Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    15-Aug-2019

اليأسُ.. الكرامة.. والثورة..!* علاء الدين أبو زينة

 الغد-يُروى من أيام الاحتلال البريطاني للهند، أن ضابطا بريطانيا صفع هنديا فقيرا على وجهه، فما كان من الهندي إلا أن ردّ الصفعة للبريطاني بواحدة أشد منها أسقطته. ومن هول المفاجأة، فزع الضابط المرتبك إلى رؤسائه للاسترشاد وطلب الانتقام لشرف الإمبراطورية المهدور. لكن ما زاده دهشة كان طلب رئيسه منه أن يأخذ من الخزينة خمسين ألف روبية، (ثروة في ذلك الوقت) ويذهب إلى المواطن الهندي ليعتذر منه عن الصفعة ويعطيه المال. ولم يفهم الضابط ما يحدث.

قبل الهندي النقود والاعتذار وتحسنت أحواله وأصبح تاجرا كبيرا ونسي الصفعة. لكن الإنجليز لم ينسوا صفعته للإمبراطورية. وهكذا، بعد فترة، استدعى الضابط الكبير مرؤوسه وذكره بالهندي إياه، وطلب منه أن يذهب ويصفع الهندي –الغني الآن- مجدداً أمام حشد من الناس. ولم يفهم الضابط الصغير كيف يمكنه أن يصفع الهندي النافذ ويفلت بفعلته، وهو الذي لم يفلت بها أيام كان الرجل فقيراً ضعيفاً. لكنه أطاع الأمر العسكري.
ذهب الضابط إلى الهندي الغني، بين حرسه وخدمه وزواره، وصفعه بقوة أسقطته أرضاً. ولكن، لم تصدر عن المضروب هذه المرة أي ردة فعل، بل ولم يرفع رأسه أمام الضابط الذي عاد إلى رئيسه مندهشاً. وشرح الرئيس له كيف أن الهندي عندما كان فقيرا، لم يكن لديه ما يخاف عليه غير كرامته، فثار لها. والآن أصبحت لديه أشياء عزيزة أخرى يخاف عليها ويتغاضى عن كرامته من أجلها.
لا أعرف المصدر الأصلي للقصة وما إذا كانت حقيقية، لكنها تصلح لوصف خبرة إنسانية تشاهد على أي مستوى، والتي يدركها ويستخدمها الأقوياء والماكرون –أو يعانون منها- إذا أساءوا ضبط المعادلة.
في “الربيع العربي”، قالوا إن الناس وصلوا إلى حدّ لم يعد لديهم معه ما يخشون خسارته، ولم يعودوا يحتملون الصفعات التي استهدفت بقية كرامتهم. ولذلك، نزلوا إلى الشوارع ليواجهوا احتمالات الاعتقال والموت، أو تحقيق شيء. وفي فلسطين المحتلة، أصبح الشباب العُزّل يهاجمون جنود الاحتلال ومستوطنيه بالأيدي العارية أو السكاكين الصغيرة، في عمليات يائسة محسومة النتيجة سلفا، لأنه لم يعد لديهم ما يخسرونه أيضاً. وفي هذه الأحداث وشبيهاتها، يدفع اليأس وفقدان كل شيء إلى الثورة التي يخشاها كل مستعمر أو مستبد ومتغطرس.
في المقابل، سيكون صاحب الامتيازات الذي يكسب -حتى من وضع غير سويّ- حريصاً على ديمومة الوضع المُربح. وسوف تتغيَّر عنده تعريفات المبادئ والمصالح، والضار والنافع. وامتيازات النُّخب دائما مقتل الثورات وعدوة تطلعات الكثرة، سواء إلى حياة أكثر كرامة، أو حصة في الثروة، أو تحرر من استبداد أو احتلال. وكان ذلك واضحا في “الربيع العربي”، حين لعبت النُّخب الانتهازية لعبة انتظار الكاسب ثم ركبت ظهور المحتجّين للحفاظ على الامتيازات والتمسك بالسلطة. ونشأ لوردات الحرب وتجار الدمار الذين تاجروا بكرامتهم وكرامة شعوبهم.
وفي فلسطين أيضا، اختبر السادة الانتقال من أسرّة المعسكرات الخشنة والعربات العسكرية إلى غرف النوم الفخمة والفلل المترفة والسيارات الفارهة. وعلى الرغم من شدة الصفعات والإهانات المتلاحقة من كل صوب، ترددوا عن الردّ –وكفّوا أيدي غيرهم عنه أيضا، بالصفعات- ببساطة لأنهم أعطوهم ما يخشون فقدانه، ويريدونه بأي كلفة.
ليست قاعدة مطلقة أن المال والجاه يحيّدان الكرامة. فكم من غنيّ غادر جنّته وهزم نرجسيته واختار الوقوف مع الآخرين المحرومين. لكن هؤلاء قليلون، بل وربما يوصفون بالطوباوية أو حتى الجنون. والقاعدة هي أن الإنسان ينتبه أكثر إلى كرامته عندما يجوع ويُضطهد، لأن الجوع ذل وابتذال للكرامة في حدّ ذاته، يفاقمه الاضطهاد النفسي والحسيّ.
من قصة الضابط والهندي، تمكنُ قراء شيء من “صفقة القرن” الترامبية-الكوشنرية في بعدها الاقتصادي المطروح. ربما فكر الإمبرياليون: أعطِ هؤلاء الفلسطينيين المحرومين المال، دعهم يصبحون “تجاراً” وأناساً “مرتاحين” نسبياً، وسوف يفكرون كثيراً قبل أن يرفعوا أيديهم عليك ويردوا لكَ صفعة. أعطهم، ببساطة، أشياء يخافون عليها من الفقدان، وربما يسكتون عن مطالبات قد تجرهم إلى اشتباكات قد تسلبهم “استقرارهم النسبي”!
في الحقيقة، لا كرامة لمحتَّل مستباح، ولا مكسب في سيرك بجيوب مليئة بينما يتنكب ظهرك أحد يديرُك بعصاه. ستكون أنت ومالُك مرهونين لإرادة الذي استعبدك. لكنّ الإنسان كائن محيِّر!