى إلصاق تبعات عدم تجلّي النص الديني في الاجتماع الإنساني بصورته المنشودة إلهياً، أو كما هو في صيغته الأولى على أيدي الرُسل والأنبياء، على الأتباع المُتديّنين، لا على عاتق الدين نفسه. في حين لا يفتأ هذا العقل الفاصل بين الدين والمُتدين، لغاية حماية بكارة الدين المبدئية، أن يجمع بينهما مرة تلو الأخرى، إذا ما تعلّق الأمر بضرورة احترام مشاعر المُتديّنين أو مراعاة ما هم عليه، على اعتبار أن احترام حالتهم النفسية، جزء لا يتجزأ من قداسة الدين، وحضوره المُفْعَم بالرهبة والخشية في الواقع المعيش. بما يُوجد نمطاً عجيباً من المنطق المُهلهل، الذي يجمع بين مقدمتين مختلفتين: 1- براءة الدين من تطبيقات المتدينين. 2- احترام مشاعر المتدينين بصفتها جزءا لا يتجزأ من قداسة الدين؛ لغاية الوصول إلى نتيجة مُضادة للمنطق بشكل كامل، ألا وهي: صحة كل ما ذكر آنفاً!.
وإذا كان لنا أن نطبّق البسط السابق على الحالة الإسلامية، فسنُلاحظ إلى أيّ مدى تجذّرت المعادلة السابقة في أذهان المسلمين وواقعهم. فمن جهة ما تزال تبعات عدم تمثّل الدين الإسلامي تمثّلاً كاملاً كما هو في صيغته التي أرادها الله، هي مشكلة المسلمين، لا مشكلة الإسلام. فالتطبيقات العملية للنصوص الدينية يشوبها ما يشوبها من النقص بشكل مستمر، بما يجعل من الدين في حالة براءة دائمة، في حين أن الدَنَس يصيب المسلمين وحدهم. ومن جهة ثانية، يصير المسلم هو الإسلام والإسلام هو المسلم، إلى درجة استحالة الفصل بينهما. ولو أخذنا شهر رمضان كمثالٍ على ما نحن بصدده، لرأينا حجم الخلط بين مشاعر المسلمين والدين الإسلامي. فـ "عدم الصوم" هو حقّ مشروع –للمسلم قبل غير المسلم- بموجب النص القرآني، سواء أتحدَّث من خارج الدين الإسلامي أم من داخله، أعني هو حقّ مشروع سواء لمن لا يؤمن به أساساً أو لمن آمن به ولا يريد تطبيقه، حتى قبل الوصول إلى آية: (...وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطوَّعَ خَيْرَاً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُم إن كُنتُم تَعْلَمُون) (سورة البقرة/ 184)، التي يُحتجّ بها لتثبيت تخيير المسلم بين الصيام من عدمه، حتى للذين يُطيقون الصيام ويقدرون عليه. فآيتي: 1- (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِم سُرَادِقُهَا...) (سورة الكهف/ 29) و2- (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (سورة الكافرون/ 6)؛ تحدّدان العلاقة مع من لا يريد أن يؤمن بالدين الإسلامي كاملاً، في حين أنَّ آية: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغّيِّ...) (سورة البقرة/ 256)، تحسم الموضوع داخلياً، فمن ولد لأب مسلم وأم مسلمة ولا يريد تطبيق أي شيء من الدين فله الحق بذلك، فحرف الجر (في) يتحدث عن سياق داخلي، لا عن سياق خارجي، وكنت قد شرحت هذه النقطة بالتفصيل في مقالة سابقة عنونتها بـ (إكراهات التدين في العالم الإسلامي).
لكن كيف للمتديّن المسلم أن يُطالب الناس بصوم رمضان، تحت طائلة المسؤولية، من باب احترام مشاعره وعدم المساس بها، فاضطرّ الناس إلى إغلاق المطاعم وعدم الجهر بالإفطار في نهار رمضان، بل ومراقبة مَنْ يُفطر ومن لا يفطر، والدعوة لمعاقبة وتعزير من يمسّ مشاعر المسلمين بسوء في هذا الشهر؛ بل إن الأمر وصل إلى مواد قانونية تُناقض النص القرآني، وتنسجم مع مشاعر المسلمين، تقوم على فكرة معاقبة بالحبس أو بالغرامة لمن يقبض عليه مفطراً في نهارات رمضان؟.
هذا ما يُمكن تصنيفه كنوعٍ من القداسات الزائفة، المُؤسَّسة أصلاً على اندفاعات سيكولوجية تخصّ المُتدينين، لا على تأصيلات معرفية تخصّ الدين، يمكن الدخول معها في جدال فكري، لغاية البحث عن جدواها في واقع الناس، و(رفضها/ قبولها) انسجاماً مع قدرتها على تحقيق مصالح الناس. فتلك الاندفاعات من الشراسة بمكان، إلى درجة يُعوّل عليها المُتديّن لإحكام واستكمال دورة نشوته الدينية، لما تحمله هذه الشراسة من قدرة مبدئية على تجييش الناس وتأليب مشاعرهم ضدّ كل من تُسوّل نفسه مُطاولة هذه الاندفاعات وتفكيك بناها. فذلك الزيف الذي يعيشه المتدين تجاه ما يؤمن ويرى ضروة احترام الناس له، تحت وطأة التهديد، تُحيل فكرة التعايش الاجتماعي إلى فكرة عبثية، نظراً لأنماط القهر التي تفرضها الحالة السيكولوجية للمتديين، وتجعل منها ناموساً يحتكم إليه الناس، طوعاً وكرها. فأن تتحوّل المدن في دولة إسلامية أو ذات طابع إسلامي، إلى مدن أشباح في نهارات رمضان، فالمقاهي والمطاعم والملاهي مُغلقة؛ لمجرد أن المتدين الصائم لا يُريد لمشاعره الدينية أن تنخدش أو أن تنعطب لأنه صائم، فهذا تقديم استلابي لحالة الصائم النفسية، وتأخير إكراهي لحالة الدين المعرفية. رغم كل ما يمكن أن يُقال لتبرير هذه الحالة أو الإمضاء في شرعنتها، فهي حالة –نهاية المطاف- مُضادة للحياة، لأنها تنتصر لأناس بعينهم، لا للإنسان على الإطلاق. وأي إمعان في الطبطبة على هذا النوع من القداسات الزائفة –مِنْ قبل أيّ طرف كان، لغاية الحفاظ على ما هو قائم لأنه يلمس وتراً حساساً عند الناس- سيجعنا ندور في حلقة مُفرغة، لن تقود إلا لمزيد من العصبيات القاتلة، لا إلى الجدالات المُثمرة. فالاحتكام لسيكولوجيا الجماهير، التي قد تتحوّل إلى قنابل موقوتة تُهدّد حياة الناس؛ لا إلى حالات ذهنية قابلة للجدل والنقاش، هو سيد الموقف آنئذ.