رواية مريم... ذاكرة وطن وحكاية أمل
الدستور-د. عماد الضمور
إنّ التأمل في عنوان رواية «مريم» للكاتبة حكمت العزة يكشف رسوخ التجربة الحياتية في إبداعها، وبالتالي فإن اسم «مريم» يفرض إيقاعه الوجداني وبوحه الخفي... مريم الأم، والوطن. مريم سرديّة فلسطينية مقاومة، تتشبث بالأرض، وتتمسك بالحلم، مريم جذر الحكاية، ومنطلق الأمل، هي مفتتح السرد، ومنتهى الدمع النبيل، منحت الرواية روحًا جديدة ووعدًا صادقًا برسوخ الوطن المقدس، وأكسبت السرد تضاريس واضحة تتكشف من خلاله خصوصية الفكرة ودلالتها العميقة.
لعلّ العنوان مكون بنائي أكثر ارتباطاً بالفن من أيّ عتبة أخرى، بل هو العتبة الفاصلة بين الكتابة واللاكتابة، والجسر الواصل بين الواقع، والخيال، إذ يُحيل العنوان في النهاية إلى المعنى المكبوت في نفس المبدع، وإلى ما سطرته مخيلته من طقوس وجدانية.
يخضع اختيار العنوان لنسق تعبيري، يسعى من خلاله إلى استقصاء دلالات الشحن التأثيري الذي يُصيب النص، لتحصل عدوى المشاعر، ولو بكثافة متفاوتة، مما يجعل من هذه العناوين أداة تصويرية، أوعاطفية، تنبض برؤيا النص الشعري، وانفعالات مبدعه.
ومن الناحية البلاغيّة جاء العنوان مقتضبًّا دالًا موجزًا لأقصى اقتصاد لغوي ممكن؛ ليتعانق بذلك مع الغاية التي يتوخاها العنوان في عمق الدلالة وبلاغة الأثر الفني، وتحقيق التماسك النصيّ من خلال سارد واحد للأحداث، وفكرة شموليّة تسيطر على الرواية.
مريم ذاتٌ ساردة للنص، وذات ممثلة لشخصيات الرواية. كم أحببنا هذا الاسم بموروثه الديني المقدس، وهالته الجمالية ذات المنحى العميق في التأثير، والسطوة على الآخر، توفر قاعدة سردية خصبة تثري الخيال، وتشرك القارئ في العملية الإبداعية كالمبدع تماماً، وهذا يجعل صورة السارد ليست وحيدة في النص بل تصحبها منذ البداية صورة القارئ الذي يتلقى النص، فكلما أخذت صورة السارد تتضح بدقة أخذت صورة القارئ تكتسب معالمها من خلال تتبع مواطن السرد، وقوة التحولات في النص.
مريم شخصية مركزية في الرواية أسهمت بتوالد الحكاية، وانبعاثها في شخوص الرواية، لأننا نقرأ فنًا، وليس وثيقة تاريخية. هي شخصية الرواية المركزية ومبعث السرد فيها، وبؤرة ذات تمركّز نصي، تنبعث منها الحكايات، وترتد إليها الشخوص، وهذا لم يتأتَ لها إلا لأنها أكثر قدرةً على السرد بعدما توغلت في الأمكنة بكلّ شخصياتها وتفاصيلها .لذلك فإن مريم تمنح الهوية الفلسطينية طابعَ الثبات والاستمرار في الأجيال اللاحقة.
تعدّ المعاناة الفلسطينية ملهمةً لكثير من الأعمال الإبداعية؛ لما لها من تأثير عميق في الذاكرة والفكر البشري، أنتجت شعراً ومسرحاً ورواية وقصصاً وسينما وفناً تشكيليّاً خالداً، وروحاً وحياة. إذ تأتي رواية « مريم» لحكمت العزة في هذا السياق تُعرّف بمناضلين من مدينة الخليل . وثورات مختلفة ضد محتلّ متغطرس بدءًا بالثورات ضد العثمانيين ومرورًا بالانجليز وانتهاءً باليهود.
الهوية والذاكرة والهجرة والصراع الحضاري كلها مفردات باتت حاضرة في الرواية بوصفها مفاتيح نصيّة ومتواليات سرديّة مهمة رفدت البناء الروائي بالأفكار والرؤى والأحلام، فلولا الهجرة لما ظهر صراع الشخوص، لتبقى الذكريات تطاردها، ويبقى الحنين إلى وطن الأجداد هو الفكرة الرئيسة المسيطرة على الكاتبة.
تقوم مريم بوظيفتها الحكائية في الرواية إضافة لمحمولاتها الشعبية وقوتها التراثية؛ فهي صانعة جيل، وباعثة أمل، روح ساكنة في أعماق المكان، وثورة وجدانية لا تهدأ. قديسة من أرض كنعان رسمت الكاتبة لمريم ملامح شعبية تنتمي بكل مكوناتها الفكرية والسلوكية إلى البيئة الفلسطينية، حيث القيم الشعبية التي تتبلور على شكل أغانٍ، وأمثال، ومرويات تراثية. بيوت تسكنها البركة والقناعة، لذلك تتمتع بالسعادة، وتشعر بقيمة الإنجاز. نقرأ عن الثوب الشعبي الخليلي المطرز الذي يختلف عن ثوب نابلس أو رام الله. ونستذكر من خلال الرواية طفولة ساكنة فينا وذكريات لا تفارقنا وألعابًا شعبية لا تُنسى كالحجلة، والقلول، وسيارة الأسلاك المعدنية.
لقد توافرت في الرواية تقنيات كتابة السيرة الذاتية والحبكة المفككة أو الحبكة التي تُكتب بأسلوب المذكرات، والسرد، والشخوص، والزمان، والمكان كلها عناصر واضحة في الرواية فضلاً عن وضوح المنظور السرديّ وخفوت حضور الخيال الذي أحال الرواية سرد مؤطر بشخصية مريم المركزية، مع غلبة لتقنية السرد وأسلوب الوصف للشخوص والأمكنة.ومما يلاحظ توظيف الكاتبة للشعر في روايتها، وهو توظيف جميل رشيق حمل انفعالاتها وجسّد عاطفتها نحو مدينة الخليل ووالدها صاحب التجربة السياسية بمخاضاتها العسيرة، ومعاناتها المستمرة.
وأمّا المكان سواء أكان مشهداً وصفياً أم مجرد إطار للحدث فيدخل في صلات وثيقة مع باقي المكونات المكانية في النص الإبداعي، كما يدخل في نسيج النص من خلال حركة السارد في المكان. حيث يتشظى المكان الفلسطيني في الرواية مكونًا أيقونات بصرية وروحيّة : القدس، أريحا، الخليل، فضلا عن عواصم عربية: عمّان، ودمشق.حيث ظهرت هذه المدن محملّة بطابعها الروحي، وهويتها العربية الإسلامية. نقرأ عن النمط المعماري لبيوت الخليل، ومهارة صناعها وبخاصة صناعة الزجاج، وكثير من الحرف اليدوية.
نعانق تاريخ مدينة الخليل في الرواية وندخل حاراتها، وأزقتها العابقة بالحضارة، فندهش لجمال حارة الشيخ، وحارة القزازين، وحارة السواكنة، ونتجول في أزقتها وأسواقها الرحبة، وهذا جعل المتلقي يلامس جوانب مهمة من سيرة مدينة الخليل المكان والإنسان.
طابع المدينة الديني حاضر في الرواية، حيث الحرم الإبراهيمي وقداسة المكان فضلا عن ثقافة الموالد، ومشاركة الأهل والجيران، وما يُنشد فيها من أناشيد. لذلك تبقى رواية مريم سرديّة الأرض والإنسان الفلسطيني في نضاله ومعاناته، ونصره القريب.
تبقى مريم هي فلسطين.. وكما تقول حكمت العزة في نهاية سرديتها الوطنية: «ليست القبور إلا مادةً فانية، وتبقى كلُّ المعاني الخالدة!
الأشواق مَنْ يطفيها!
والأرواحُ من يُفنيها!
وفلسطينُ من يمحوها
من الذاكرة الحية!
ومريمُ من لا يعرفُ
أنّها قديسةٌ من أرض كنعان!!!» وتبقى فلسطين حكاية خالدة وحبّاً لا ينتهي.