Thursday 18th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    31-Jan-2015

الملك الراحل الحسين بن طلال برع في ممارسة لعبة الشيش وحصل على ميدالية فيكتوريا كوليدج
الراي - منير عتيبة
قد تتعامل مع كتاب داليا عاصم عن كلية فيكتوريا العريقة بالإسكندرية على أنه سجل لفترة مهمة من حياة عدد من العظماء والمشاهير، ، عمر الشريف، أحمد رمزي، منصور حسن، الصادق المهدى، وآخرون أبرزهم الملك الراحل الحسين بن طلال ، طيب الله ثراه.
 يعد الملك حسين من أبرز خريجى مدرسة فيكتوريا على مستوى العالم، وأبرز الخريجين الذين ظلوا على تواصل معها، ووقف بجانبها وعضد من جمعية خريجيها، والذي تجده كثيرا في الكتاب على ألسنة خريجى كلية فيكتوريا الذين يفخرون بأنه زاملهم، ويذكرون له عشرات المواقف الطيبة، وحيث «لا يزال تخت الملك وفصله والسرير الذي كان ينام عليه مزارا للأردنيين الذين يزورون الإسكندرية».
 وقد تتعامل مع الكتاب على أنه مشروع تأريخ لمدينة ذات صبغة عالمية، أو قصة طريقة في التربية والتعليم أثمرت ثمرا يانعا، أو مادة مهمة لعمل روائى كبير، لكن يظل الكتاب مهما لأنه يعطي كل قارئ مدخله الشخصي إليه، وهنا أدخل بكم إليه من مدخلى الخاص.
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي كنت طالبا بمدرسة جمال عبد الناصر الثانوية العسكرية بمنطقة فيكتوريا بالإسكندرية. عندما التحقت بالمدرسة طالبا بالسنة الأولى، قادما من قرية خورشيد القابعة على أطراف الإسكندرية والتي يتكون معظم سكانها من فلاحين وعمال وموظفين صغار، كنت أشعر بالخوف من مواجهة عالم المدينة، لكنني مع الوقت وجدت أن هذا العالم هش جدا، ولا يحتاج سوى أن تفهم حقيقته، وتواجهه، لتقضي على خوفك منه، لم يكن لمدرسة جمال عبد الناصر من اسمها كمدرسة عسكرية سوى أطلال ذكريات، طابور الصباح يقوده قائد عسكرى برتبة عميد جيش، حصة التربية العسكرية التي (يزوغ) معظم الطلاب منها، والتي يحضرها بعض الطلاب وأنا منهم لنسمع ذكريات الضابط السابق بالجيش عن حروبنا مع إسرائيل وبالذات حرب أكتوبر، وعدم اعترافه بالسلام المزعوم معها، ثم يعلمنا كيف نمسك بالبندقية، وكنا نسخر فيما بيننا من (منتصف فتحة الناشنكاه) و(سن نملة الدبانة)، لم تكن تلك الفترة هي بداية الانحلال في المدارس، فقد بدأ منذ مدة كبيرة، لكنها الفترة التي بدأ يظهر فيها بشكل واضح.
كنت ألاحظ جيراننا في المدرسة المجاورة التي لا يفصلنا عنها سوى سور واحد وعشرات الحواجز الاجتماعية؛ مدرسة فيكتوريا كوليدج، أو كلية فيكتوريا، شكل الطلاب مختلف عن طلاب مدرستنا، هم من يطلق عليهم المصريون «أولاد الناس» مقابل «أولاد الناس الغلابة»، وزيهم أكثر جمالا، ومحظوظون لأن مدرستهم مشتركة فهم يزاملون بنات في منتهي الشياكة والجمال والرقة، وللمدرسة أتوبيسات خاصة مقابل أتوبيسات النقل العام/جهنم الصغرى التي نقضي فيها جزءا لا يستهان به من حياتنا.
كانت هناك عداوة تقليدية بين المدرستين، لعل أحدا من الطلاب أو المدرسين أو الإداريين في المدرستين لم يكن يعلم ما ذكرته داليا عاصم في كتابها (كلية فيكتوريا صناعة الملوك والأمراء والمشاهير) الصادر عن جداول للنشر والترجمة والتوزيع ببيروت سنة2014، حيث ذكرت أن مدرسة جمال عبد الناصر هي أصلا أحد ملاعب كرة القدم القانونية الملحقة بكلية فيكتوريا منذ إنشائها، حيث تم فصله عن مدرسته الأم لإنشاء المدرسة الحديثة (تكرر هذا كثيرا بصور مختلفة كأن يتم رفع لافتة من على مستشفي لتوضع لافتة باسم جديد ويكون هذا هو الإنجاز!) .
لكن العداوة التقليدية بين المدرستين كانت طبقية أكثر منها أي شيء آخر، وكانت كلية فيكتوريا أيضا في مرحلة تدهور مقارنة بتاريخها الذي عرضته داليا عاصم في كتابها بشكل توثيقى تاريخى، ومن خلال حوارات مع خريجيها وتلامذتها، وبأسلوب عرض شائق معتمدة على لغة أدبية راقية، كانت كلية فيكتوريا هي المدرسة العسكرية حقا، بنيت على نمط المدارس الخاصة الإنجليزية لتكون مصنعا للرجال والقادة في مصر والعالم، خرج منها المشاهير في مجالات عديدة، وعدد لا بأس به من الملوك والأمراء، كانت حياة الطلبة بها تشبه الحياة في ثكنة عسكرية شعارها الأسمى الالتزام والانضباط، الطالب غير الملتزم بالزى الرسمى للكلية أو الذي يدخن أو من يأتى سلوكا معيبا حتى في الشارع وحتى لو لم يكن يرتدى زي الكلية يتعرض للفصل مهما كانت مكانة أسرته، فجميع الطلاب من أسر كبيرة وغنية وذات مكانة في بلدانها.
وتشير كذلك إلى ما يلقاه الطلاب من عقاب ككتابة جملة مائة مرة، والضرب على الأيدى أو المؤخرة، لكنني رأيت طلابا كثيرين من كلية فيكتوريا يلقون بالحقيبة في الشارع ويتعاركون مع بعضهم من أجل ما لا أدرى، ورأيتهم يخلعون ربطات العنق ويلقون بها على رقابهم، ورأيتهم يضحكون مع زميلاتهم في الشارع بشكل غير لائق، ورأيتهم يلعبون مع بعضهم في الشارع فيعبر أحدهم الطريق فجأة أمام سيارة قادمة حتى لا يمسكه زميله، ورأيتهم يتعاركون مع طلاب مدرسة جمال عبد الناصر غالبا لتحرش طلاب جمال بهم، إما لمعاكسة إحدى الفتيات، أو لمجرد إحساس طلاب جمال أنهم قادرون على هزيمة هؤلاء الأولاد «الفرافير» المرفهين الذين ولدوا وفي أفواههم الملاعق الذهبية، ولم تكن النتائج دائما في صالح طلاب جمال، فلم يكن طلاب فيكتوريا ضعفاء دائما، فهم حصلوا على تغذية جيدة، ويلعبون رياضات مختلفة، لكن مستواهم التعليمي لم يكن الأفضل كما كان في القديم.
 ما يذكره الكتاب عن نظام تربية العقول لتكون أكثر قدرة على التحصيل والمعرفة والتفاعل مع العالم لم أره في الاحتكاك الوحيد المباشر بينى وبين طلاب فيكتوريا، كنت في الصف الثالث الثانوى واحدا من فريق أوائل الطلبة أدبى الذي سيواجه أوائل طلبة فيكتوريا، فزنا عليهم في جميع المواد ما عدا اللغة الإنجليزية، وهي المادة الوحيدة التي كنا نسلم لهم بهزيمتنا فيها حتى من قبل أن تبدأ المسابقة لأنهم يتعلمونها منذ يبدأون تعلم الكلام، ويعيشون في بيوت تتحدثها، ونحن يعلمها لنا من لا يجيد حتى نطقها.
تحرص داليا عاصم على الموضوعية الرصينة، فهي لا تتغنى بمجد قديم زائل لمدرسة عريقة، ولكنها تصف وتحلل وتقارن، مدرسة أقيمت بهدف أساسى هو تعليم النخب لتكون إنجليزية الثقافة، لتخلق طبقة وطنية ذات انتماء لكل ما هو إنجليزى، وبالتالي تكون لسان حال الإمبريالية البريطانية لدى شعوبها، وهو ما يجعل هذه الطبقة كمن رقص على السلم فأبناء الوطن يعتبرونهم غرباء، والإنجليز يعتبرونهم مجرد شرقيين، لكن واقع الحال أن نظام التعليم نفسه يخلق الكثير من الرجال الذين يحققون هذا الغرض، ويخلق الكثيرين غيرهم الذين يستفيدون منه ليكونوا ضد الإمبريالية.
وعندما تشير الكاتبة أكثر من مرة إلى تدهور الانضباط والالتزام في المدرسة بعد تأميمها وتمصيرها، تشير أيضا إلى الطابع الأممى الذي كانت تمثله المدرسة بما فيها من ديانات مختلفة وجنسيات مختلفة، وهو ما كانت عليه الإسكندرية وقتها، وهو أيضا ما يخلق عقولا قادرة على الانفتاح على الآخر والتعايش معه، مقابل التقوقع في دائرة المتشابه وما نعرفه فقط، وهو ما يؤدى إلى رفض الآخر المختلف فكريا أو دينيا أو سياسيا أو حتى رياضيا كما نرى الآن.
لكنها لا تغفل أيضا أن كلية فيكتوريا اتهمت بأنها قلعة بريطانية استخباراتية خصوصا أن أحد أهم مدرائها «ريد» كان أحد رجال بريطانيا العظمى وأنها كانت معسكرا للجيش الإنجليزى أثناء الحروب العالمية في القرن الماضي.
عندما انتهيت من قراءة هذا الكتاب الممتع لم تكن برأسى سوى فكرة واحدة، كانت كلية فيكتوريا عالما آخر خارج الوطن، عندما استعدناها إلى مصر لماذا لم يكن هذا في صالحها بتخليصها من الانتماء البريطانى لتكون أكثر وطنية، ولماذا لم يكن هذا في صالح مصر بالاستفادة مما بنيت عليه من انضباط والتزام ومساواة في التعامل بين الجميع، وبنظامها في التعليم الشامل الذي يبنى العقل والجسم والشخصية ويخلق القادة، لماذا كانت النتيجة في غير صالح الجميع ليس في فيكتوريا فقط بل تقريبا في «كل» شئ؟!
 
 الملك حسين
درس الملك حسين بن طلال لمدة عامين فقط بفيكتوريا كوليدج (1949- 1950) انتقل بعدها إلى لندن كلية «سانت هيرست» العسكرية، ورغم ذلك ارتبط بها جدا وظل يحبها ويزورها حتى بعد أن أصبح ملكا ولم ينهيه ذلك عن لقاء أصدقاء الدراسة وطلاب فيكتوريا من الأجيال المختلفة. وكان الملك حسين لا يعتبر فيكتوريا مجرد مدرسة ولكنه كان يعتبرها بيته العزيز القريب لقلبه، وكان من حديثه عنها» فيكتوريا بالنسبة لي لم تكن مجرد مبنى جميل عتيق، ولا ملاعب خضراء، وهي ليست تعليما على أعلى مستوى ومعلمين متميزين..وإنما كانت كل ذلك».
كان الملك حسين قد برع في ممارسة لعبة الشيش»، وكان قد حصل على ميدالية من فيكتوريا كوليدج، وكان ذلك مدعاة فخر لجده الملك . وله صورة شهيرة تجمعه مع فريق الشيش في الكلية ويظهر معه الصادق المهدي .
وظل الملك حسين في كل زيارته للمدرسة في الإسكندرية يحضر معه ملابسه الرياضية ولا يفوت زيارة إلا وكان يمارس الرياضة مع زملاء الطفولة ويلعب معهم كرة القدم والكريكيت رافضا أي حراسة أو تأمين معتبرا نفسه وسط أهله . وكان دائما ما يجيب أصدقاءه الأكبر سنا منه كما كان في أيام الطفولة» Yes sir».
 
عقاب الملك
كانت المدرسة لا تفرق في العقاب بين ذوي الدماء الملكية وغيرهم لذا حينما أخطأ الملك حسين وخالف قوانين الكلية بتحدث اللغة العربية في فناء المدرسة طلب المدير من قائد الفصل أن يعاقبه وبالفعل نفذ الملك الصغير العقاب وقام بجمع الأوراق المتطايرة في فناء المدرسة وتنظيفه منها تماما، ولم يبد الملك اعتراضا أو ضيقا بل نفذ الأمر كما طلب منه!!.
وكان من شدة حبه لكلية فيكتوريا وحزنه على حالها بعد التأميم، قام بزيارة خاصة للرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في قصر رأس التين الملكي بالإسكندرية مع وفد ملكي أردني من خريجي الكلية أيضا لكي يطلب منه شراءها من الحكومة المصرية لكي يعتني بها، لكن مبارك رفض طلبه . فكان رد فعل الملك حسين أنه قرر تأسيس كلية هي توأم فيكتوريا كوليدج الإسكندرية في بلدة « تلاع العلي» بالأردن بنفس القوانين والزي المدرسي، وكان يدعي إليها جميع زملائه في الدراسة من الإسكندرية لإحياء ذكريات أيام الدراسة.
 
الملك حسين وحب مصر وكامب ديفيد
وكانت علاقة الدراسة مع السياسي الراحل منصور حسن الذي كان الملك حسين زميلا له في الفصل وفي القسم الداخلي هي السبب في إعادة العلاقات مع الدول العربية وبدأت بالأردن حيث أعادت العلاقة مع مصر بعد قطيعة مؤتمر كامب ديفيد وكانت الأردن أول دولة تعيد العلاقات معنا، ولعب الملك دورا في لم شمل العرب مرة أخرى.
 
حفل تأبين الملك
 « يوم بكت فيكتوريا كوليدج»
دمعت العيون وحزنت القلوب لفراق الملك الذي شهدت الكلية ضحكاته وصيحاته مع زملائه ، وقررت جمعية الخريجين والكلية عمل حفل تأبين له بها حضره كبار الشخصيات العربية والعالمية.ويتذكر هنا الأستاذ إلهامي ، نائب مدير الكلية سابقا، قائلاً» في هذا اليوم تعطلت الشوارع وعينت حراسات فوق الأسطح المجاورة والمطلة على المدرسة ، وحضر الأمير رعد بن زيد وزيد الرفاعي اللذان كانا رفقاء درب ورحلة حياة الملك حسين، وكان يوم ذكرى أربعين الملك حسين حزين لا يمكن نسيانه « ولا يزال تخت الملك وفصله والسرير الذي كان ينام عليه مزارا للأردنيين الذين يزورون الإسكندرية.
 
 الحارس النوبي
 صاحب أشهر صورة مع الملك حسين
لم نعتد في عالمنا العربي أن نرى الملوك مع عامة الشعب فما بالك بحارس في مدرسة!! من بين آلاف الصور التذكارية التي تحتفظ بها جمعية خريجي فيكتوريا كوليدج بالإسكندرية صورة بآلاف الكلمات والمعاني استوقفتني كثيرا وبُهت حينما رأيتها صورة يظهر فيها جلالة الملك حسين وهو يحتضن شخصا رث الثياب بقوة وتبدو على ملامح وجهه فرحة اللقاء التي تغمرنا حينما نرتمي في أحضان شخص عزيز علينا بعد فراق طويل .. بطل تلك الصورة هو عم حسن أبو خبير ، نوبي الأصل، وكان مهمته حراسة القسم الداخلي الذي يضم طلاباً من مختلف الجنسيات، وكان معروفا بصوته العذب كان مقربا جدا إليهم يشكون له ويتسامرون معه طوال الليل يتحدون ظلمته ويغالبون لوعة البعد عن كنف الأهل والوطن .
في عام 1996 كتب عم حسن وهو في عمر 75 عاما عن ذكرياته مع طلاب الكلية الذين أصبحوا فيما بعد ملوكا وعظماء « لقد كانت أياماً كنت أنا فيها المؤدي وكانوا هم « الجوقة» لقد كنت أتمتع بصوت نوبي عذب، وكانوا يملكون مغريات الانغماس في الآداء بعيدا عن المشرفين الإنجليز.. لقد كنت أتغنى وكانوا معي في ترديد الآداء وحراسة المكان ..نسهر معا وخصوصا في أيام السبت من كل اسبوع حتى خيوط الفجر.. يربط الجميع الحب والتواضع والشقاوة!!.
ويستطرد « كان الملك حسين من محبي قراءة الكتب ذات التجليد الفاخر، والحجم الضخم، لم أكن أدري ماذا تحمل ولكن من « شكلها» تقول أنها ذات أهمية.. وكان يشاركه في ذلك الأمير فيصل، والصادق المهدي وزيد بن شاكر، ومنصور حسن، وكانت صلاة الجمعة تجمعهم في خشوع جميل رغم حداثة سنهم».
 
روائي وناقد مصري ، المشرف على مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية.
صورة
صورة
صورة
صورة