Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Oct-2017

الموهبة والعبقرية: اختراع لا اكتشاف (7 - 11) - حسني عايش
 
الغد- ذكرنا في الحلقة السابقة أن التمرين المتروي المستمر والملتزم وأسلوبه ضرورة لاكتساب المهارة، لكن كيف يُطّوِر التمرين المتروي مهارة الفرد لتبلغ القمة؟ بإيجاز شديد يفيد الباحثون أن عضلاتنا وأدمغتنا تتكيف مع متطلبات التمرين والمهارة المطلوبة. وقد أشرنا إلى ذلك عندما تحدثنا عن شفيق والهاتف وتكسي لندن والسائق... ولما كان الأمر كذلك فإن تلقي دروس من معلم جيد أو عظيم لا يكفي لبلوغ القمة، كما هو حاصل اليوم مع كثير من الآباء والأمهات المتلهفين لإيصال أطفالهم إليها فينقلونهم من معلم أو مدرب إلى آخر في الموسيقى أو الرياضة أو غيرهما. إلا أنهم سرعان ما يخسرون ما تعلموه أو تدربوا عليه بعد توقف الدروس، لأنهم لا يستمرون في التدريب والتمرين لتجاوز مستوياتهم في كل مرة تمهيداً لإتقان المهارة وبلوغ القمة. 
إنني أعرف عن كثير من الآباء والأمهات الذين حملوا أو أرسلوا أطفالهم لتعلّم الموسيقى ساعة أو ثلاث في الاسبوع، وأنهم أعجبوا بسرعة تعلمهم وقيامهم بعزف بعض الألحان مثل لحن النشيد الوطني و"هابي بيرث تو يو"، لكنهم لم يتجاوزوا ذلك المستوى بعد توقفهم عن التمرين، بل فقد كثير منهم المهارة الأولية. كان هؤلاء الأطفال بحاجة إلى مواصلة التمرين الصحيح آلاف الساعات ليصبحوا موسيقيين كباراً، ولكن الأهلين ملّوا والأطفال تعبوا. 
لقد وجد ايركسون فرقاً كبيراً بين اللاعبين للترويح الذين يقصدون إمتاع أنفسهم من آن إلى آخر باللعبة والتمرين، والإنجازيين الذين يُكّرسون أنفسهم له ويلتصقون به ويحسنون آدائهم في كل مرة. 
لكن ماذا عن الذين يتمرنون بانتظام وبهمة، الساعين إلى التفوق ولكنهم مع ذلك لا يتحسنّون بصورة لافتة؟ هل تنقصهم الشرارة الجينية؟ لا. يجيب ايركسون وفريقه من الباحثين: "فبعد مراجعة دقيقة للإدلة المنشورة عن الوراثة عند عظماء الرياضة، فشلنا في الكشف عن دليل قابل للتكرار لأي كبح جيني (باستثناء حجم الجسم) للوصول إلى المستويات العليا. والذين يفشلون في الوصول إليها يضيفون شيئاً في العملية (Proass): في الأسلوب أو في كثافة التمرين، أو التكنيك، أو البنية العقلية، أو الاستجابة إلى الفشل". 
لتصبح عظيماً في شيء ما يتطلب منك الجمع بين الموارد والعقلية والاستراتيجيات والمثابرة والوقت، وهي أدوات متوافرة نظرياً على الأقل لكل إنسان عادي. 
لا يعني أنها متوافرة نفسها والفرصة نفسها عند كل إنسان، وأن أي واحد منا يمكن أن يكون عظيماً في أي شيء، وأنه لا توجد فروق بيولوجية وظرفية بين الناس، لكن تكوين الموهبة عملية (Process)، والفكرة الساذجة عن الموهبة الجينية تسقط وتزول الغشاوة عنها. لم يعد معقولاً ولا مقبولاً نسبة الموهبة/ العبقرية إلى جين معين أو إلى هبة خفية. إن الهبة تنتمي إلى كل واحد منا. إنها الليونة والمرونة والاستجابة الاستثنائية القائمة أصلاً في البيولوجيا الأساسية للإنسان. الهبة الحقيقية هي حصيلة التفاعل الجيني البيئي (GXE : ج × ب). 
وتتطلب فسيولوجية هذه العملية كميات هائلة من الوقت ليس ساعات فقط من التمرين المتبصر كل يوم، بل كل أسبوع ولعدة سنوات كما ذكرنا في حلقة سابقة حسب بحوث اريكسون. 
لقد اندهش فريقه من عدم وجود أي نموذج أو مثال لأي انجاز استثنائي في أي ميدان بأقل من عشرة الاف ساعة من التمرين/ التدريب، وهو ما قضاه موزارت عندما كتب إلى أبيه قائلاً: "لا أحد كرّس مثلي الوقت الكثير والتفكير الطويل للتأليف الموسيقي فسمفونية التاسعة والعشرون جاءت بعد عشر سنوات من الأولى". 
لعله لهذا النقص في التدريب والتمرين والالتزام بهما عند الرياضيين والموسيقيين والفنانين والعلماء... العرب يجعلهم لا يفوزون بميدالية ذهبية في اولمبياد أو مونديال أو إبداع أو اختراع أو اكتشاف عالمي الآفاق والدور، فقبل المشاركة في المناسبة أو قبيلها يبدأون بالتدريب أو التمرين ولبضع ساعات أو أيام أو أسابيع فلا يفوزون بالذهب في منافسة. 
يفوز الكينيون والجمايكون في السباقات الطويلة ويحصلون على أرفع الألقاب لأن الفائزين منهم يقضون أكثر من مئتي ساعة في الأسبوع وهم يمشون ويركضون وراء قطعان الأبقار، فتلتقطهم الإدارة الرياضية ويعتني بهم المدربون ويعدونهم للمشاركة في الألعاب الأولمبية، مما جعل أحد المعلقين يقول: "وفروا لهم دراجات أو باصات يتنقلون بها ليصبحوا معوقين". قديماً قالت العرب: "لا ينفع العليق عند الغارة".