أولترا بال-
مالك نبيل
صحفي فلسطيني
تثير البيانات الصادرة عن الرئاسة الفلسطينية، والتي تحمل أخبار تعيين السفراء والدبلوماسيين بالسلك الدبلوماسي الفلسطيني، تساؤلات بشأن علاقة منظمة التحرير الفلسطينية، بالسلطة الفلسطينية، كونها تصدر عن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، المتزعّم للكيانين المذكورين. ويدور التساؤل حول صلاحية كلّ كيان في النظام السياسي، وكيف تتحكم به القيادة السياسية، بحيث تسنّ التشريعات، وتلغى دوائر في المنظمة، وتُخفى قرارات سياسية وتقارير مالية، وتتداخل مهام ومسؤوليات وظيفية، دون وجود رقابة تحقق الحدّ الأدنى من مبادئ النزاهة وفق المعايير القانونية أو الاعتبارات الوطنية.
ولا ينفصل الحديث حول السلك الدبلوماسي عن الصندوق القومي، الذي انتقل من كونه وزارة مالية للمنظمة، ليصبح مجرّد بندٍ في الموازنة العامة لوزارة المالية بالحكومة. وذات الأمر ينطبق على الدائرة السياسية التي يقول مديرها العام سابقًا، أنور عبد الهادي، في حديث مع "الترا فلسطين"، إنها كانت تُعدّ بمثابة "وزارة خارجية دولة فلسطين" وكانت تشرف على جميع مكاتب السفارات التابعة للمنظمة في أرجاء دول العالم.
بين السلطة والمنظمة ومن الدائرة السياسية إلى وزارة الخارجية.. تضارب الصلاحيات وغياب الشفافية يثير أسئلة عن إدارة السفارات الفلسطينية حول العالم
لكنّ المعطيات الواقعية تشير اليوم إلى غياب كلّي للدائرة السياسية عن المشهد الدبلوماسي، في حين تراجع دور الصندوق القومي، بحيث أصبح دوره مبهمًا، وتدور حوله تساؤلات بلا أجوبة، عن مصادر تمويله وآلية صرفها، والصلاحيات التي يتمتّع بها.
يعود السبب في ذلك إلى عوامل كثيرة، أبرزها انصهار مؤسسات المنظمة بما كانت تشمله من دوائر قضائية وتشريعية ودبلوماسية، في مؤسسات السلطة الفلسطينية، وبقاء نفوذ رئاسة الكيانين تحت إدارة شخص واحد. ما أدى إلى إلغاء دوائر، واستحداث أخرى، واستخدام ما تبقّى منها لتمرير قرارات تخالف القانون الأساسي أو الميثاق الوطني الفلسطيني للمنظمة، كما يقول خبراء.
كما يعود ذلك إلى أن شخصًا واحدًا، أي الرئيس الفلسطيني محمود عباس، يرأس ثلاثًا أو أربع كيانات في الوقت ذاته، هي: المنظمة، والسلطة و/أو الدولة، وحركة فتح. وقد ماهى ذلك بين رئاسة هذه الكيانات؛ إذ أصدر الرئيس عدة تشريعات وقرارات تعقّد العلاقة بين هذه الكيانات وتماهيها، ومرّر من خلالها تعيينات دبلوماسية "استرضائية"، كما يقول المستشار القانوني والمختص بالقانون الدستوري، رشاد توام، في حديث مع "الترا فلسطين".
الدائرة السياسية: قصة موت
تأتي هذه التعيينات نتيجة غياب معايير المساءلة والنزاهة في العمل الدبلوماسي، الذي كان قبل توقيع اتفاقية أوسلو التي أفرزت السلطة عام 1994، يخضع لإشراف الدائرة السياسية للمنظمة بشكل أساسي إلى جانب الصندوق القومي ورقابته كونه الجهة الممولة. غير أنّ نشوء وزارة التخطيط والتعاون الدولي، ثمّ وزارة الخارجية بعد أوسلو، قلّص من حضور الدائرة السياسية. ويصف أنور عبد الهادي دور الدائرة في ذلك الحين بأنه "مساند للخارجية".
مرّت الدائرة السياسية بمراحل عدة بين التغييب والإقصاء والإلغاء، وبين التوظيف كعصا لمواجهة الخصوم، حيث غاب دورها في التمثيل السياسي بعد اتفاق أوسلو، إلى أن استُخدمت كأداة عقب فوز حماس في انتخابات 2006، عندما أعاد الرئيس محمود عباس تفعيل دورها في التمثيل الدبلوماسي على حساب وزارة الخارجية تحت إدارة الحكومة العاشرة، التي شكلتها حركة حماس. ويشهد على ذلك مؤتمر دول عدم الانحياز في ماليزيا بتاريخ 29 أيار/مايو 2006، حين انسحب وزير الخارجية الأسبق محمود الزهار، بعد أن رفض فاروق القدومي، رئيس الدائرة السياسية آنذاك، أن يلقي الزهار كلمة فلسطين، مؤكّدًا أن الزهار مجرد عضو في الحكومة، وأنه (أي القدومي) ممثّل خارجية دولة فلسطين.
غير أنّ القدومي ذاته صرّح في كانون الأول/ديسمبر من ذات العام بأن الرئيس عباس "يعبث بالحياة السياسية"؛ لأنه ألغى الدائرة السياسية وأغلق مكاتبها في العاصمة الأردنية عمّان. وأوضح حينها السفير الفلسطيني في عمّان، عطاالله خيري، بتصريحات صحفية أن "مكتب الدائرة السياسية موجود في تونس وأن وجود مكتب آخر للدائرة في مقر السفارة بعمان يتسبب في ازدواجية وتضارب في منهج العمل وأن قرار الإغلاق يهدف أيضًا إلى توفير النفقات". مشيرًا إلى أنّ مكتب الدائرة السياسية كان يضم أربعة موظفين وقد تمّ تخييرهم بين البقاء ضمن كادر السفارة أو السفر إلى تونس.
وقتها، جاءت هذه التصريحات على خلفية خلافٍ بين القدومي والرئيس عباس. ورغم تصريح القدومي حينها بأن إغلاق المكاتب يعني "إغلاق الدائرة" إلا أنها لم تُغلق فعليًا في ظل وجود خلاف عباس والقدومي، خلال عامي 2006–2010، وخلال الفترة المذكورة مرّت الدائرة بمرحلة تغييب وحظرٍ من المخصصات المالية الممنوحة لها. إلا أنّ التصريحات السابقة تشير إلى أرضية لوجود "تضارب في تبعية العمل الدبلوماسي بين السلطة والمنظمة، وإلى عدم وجود حاجة لأحد الطرفين".
ويوضح رشاد توام أن الدائرة السياسية قبل قيام السلطة كانت تصل معاملتها دوليًا إلى مستوى وزارة خارجية، لكن الرئيس عباس استحوذ عليها رغم كونها أهم دائرة في المنظمة إلى جانب الصندوق القومي، وقبل ذلك كان الرئيس عباس يستنجد بالدائرة السياسية متى احتاجها كما حصل بعد فوز حماس في 2006، ويحجّم من دورها حين يريد وتجلّى ذلك منذ عام 2009.
وتبيّن عضوة المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، فيحاء عبد الهادي، في حديث مع "الترا فلسطين"، أنه خلال جلسة المجلس الوطني عام 2018 لم تُذكر الدائرة السياسية في تشكيلات وتعيينات دوائر المنظمة، معتبرة أن ذلك يحتاج إلى تفسير لم يُقدَّم حتى الآن، ما يعني عمليًا أن الرئيس ألغى الدائرة حينها. وتضيف: "خلال جلسات المجلس المركزي المتعاقبة منذ 7 سنوات (عددها 6) لم يُذكر أيّ شيء عن الدائرة السياسية، ولم تُقدَّم تقارير صادرة عنها خلال هذه الجلسات".
لكن مدير عام الدائرة سابقًا أنور عبد الهادي، كشف لـ"الترا فلسطين" أن الرئيس عباس ألغى الدائرة السياسية عام 2022، بعد أن كانت تخضع لإشرافه المباشر بين 2018 و2022، ثم جرى دمج العاملين فيها ضمن دائرة الشؤون العربية والبرلمانية التي يرأسها عضو مركزية فتح وأمين سر تنفيذية منظمة التحرير، عزام الأحمد، وانتقل أنور عبد الهادي من إدارة الدائرة السياسية ليصبح مديرًا عامًا لدائرة العلاقات العربية.
وبذلك، "أُلغيت الدائرة السياسية لأسباب شخصية وخلافية بين محمود عباس وفاروق القدومي، إذ أراد الرئيس التخلّص من القدومي فألغى الدائرة وأي دور لها في المنظمة"، بحسب وزيرة الخارجية الأسبق ناصر القدوة، مشيرًا في حديث مع "الترا فلسطين" إلى أن الدائرة السياسية قبل عام 2005 كانت تشرف على العمل الدبلوماسي، و"كان فاروق القدومي يصول ويجول ويمثّل فلسطين في مختلف دول العالم والأمم المتحدة".
الراحل فاروق القدومي والرئيس الفلسطيني محمود عباس
الراحل فاروق القدومي والرئيس الفلسطيني محمود عباس
الصندوق القومي: دور الأب والابن
السردية حول تدهور حال الدائرة السياسية الملغاة بشكل غير معلن تفتح الباب أمام ملف تراجع دور الصندوق القومي، الذي لم يُلغَ كما الدائرة السياسية، رغم أن الدائرة والصندوق يُعدّان من أبرز مؤسسات المنظمة. ويقرّ رئيس الصندوق القومي رمزي خوري في حديث لمجلة "شؤون فلسطينية" بتاريخ 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 بأن "الصندوق القومي من بين المؤسسات الأكثر تأثّرًا بتراجع دور منظمة التحرير كإطار مرجعي أعلى للشعب الفلسطيني، لصالح السلطة الناشئة المسؤولة عن إدارة حياة الجزء المقيم منه فقط داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967".
وبحسب خوري، أدى ذلك إلى الحدّ من قدرة الصندوق على ممارسة دوره كإطار مالي مرجعي أعلى، والنهوض بمسؤولياته الإشرافية والتخطيطية والتنظيمية والرقابية والإدارية، فاختُزل دوره إلى تنفيذ سياسات وقرارات وزارة المالية التي تولّت مسؤولية الإنفاق المباشر على السفارات والبعثات الدبلوماسية.
وبما أن الصندوق القومي تحوّل من ذراع تمويلي ورقابي إلى مؤسسة تعتمد على دعم محدود ضمن موازنة محددة، يطرح ذلك تساؤلات حول دوافع بقائه، ودوره في إدارة العمل الدبلوماسي، وصلاحياته مقارنة بوزارة الخارجية التي حصلت على صلاحيات أوسع بموجب قانون السلك الدبلوماسي لعام 2005، إضافة إلى وضع الصندوق من الناحية الرقابية باعتباره جهة تمويل تتلقى التمويل في الوقت نفسه.
ويقول السفير السابق، ورئيس دائرة أميركا اللاتينية في مفوّضية العلاقات الدولية لحركة فتح سابقًا، محمد عودة، في حديث مع "الترا فلسطين"، إن الحالة الفلسطينية استثنائية في شكل النظام السياسي، لأن "نصف شعبنا الفلسطيني بالخارج، ولا تمثّله السلطة داخل الأراضي الفلسطينية، بل تمثّله المنظمة، وهؤلاء لم ينتخبوا رئيس الدولة أو السلطة أو الحكومة، وبالتالي من يمثلهم اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. ولهذا بقي دور الصندوق القومي، باعتباره جزءًا من منظمة التحرير، وحُفظ دوره في متابعة السفارات والعمل الدبلوماسي والتمثيل أمام الدول".
ويعتبر عودة أنه "يجب المحافظة على رمزية الصندوق القومي لأنه يمثل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني". لافتًا إلى أن البعض يخلط الأمور، فلا يدرك دور المنظمة الحقيقي؛ لأنها وسيلة لتحقيق الدولة، وإلى حين ذلك لا يمكن نقاش موضوع المنظمة ومؤسساتها بما فيها الصندوق القومي.
وبحسب النظام الأساسي للصندوق القومي، يتولى إدارة الموارد وتمويل مؤسسات منظمة التحرير وفق ميزانية تُقرّها هيئاتها، وخصوصًا المجلس الوطني، إلى جانب تنمية الموارد والإشراف على الجباية والإنفاق ومراقبته، ووضع نظام مالي ينظّم عمليات السحب والصرف ضمن حدود الميزانية العامة. ويقول القدوة: "لم يكن للصندوق أي دور إداري في العمل الدبلوماسي، وكان دوره قبل أوسلو مقتصرًا على تمويل مؤسسات المنظمة، بما فيها السفارات".
وحول صلاحيات الصندوق، يقول المستشار القانوني رشاد توام: "لا علم لي بإجراء أية تعديلات تشريعية على صلاحيات الصندوق القومي بعد أوسلو، لكن يبقى السؤال ماذا مارس من هذه الصلاحيات ما بعد قيام السلطة؟ الصندوق القومي وعموم دوائر منظمة التحرير، أدوارها شكلية، للحفاظ على صورة المنظمة خارجيًا أو للمناورة في معركة السلطة داخليًا. إذ إن السلطة كلما واجهت أزمة داخلية تلجأ إلى الاستنجاد بالمنظمة".
ويبيّن توام بأن الصندوق القومي كان أكثر من مجرد وزارة مالية، بل جمع بين دور وزارتي "المالية والاقتصاد". كما كان يقدم قروضًا لمساعدة بعض الدول في سبعينات القرن الماضي، لكنه أصبح بندًا ضمن موازنة السلطة، التي لم تعد تكشف تفاصيلها.
يوضح السفير السابق في ديوان الرئاسة محمد عودة، أنه لم يبقَ للصندوق مصدر دخل ثابت، إذ تُوجّه القرارات الدولية الدعم الخارجي للسلطة الفلسطينية لتغطية الرواتب التعليمية والصحية، على سبيل المثال. وفي إجابته على سؤال "الترا فلسطين" عن انتقال الصندوق من مربع الممول إلى متلقي التمويل للحفاظ على وجوده، يقول: "نعم، وذلك للحفاظ على دور المنظمة بالأساس".
ويشير عودة إلى وجود ممتلكات في سوريا والأردن ولبنان ما زالت مسجّلة باسم المنظمة ويشرف عليها الصندوق، ولو تمّ تأجيرها لجلبت مصادر تمويل، لكنها في دول ظروفها غير عادية. وبحسب تصريحات رئيس الصندوق عام 2019، فقد كان عدد العقارات المملوكة للمنظمة بمختلف الأماكن 153، وحتى عام 2005 كان عدد العقارات بالخارج 28.
ويتابع عودة: "عدد كبير من سفرائنا ليسوا موظفين في السلطة، ويتقاضون رواتبهم من الصندوق القومي، كما أن عددًا كبيرًا منهم لا يملك رقمًا وطنيًا فلسطينيًا ولا يستطيع دخول الضفة الغربية". وكل ذلك يبرز الحاجة إلى دور الصندوق في متابعة العمل الدبلوماسي.
لكن ذلك يستدعي توضيح دور الصندوق في العمل الدبلوماسي، سواءً من ناحية الجانب السياسي أو التعيينات والرقابة. ويوضح وزير الخارجية الأسبق ناصر القدوة: "في عام 2005، عملنا لأول مرة على مشروع قانون للسلك الدبلوماسي، حيث قررت اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير تكليف وزارة الخارجية بالإشراف على السفارات. ونصّ القانون أعطى الصلاحية الوحيدة بالعمل الدبلوماسي لوزارة الخارجية، لكنه لم يُلغِ دور منظمة التحرير، إذ يمكن للجنة التنفيذية إعادة إحالة الأمر إلى الدائرة السياسية".
وبحسب القانون "تُناط بوزارة الشؤون الخارجية، مهمة وضع السياسة الخارجية وتنفيذها بما يخدم المصالح الوطنية العليا، وتمثيل فلسطين لدى الدول والمنظمات الإقليمية والدولية. كما تُشرف الوزارة إداريًا وماليًا على البعثات الدبلوماسية الفلسطينية في الخارج، وتتابع شؤون العاملين فيها، إضافة إلى رعاية مصالح الفلسطينيين المغتربين وتعزيز ارتباطهم بوطنهم". ولم يرد ذكر للصندوق القومي في القانون.
لكن رغم ذلك، بقي للصندوق القومي حضور في العمل الدبلوماسي، ويتلقى موازنة شهرية عبر وزارة المالية لا يُفصح عنها. وحاول "الترا فلسطين" التواصل مع الوزارة للاستفسار، لكن "التجاهل" كان هو الرد. كما أن فحص تقارير وزارة المالية الشهرية والسنوية، لم يرد فيها أي ذكر للصندوق، إلا أن تقريرًا اقتصاديًا صادرًا عن موقع "المنقّبون" أشار إلى أن ميزانية الصندوق لعام 2022 بلغت 526.9 مليون شيقل.
السفارات.. أي قانون؟
لا يقتصر الخلل في السلك الدبلوماسي على غياب معايير المرجعية، بل يمتد إلى أبعاد مالية وإدارية تتعلق بآليات صرف المال العام والرقابة عليه في الصندوق القومي، الذي حافظ على دوره المرتبط بالعمل الدبلوماسي. ويطرح ذلك تساؤلات حول وجود قضايا فساد سابقة مرتبطة بأموال الصندوق، لا سيما في ظل تغييب بياناته وتقاريره المالية.
وبما أنّ الصندوق القومي الفلسطيني (التابع لمنظمة التحرير) يتلقى دعمه من وزارة المالية (التابعة للسلطة)، فإن عليه الخضوع لمعايير الشفافية في إدارة المال العام عبر رقابة ديوان الرقابة الإدارية والمالية، وكذلك الامتثال لصلاحيات هيئة مكافحة الفساد (مثل التحري، والاستدعاء، والملاحقة) حال وجود شبهات الفساد في عمل الصندوق. كما أنه يخضع وفق النظام الأساسي للمنظمة لرقابة المجلس الوطني واللجنة التنفيذية.
وفي عام 2017 أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس مرسومًا يحمل رقم (5)، جاء فيه: "تخضع دوائر ومؤسسات وهيئات منظمة التحرير الفلسطينية والسفارات والبعثات الدبلوماسية كافة لأحكام قانون ديوان الرقابة المالية والإدارية رقم (15) لسنة 2004 وتعديلاته. ويقوم الديوان بأعمال الرقابة على هذه الجهات بناءً على تكليف من رئيس دولة فلسطين/رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير".
توجه "الترا فلسطين" إلى ديوان الرقابة الإدارية والمالية لاستبيان دورهم في الرقابة على عمل الصندوق القومي، وكانت الإجابة مكتوبة على النحو التالي: "لا ولاية قانونية لديوان الرقابة المالية والإدارية على منظمة التحرير وفقًا لنطاق الاختصاص الوارد في قانون الديوان ولا تعتبر منظمة التحرير والمؤسسات التابعة لها من الجهات الخاضعة لرقابة الديوان وفقًا لقانونه رقم 15 لعام 2004 وتعديلاته. إن ولاية الديوان بتدقيق المؤسسات الفلسطينية الخارجية التابعة لمنظمة التحرير مستمدة من المرسوم رقم (5) لسنة 2017 وليس من قانون الديوان وتتم بطلب من سيادة الرئيس باعتباره رئيس اللجنة التنفيذية".
كما أنّ "ولاية الديوان على مؤسسات منظمة التحرير تتم بالاستناد إلى مرسوم رقم 5 لعام 2017 الصادر من رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وبطلب منه. كما تخضع أموال الصندوق للتدقيق الداخلي في الصندوق وفقًا لأنظمة التدقيق المتبعة في المنظمة، بناءً على طلب مقدّم من سيادة رئيس اللجنة التنفيذية. وقد مارس الديوان أعمال الرقابة على المؤسسات التابعة للمنظمة والأموال التي صرفت لها من الصندوق القومي (جمعية الهلال/ مصر-لبنان)، والاتحادات المختلفة، وبعض دوائر المنظمة)".
ولم يذكر ديوان الرقابة في إجابته ما إذا كان الرئيس عباس قد طلب منهم سابقًا إجراء تدقيق على الصندوق القومي، كما لم يُجب الديوان على سؤال "الترا فلسطين"، حول وجود أي اتفاقيات أو تفاهمات بينه وبين الصندوق تنظم أو تحدد آليات الرقابة على الأموال المخصصة للعمل الدبلوماسي، أو توضح نوع الرقابة التي يمارسها على الصندوق، وما إذا كانت تقتصر على الرقابة المالية أم تشمل أيضًا رقابة الامتثال والأداء.
كما لم يُظهر البحث الذي أجراه "الترا فلسطين" في تقارير ديوان الرقابة بين عامي 2020 و2024 أي إشارة صريحة إلى خضوع الصندوق القومي لتدقيق الديوان وفق تقاريره السنوية المنشورة، ما يعني أن الصندوق لم يخضع حتى الآن للرقابة التي تشمل معظم المؤسسات المستفيدّة من الموازنة العامة.
ويعتبر ديوان الرقابة الإدارية والمالية الجهة الرقابية الأعلى في مؤسسات السلطة الفلسطينية، بحسب ما يقول المستشار القانوني رشاد توام، الذي وصف الهدف من مرسوم رقم 5 لسنة 2017 بأنه "رسالة من الرئيس للعاملين في المنظمة مضمونها: 'كونوا حذرين، أنتم تحت الرقابة'". وذلك كون هذا الديوان هو المؤسسة التي يخشاها الجميع. فـ"هي رسالة بأنّكم تحت العين، لكن في الوقت نفسه الرئيس هو من يقرّر كيف ومتى تخضع هذه المؤسسات للرقابة. وقد يكون هدف الرئيس أيضًا إظهار صورة أن هناك نظام رقابة وإخضاع لصلاحيات الديوان الإدارية والمالية".
وبحسب توام، فإن الرئيس عباس من خلال هذا المرسوم، قد منح نفسه عمليًا صفة "النيابة العامة"، بحيث لا يمكن تحريك أي دعوى ضد مؤسسات منظمة التحرير، ومن بينها الصندوق القومي، إلا بقرار شخصي منه . ويرى توام، أن هذه الصلاحية تحاكي دور النيابة العامة التي لا تفتح الدعوى إلا بتحريك من النائب العام، بما يجعل الرئيس وكأنه يقوم مقام "النائب العام" نفسه.
لكنّ توام تردّد في ذكر ضرورة وجود رقابة من الديوان على الصندوق. ويقول: "لست مع خضوع مؤسسات منظمة التحرير لرقابة مؤسسات السلطة؛ لأن المنظمة أعلى من السلطة. لكن إذا قلنا إننا ضد الرقابة؛ لأن المنظمة أعلى، فهذا يفتح الباب أمام الفساد داخل المنظمة. وإذا قلنا إن الرقابة واجبة، يكون ذلك إقرارًا بأن السلطة أعلى من المنظمة. وهنا ندخل في معضلة بين مصلحتين: سموّ المنظمة على السلطة، ومصلحة تحقيق الشفافية والرقابة. وبالتالي يصعب الحسم في هذه المسألة".
يوضح الدبلوماسي السابق محمد عودة، أن الصندوق القومي الفلسطيني يخضع لرقابة مالية منبثقة عن منظمة التحرير، من خلال لجنة رقابية تشرف على عمله بشكل دوري، وتدقّق في سجلاته المالية الربع سنوية، خصوصًا تلك المرتبطة بالسفارات. ويضيف أن اللجنة ترفع تقريرًا سنويًا إلى المجلس المركزي، الذي يمكن أن يشكّل بدوره لجنة إضافية لمراجعة التقرير، ما يجعل الصندوق القومي خاضعًا لرقابة واضحة وفق معايير منظمة التحرير.
ويتابع: "قد يغطي الصندوق القومي تكاليف علاج الجرحى، أو تكاليف يحتاجها ذوو الأسرى والشهداء مثلًا، ولهذا هناك إحجام عن وضع الجميع في تفاصيل صرف أموال الصندوق؛ لأن بعض التفاصيل قد تضر بالصندوق".
وتشير عضوة المجلسين المركزي والوطني، فيحاء عبد الهادي، إلى أنه لم تُعرض على المجلسين أي تقارير؛ فعلى سبيل المثال، خلال جلسة المجلس المركزي الأخيرة التي عُقدت يومي 23 و24 نيسان/أبريل الماضي، لم يُقدَّم سوى تقرير واحد من دائرة شؤون اللاجئين، رغم المطالبات المتكررة بضرورة عرض التقارير من مختلف الدوائر على الأعضاء؛ ليتمكّنوا من الاطلاع عليها وإبداء آرائهم. وتضيف: "يفترض أن تكون هناك آليات واضحة للشفافية والمساءلة، لكن ما يجري على أرض الواقع يقتصر على خطابات سياسية في اللقاءات الرسمية، في حين تغيب التقارير التي تُثبت وجود رقابة أو نزاهة في العمل".
بدوره، يوضّح عضو المجلس الوطني عن جبهة التحرير الشعبية، بلال قاسم، لـ"الترا فلسطين" أن الصندوق القومي يخضع لرقابة مجلس إدارته الذي يضم شخصيات وطنية مستقلة إلى جانب ممثلين عن بعض الفصائل، برئاسة رئيس مجلس الصندوق القومي.
ويضيف أن الرقابة لا تقتصر على المجلس من خلال اللجنة المالية والاقتصادية التي يُرفع إليها الصندوق تقاريره الدورية المتضمنة الواردات والصادرات والمصروفات، بل تشمل أيضًا اتفاقًا مع "مجموعة طلال أبو غزالة الدولية في الأردن" لمتابعة التدقيق المالي والتقارير ذات الصلة، مشيرًا إلى أن السيدة عنبرة العلمي تشغل حاليًا منصب المدير العام للصندوق.
ويصرّح عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، أحمد مجدلاني، في حديث مع "الترا فلسطين" بأن أعمال الصندوق القومي تخضع لرقابة اللجنة التنفيذية، حيث يقدّم الصندوق تقارير دورية عن نشاطاته، غالبًا سنويًا، وتسبق إعداد الموازنة العامة. مشيرًا إلى أن الصندوق لا يضطلع بدور إشرافي على العمل الدبلوماسي، إذ يقتصر دوره على كونه بمثابة وزارة مالية وديوان شؤون الموظفين لمنظمة التحرير، وتتمثّل علاقته بالسفارات في الجوانب الإدارية والمالية فقط، دون أن يمتد ذلك إلى توجيه العمل السياسي أو الدبلوماسي.
اقرأ/ي: الأزمة الدّائمة: اجتماعات مُتعدّدة للمجلس المركزيّ وقرارات مُتكرّرة
خاصّ | اجتماع بلا حوار: المجلس المركزي يتفرّد ويُقصي
هل لدى الصندوق القومي فساد؟
علاوة على غياب دور رقابي واضح على عمل الصندوق القومي باعتباره جزءًا من منظمة التحرير، يشهد الوضع الحالي تداخلًا في تبعية العاملين بين الصندوق والسلطة. ويعود ذلك، بحسب رشاد توام، إلى حالة التضخّم في الوظيفة العامة التي ورثتها السلطة منذ نشأتها من كوادر المنظمة، والتي لم تتوقف حتى اليوم في التعيينات داخل المنظمة التي تفرز إلى مؤسسات السلطة، والعكس.
ومن بين هذه التعيينات التي اطلّع عليها "الترا فلسطين" هي تعيين وزارة الخارجية مستشارًا أفرزته على دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير. وبحسب توام "يعتبر هذا تحكّمًا من قبل وزارة الخارجية بالمنظمة، وفي النهاية المتحكّم الأساسي هو الرئيس الذي يوقّع بشكل نهائي على التعيين". ويضاف إلى ذلك ملفات لدبلوماسيين نُقِلوا من الصندوق القومي إلى الخارجية، وأخرى تتلقّى راتبًا من الصندوق القومي وتعمل في الخارجية أو ديوان الرئاسة.
ويعلّق توام قائلًا: "هذا الأمر بلا أساس قانوني. سببه حالة التماهي والفساد الوظيفي في تسييس الوظيفة العامة. من المفترض أننا نتحدث عن مؤسستين، أي المنظمة والسلطة، وبالتالي يفترض وجود فصل في الكادر الوظيفي بينهما. إن من بديهيات أسس الحوكمة أن هذا لا يجوز. ومن منظور القانون هذا غير صحيح. وذلك لأن الموازنات الأصل أن تكون منفصلة، وكذلك جهات الرقابة".
ويشير توام إلى ما هو أخطر من ذلك عبر ما وصفه بـ "تحزيب الوظيفة العامة"، وسببها أن الرئيس عباس يرأس ثلاثًا أو أربع كيانات (المنظمة، السلطة و/أو الدولة، حركة فتح). وقد ماهى الرئيس بين هذه الكيانات، فأصبح مثلًا ينقل موظفين في السلطة للعمل في تنظيم حركة فتح، فيما يستمرون في تقاضي رواتبهم من الخزينة العامة. وفي السياق نفسه، هناك فصائل أخرى في منظمة التحرير تنتفع من ذلك، بمعنى أن هناك موظفين يتقاضون رواتبهم من خزينة السلطة ويعملون في أحزابهم. وهذا يندرج في إطار اعتياد الفصائل على موضوع المحاصصة الموروث من المنظمة إلى السلطة.
وثمّة حالات أخرى تعكس ضعف الشفافية في أعمال الصندوق القومي. حيث أصدر الرئيس مرسومًا حمل "رقم (1) لسنة 2019 بشأن إعادة تشكيل اللجنة الرئاسية العليا لمتابعة شؤون الكنائس في فلسطين". وينصّ القرار على أن يكون رئيس اللجنة رمزي خوري، وأن يكون الصندوق القومي الفلسطيني الجهة المختصة بمتابعة الشؤون المالية والإدارية للجنة.
ويعلّق توام مستغربًا: "كيف تتم متابعة شؤون لجنة الكنائس ماليًا وإداريًا والتي يرأسها رمزي خوري، من قبل الصندوق الذي كان مديره حينها خوري نفسه (والآن هو رئيسه)؛ ذلك لا يتناسب مع معايير النزاهة في الرقابة".
وبما أن الصندوق القومي مؤسسة تنطبق عليها أحكام القانون في قضايا الفساد لكونها تتلقى أموالًا حكومية، بحث "الترا فلسطين" في تقارير هيئة مكافحة الفساد بين عامي 2020 و2024 فلم تجد أي ذكر للصندوق. إلا أن ذلك لا يعني غياب قضايا فساد متعلقة به، إذ أن الهيئة لا تنشر في تقاريرها أسماء المؤسسات الموجّهة إليها القضايا، بل تصنّف القضايا حسب القطاعات العامة والخاصة والدبلوماسية وغيرها، ما يصعّب حصر القضايا الموجّهة للصندوق بسبب تعدّد الصلاحيات والصفات التي يعمل بها.
وتقول مستشارة رئيس هيئة مكافحة الفساد، رشا عمارنة، في حديث مع "الترا فلسطين" إن الصندوق القومي خاضع لرقابة هيئة مكافحة الفساد بناءً على ما حدّده قانون مكافحة الفساد بأن الجهات الخاضعة لأحكامه بموجب المادة (2) وفق ما نصت عليه صراحة الفقرة (7)، "أعضاء السلك الدبلوماسي، ومن في حكمهم"، ووفقًا لأحكام الفقرة (14) من ذات المادة يخضع لأحكام القانون "مسؤولو وأعضاء الجهات التي تساهم بها الدولة أو تتلقى موازناتها أو أي دعم من الموازنة العامة للدولة، والعاملون فيها"، وحيث أن الصندوق القومي ومؤسسات منظمة التحرير يتلقّون دعمًا من الموازنة فإنهم يخضعون وفق هذه الفقرة لأحكام قانون مكافحة الفساد.
وتوضح عمارنة أن الصندوق يخضع للمتابعة من الهيئة وفق ثلاث صفات. الأولى، بحكم ارتباطهم بالسلك الدبلوماسي، فبما أنهم يتقاضون رواتبهم من الصندوق فهم فئة مستهدفة بشكل صريح وواضح. أما الصفة الثانية، فهي خضوع الصندوق للرقابة باعتباره من المؤسسات التي تتلقى دعمًا من الموازنة العامة، وأي مؤسسة تتلقى دعمًا من الموازنة تكون خاضعة لمتابعة الهيئة. والصفة الثالثة، أن جزءًا من العاملين في منظمة التحرير، بما يشمل الصندوق القومي بدرجة أقل من باقي الدوائر، هم في الأصل موظفون حكوميون، وبالتالي يخضعون لقانون الخدمة المدنية ويتقاضون رواتبهم من وزارة المالية.
كما يمكن إضافة منطلق رابع وهو الأحزاب والفصائل؛ ففي حال وردت شكوى على مؤسسة معينة، قد ترد أيضًا على الأحزاب المنضوية في إطار العلاقة مع الصندوق القومي.
وتقول عمارنة: "هؤلاء جميعًا تشملهم متابعة هيئة مكافحة الفساد، سواءً من حيث الخضوع أو الإقرار. ومع ذلك، نحن لا ننشر أسماء المؤسسات في تقارير الديوان، بل ننشر التقارير وفق القطاعات، تبعًا للجهات الـ14 الخاضعة للقانون".
أما عن تخصيص تفاصيل عن الصندوق القومي ضمن شكاوى واردة للهيئة، تؤكد عمارنة: "لقد عملنا على ملفات وشكاوى تخصّ الصندوق، لكن لا يمكننا ذكر تفاصيلها أو أعدادها أو مراحل القضايا؛ لأنه من الممنوع الإفصاح عنها، باعتبارها من الأمور التي لا يجوز نشرها وفق القانون، نظرًا لكونها قضايا تحقيقية لدى الهيئة. لكن وبشكل عام، فإن العمل الدبلوماسي لدينا كله خاضع لهيئة مكافحة الفساد، بما فيه الصندوق القومي، وذلك بموجب النصوص القانونية الناظمة لعملنا".
وتضيف: "من جانبنا، فقد سُجلت بالفعل حالات جرى التحقيق فيها وخضعت للمتابعة، وتمكّنّا من إخضاع الجهات الدبلوماسية ـ سواء في الصندوق القومي أو بعض الجهات الأخرى المرتبطة به ـ للتحقّق بناءً على المعلومات التي وصلتنا، واتُخذت الإجراءات اللازمة". وشدّدت على وجود حالات اتُّخذت بشأنها إجراءات، لكن لا يمكن الإفصاح عن تفاصيلها التزامًا بالقانون.
وترى فيحاء عبد الهادي أنه يفترض وجود آليات واضحة للشفافية والمساءلة في محاسبة ومتابعة الصندوق القومي، إلا أن ما يجري على أرض الواقع يقتصر على خطابات سياسية في اللقاءات الرسمية، بينما تغييب التقارير التي تُثبت وجود رقابة أو نزاهة في عمل الصندوق خلال جلسات المجلسين الوطني والمركزي.
وتابعت: "لا يمكن فصل غياب الشفافية في إدارة الصندوق القومي عن المشهد العام القائم على الخلط بين المرجعية والمحاسبة عند الحديث عن المنظمة والسلطة. المفترض أن تكون كل جهة مستقلة عن الأخرى، بحيث تبقى المنظمة هي الأساس والسلطة فرعًا عنها، لكن ما يحدث هو العكس، وهذا جوهر الخلل القائم".
ويرى وزير الخارجية الأسبق ناصر القدوة أن الإشكالية في تفاصيل عمل الصندوق القومي والرقابة عليه تعود إلى غياب فاعليته وفق نظامه الأساسي، إذ يُعدّ من أقوى مؤسسات المنظمة كونه يُنتخب مباشرة من المجلس الوطني، أي أن اللجنة التنفيذية أو رئيسها لا يقدران على تغيير رئيس الصندوق. إلا أنه منذ سنوات طويلة لم يكن هناك رئيس للصندوق، ولم يتخذ المجلس الوطني أي قرار بهذا الخصوص، حتى تمّ تعيين رمزي خوري رئيسًا له عام 2022.
رقابة ضائعة
خلال الانتقال من الرقابة على عمل الصندوق القومي، سواءً عبر ديوان الرقابة الإدارية والمالية أو هيئة مكافحة الفساد أو مؤسسات المنظمة ومجالسها، لا بدّ من تحليل أسباب غياب أشكال الرقابة عليه، وتبيان دوره في المشهد الدبلوماسي، وعلاقته بآليات تعيين السفراء. إذ لا يقتصر السبب على غياب فاعلية النظام الأساسي للصندوق، وعدم تفعيل دور المجلسين الوطني والمركزي خلال دوراتهما، كما ورد في الجزء السابق من التقرير.
ويعود ذلك إلى أسباب أخرى، أبرزها عدم الالتزام بنصوص قانون السلك الدبلوماسي، الذي تجاهله الرئيس عباس، بحسب وزير الخارجية الأسبق ناصر القدوة. ويوضح أن الصندوق القومي لا علاقة له بالعمل الدبلوماسي، إذ أن الرئيس ابتدع له دورًا ضمن لجنة تُعرف باسم "لجنة السفارات" تشرف على العمل الدبلوماسي بدلًا من وزارة الخارجية، وقد ظهرت هذه اللجنة تقريبًا بعد عام 2007 ومع الانفصال الإداري لقطاع غزة عن الضفة.
ويؤكد عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، أحمد مجدلاني، أن دور الصندوق القومي في "لجنة السفارات" لا يتعدّى كونه مرتبطًا بالجوانب الإدارية والمالية، إذ لا يتصل بعملية التمثيل السياسي أو تحديد معايير التعيين، التي تُبنى بالأساس على اعتبارات سياسية وكفاءة مهنية.
وتبدو المعلومات عن لجنة السفارات شحيحة ومتضاربة؛ فقد ورد ذكرها في 15 نيسان/أبريل الماضي حين أصدر الرئيس محمود عباس قرارًا بتعيين حسين الشيخ رئيسًا لها، علماً أن اللجنة أُنشئت بتاريخ 16 نيسان/أبريل 2023. وبالرجوع إلى جريدة الوقائع الرسمية في ذلك التاريخ، لم يُنشر قرار تشكيل اللجنة. وبحسب "الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة - أمان"، فإن تعيين الشيخ بهذا المنصب "يمثل خرقًا واضحًا لقانون السلك الدبلوماسي النافذ وإضعافًا لدور وصلاحيات الحكومة الدستورية، ويعبر عن استمرار السلطة السياسية في نهجها في استسهال مخالفة التشريعات الفلسطينية النافذة".
لكن تصريحات سابقة لرئيس الصندوق القومي في عام 2019 أشارت إلى أن من أبرز الخطوات التي قام بها الصندوق هي تشكيل لجنة عليا للإشراف على العمل الدبلوماسي، تُعرف بـ"لجنة السفارات"، برئاسة وزير الخارجية وعضوية ممثل عن الرئاسة والصندوق القومي الذي يتولى أمانة السر. وعند تأسيس اللجنة، ضمّت ممثلين عن الدائرة السياسية ووزارة المالية، وتتولى "لجنة السفارات" حاليًا مهمة الإشراف على سير العمل الدبلوماسي الفلسطيني وتعزيزه، وتدعمها لجان مختصّة تشمل كافة الجهات ذات العلاقة.
اقرأ/ي: من "ملف التنسيق" إلى نائب الرئيس.. القصة الكاملة لصعود حسين الشيخ
تعيين حسين الشيخ في منصب جديد.. ما هي لجنة السفارات؟
لجنة السفارات: باب التعيينات الاسترضائية
لكن ذلك يتعارض مع ما يوضّحه السفير السابق في ديوان الرئاسة، محمد عودة، من أن لجنة السفارات ليست جديدة، بل موجودة منذ عهد الراحل ياسر عرفات، كونها لجنة ضرورية في مختلف دول العالم، ودورها ترشيح السفراء. ومن أبرز الشخصيات في اللجنة وفق عودة: رئيس الصندوق رمزي خوري، ومصطفى فايز أبو الرب وهو عضو في المجلس الوطني وقيادة الصندوق القومي وعضو في اللجنة منذ عهد عرفات، كما يشارك في عضوية اللجنة من الحكومة وزير الخارجية أو من ينوب عنه. وبما أن فلسطين أصبحت دولة معترفًا بها وعضوًا مراقبًا في الأمم المتحدة منذ عام 2012، فقد أصبح نائب رئيس الدولة، حسين الشيخ، رئيسًا للجنة.
ويلفت عودة إلى أن دور لجنة السفارات أشبه بالدور الاستشاري، حيث تدرس ملف المرشح للسفارة وتقدمه، لكن في النهاية، الرئيس هو من يختار السفير؛ لأنه الممثل الرسمي للدولة أمام دول العالم.
لكن وزير الخارجية الأسبق ناصر القدوة ينفي أن تكون اللجنة قد شُكّلت في عهد الراحل عرفات، مؤكّدًا أن الصندوق القومي لا علاقة له بالسفارات تاريخيًا، وأن دوره في الدبلوماسية جاء لاحقًا بعد تشكيل لجنة السفارات، وهو ما اعتبره "خطًأ وفق أهواء الرئيس عباس الذي أسس اللجنة".
ويتساءل متعجّبًا: "ما دخل الصندوق القومي الفلسطيني بالعمل الدبلوماسي؟ هذه صلاحيات وزارة الخارجية، لكن الرئيس شكّل لجنة وأدخل فيها شخصية معروفة باسم أبو نبيل أبو الرب (مصطفى فايز أبو الرب)، المقرب من الرئيس، الذي كان يتنقّل بين دوائر المنظمة في عمّان، ومعه رمزي خوري، ومجدي الخالدي مستشار الرئيس، والآن حسين الشيخ"، وذلك لتنفيذ ما يريده الرئيس في التوظيف الدبلوماسي.
وفي حين يتعارض وجود "لجنة السفارات" مع نص قانون السلك الدبلوماسي، الذي ينصّ في النقطة 3 من المادة 3 على مهام وزارة الخارجية، ومنها "الإشراف على جميع البعثات سياسيًا وإداريًا وماليًا، بما في ذلك التعيينات والتنقلات وفقًا للقانون"، فإن وجود اللجنة التي تشرف على تعيين السفراء أيضًا، والذين يصادق الرئيس عليهم في الحلقة الأخيرة، يثير الشكوك حول معايير تعيين السفراء والعاملين في السلك الدبلوماسي.
معايير على الورق
ويشترط بالمرشّح للتعيين في السلك الدبلوماسي أن يكون متقنًا للغة العربية إضافةً إلى إحدى اللغات الأساسية المعتمدة لدى الأمم المتحدة، ويفضّل من يجيد الإنجليزية أو الفرنسية، وأن يكون حاصلًا على شهادة جامعية معترف بها. كما يتوجّب عليه اجتياز المسابقة العامة التي تجريها الوزارة بموجب أحكام القانون واللائحة، والتي يُعلن عنها قبل ثلاثين يومًا من موعدها وتشمل امتحانات متخصّصة ومقابلات تقييمية. وتتولى اللجنة المختصّة تقييم المتقدّمين وفق نظام النقاط المعتمد وترفع توصياتها إلى الوزير، وذلك استنادًا إلى الملحق رقم (1) الخاص بنظام تقييم المتقدّمين وإجراءاته.
كل هذه البنود لا تُطبّق حاليًا، إلى جانب عدم الالتزام بأهم نص في القانون، وهو التدوير كل أربع سنوات لجميع العاملين في السلك الدبلوماسي لمنع تضارب المصالح. ووفق بحث أجراه "الترا فلسطين"، فإن أكثر من 20 سفيرًا مضى على تعيينهم أكثر من أربع سنوات، ومنهم من لم يتغيّر موقعه منذ أكثر من عشر سنوات. كما جرى تدوير عدد آخر من السفراء بين البلدان خلال الأربع سنوات الماضية، وكانوا قبل ذلك قد تجاوزوا الحد القانوني في أماكن تمثيلهم، علاوة على تجاوز عدد منهم سن التقاعد المحدّد بالقانون الدبلوماسي.
في سياق آخر، يقول القدوة إن القانون يحدّد عدد السفراء الذين يُعيّنون بشكل سياسي، أي عبر الرئيس وترشيحات الفصائل، بعشرة فقط، لكن الواقع مليء بتعيينات سياسية وشخصية، موضحًا أن الرئيس عباس بات يعيّن عمليًا حتى السكرتير الثالث في وزارة الخارجية.
وبحسب بحث أجراه "الترا فلسطين"، فإن ما لا يقلّ عن 15 سفيرًا فلسطينيًا هم أعضاء في حركة فتح (في المجلس الثوري، أو أعضاء في المؤتمر السابع)، إلى جانب سفراء ينتمون لأحزاب أخرى مثل حزب الشعب، وجبهة النضال الشعبي. ويضاف إليهم سفراء من أقارب الدائرة الضيّقة العاملة مع الرئيس محمود عباس.
ولم يُنشر في الجريدة الرسمية أي قرار بتعيين أي سفير في منصبه منذ عام 2020 وحتى تاريخ نشر هذا التقرير. وبحسب تقرير صادر عن ائتلاف أمان في أغسطس عام 2021 فإن 60 بالمئة من التعيينات الدبلوماسية للسفراء قبل عام 2018 لم تُنشر في الجريدة.
ويشير القدوة إلى أنه قبل تشكيل لجنة السفارات، كانت لدى وزارة الخارجية "لجنة تقييم داخلية" لدراسة أوضاع السفراء والعاملين في السلك الدبلوماسي، لكن عمليًا عطّلها الرئيس عباس، وفي المقابل شكّل لجنة السفارات بعد عام 2008 تقريبًا. ويضيف القدوة أنه بعد إصدار قانون السلك الدبلوماسي، نُقِل 70 سفيرًا دفعة واحدة من مواقعهم؛ بعضهم تغيّر مكان عمله، وبعضهم أُحيل إلى التقاعد، وكانت هناك خطة لتشمل الجميع لكنها لم تُنفّذ.
ووفق القدوة، أصبح العمل الدبلوماسي اليوم مليئًا بتعيينات هدفها المنفعة والإرضاء، موضحًا أن "التعيينات تشمل ضباطًا من جهاز الأمن الوقائي في السفارات، وتشمل أيضًا أقارب المقرّبين من الرئيس. وجاءت اللجنة لتحديد من يعيّن سفيرًا وفق إرادة الرئيس، وهذا يعكس حالة سيئة للوضع الدبلوماسي ويعود إلى الطمع في العمل بهذا المجال، إذ يحصل الدبلوماسي في الجامعة العربية مثلًا على راتب يصل إلى 13 ألف دولار، ما جعل العمل الدبلوماسي محط أنظار الجميع".
وفي حين يؤكد السفير السابق في ديوان الرئاسة، محمد عودة، أن إدارة العمل الدبلوماسي ليست مثالية أحيانًا، يشير إلى وجود معايير عامة تحدد اختيار العاملين في السلك الدبلوماسي، موضحًا: "إذا لم تنطبق المعايير على المرشح للسفارة، فلا يتم تعيينه. اليوم هناك توجه إلى أن تقود فئة الشباب العمل الدبلوماسي، مع التركيز على المنخرطين أكاديميًا في المجال، مع تقدير العمل التاريخي والنضالي".
ويتابع: "لدينا معهد دبلوماسي لكنه غير فعّال بسبب الظروف المالية، ونؤهّل دبلوماسيينا في دول أخرى، خلافًا لما كان سابقًا حين كان السفير فدائيًا فلسطينيًا من مقاتلي الثورة أو رموزها. وقد درّبنا سفراء في البرازيل وإيرلندا وإسبانيا ودول أخرى، واليوم لدينا حوالي أربعة سفراء في أميركا اللاتينية تم تدريبهم في إسبانيا بسبب ارتباط البلد بأميركا اللاتينية من حيث اللغة والتاريخ".
وعن آلية التعيين السياسي في السفارات، يوضّح: "يتم ترشيح السفير من قبل الأحزاب والفصائل إلى الرئيس، الذي يعرض الترشيح على لجنة السفارات لدراسة الحالة، ثم تقدّم اللجنة رأيها، وفي النهاية من يقرر ويوقّع هو الرئيس".
وكان ائتلاف أمان منذ شباط/فبراير عام 2016 قد "طالب الرئيس عباس ووزارة الخارجية، وقف إصدار أية مراسيم لا تتقيد بأحكام قانون السلك الدبلوماسي وإجراءاته المُلزمة، وأنّ التعيينات والترقيات والتنقلات والترضيات للبعض لا يجب أن يكون حلها ضمن إطار السلك الدبلوماسي". كما أشار الائتلاف بتقرير صادر عنه في أغسطس عام 2021 إلى وجود مخالفات صريحة حول المدد القانونية لعمل السفراء.
ويلفت المستشار القانوني رشاد توام إلى أنّ التعيينات السياسية يفترض أن تتم وفق قانون السلك الدبلوماسي. ويقول: "القانون يسمح بتعيينات سياسية عددها 10. غير أن الواقع يفوق هذا الرقم. كما أن التعيينات والترقيات في السلك الدبلوماسي شابتها شبهات عديدة لا تقتصر على الاعتبارات السياسية، بل شملت استرضاء بعض الموالين بتعيين أقاربهم".
ويضيف: "معايير في السلك الدبلوماسي تقوم على استرضاء الموالين. إذ إن وزارة الخارجية تشهد إقبالًا كبيرًا على التعيين فيها، نظرًا لارتفاع رواتب موظفي السلك الدبلوماسي نسبيًا، والسفر، والامتيازات، والـ'برستيج'، ما يجعلها الخيار الأول من بين الوظائف الحكومية. ولا يقتصر مفهوم الموالاة هنا على منتسبي حركة فتح، بل وأيضًا منتسبي الفصائل التي تظهر ولاءً للرئيس أكثر من حركة فتح نفسها، كونها لا تملك قواعد شعبية، فتعوّل على رضى الرئيس للاستمرار في استرضائها بنظام المحاصصة".
ويحاول السفير السابق محمد عودة حسم الجدل حول آلية عمل السفراء ودور كل طرف فيها، قائلًا: "يتبع السفراء للرئيس بشكل أساسي بغض النظر عن من رشّحهم، إذ يُعدّ السفير دبلوماسيًا ممثلًا للرئيس في الدولة المضيفة. وتكمن تبعيته السياسية في ارتباطه برئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة، حيث يوقّع الرئيس محمود عباس قرارات التعيين بصفته رئيس اللجنة التنفيذية، وهو منصب سياسي بالدرجة الأولى. أما التبعية الإدارية اليومية فتكون لوزارة الخارجية من حيث الإجازات والتنقّلات والإجراءات الإدارية".
وبحسب عودة، تُعد وزارة الخارجية أداة تنفيذية تنقل التعليمات الصادرة عن الرئيس أو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير إلى السفراء، وتتابع شؤونهم الإدارية والوظيفية. أما تقارير الأداء الدبلوماسي فتُرسل دوريًا، حيث تُرسل النسخة الرئيسية إلى الرئيس عباس، وتذهب نسخة أخرى إلى الوزارة. وبذلك تبقى الرئاسة صاحبة القرار في تقييم عمل السفراء سياسيًا، بينما تقتصر مهمة الوزارة على الإشراف الإداري.
وكان "الترا فلسطين" قد حاول التواصل مع المستشار السياسي في وزارة الخارجية، أحمد الديك، للحصول على توضيحات حول المعلومات والتصريحات الواردة أعلاه في التقرير، لكنه لم يرد على الاتصالات الهاتفية أو المراسلات عبر الواتس آب. فيما أفاد وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، عمر عوض الله، أن هذا الملف ليس من ضمن اختصاصه كونه في الجوانب الإدارية.
أما الصندوق القومي، فقد تواصل موقع "الترا فلسطين" مع معتمد الصندوق في رام الله، السفير عماد النحاس، الذي أكد أن ليس من صلاحياته الإجابة عن الأسئلة الموجّهة للصندوق حول علاقته بالدور الدبلوماسي والقضايا المالية والإدارية، وأن ذلك يستلزم الحصول على إجابات من إدارة الصندوق في عمّان. وبما أنه لا توجد منصة رقمية للصندوق، ولا بريد إلكتروني، ولا حساب رسمي على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، تواصل "الترا فلسطين" مع النحاس مجدّدًا، حيث طلب كتابًا رسميًا للتواصل مع الصندوق والحصول على إجابات. واستلم الكتاب في الثامن عشر من الشهر الماضي، لكنه لم يصلنا أي رد حتى تاريخ نشر التقرير.
لا يقتصر الخلل في السلك الدبلوماسي على غياب معايير المرجعية، بل يمتد إلى أبعاد مالية وإدارية تتعلق بآليات صرف المال العام والرقابة عليه في الصندوق القومي، الذي حافظ على دوره المرتبط بالعمل الدبلوماسي
كما حاول "الترا فلسطين" التواصل مباشرًا مع رئيس الصندوق القومي وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، رمزي خوري، لكنه لم يرد على الاتصالات أو المراسلات عبر تطبيق "واتس آب". كما تواصل "الترا فلسطين" مع إدارة الصندوق عبر عضو المجلس الوطني المقيم في عمّان، بلال قاسم، الذي نقل أسئلة "الترا فلسطين" إلى الصندوق، وجاء الرد نقلًا عن الصندوق بحسب قاسم: "الصندوق القومي يواجه حربًا أميركية، وهذا ليس وقت طرح الموضوع في ظلّ الحصار المالي".
يؤكد موقع "الترا فلسطين" أن مجال الرد مفتوح أمام أي طرف، ورد ذكره في التقرير، ومستعد للإجابة على استفسارات الموقع بشأن ما ورد من تساؤلات وتصريحات، وستنشر هذه الردود فور وصولها.
https://ultrapal.ultrasawt.com/%D8%AF%D8%A7%D8%AE%D9%84-%D8%B5%D9%86%D8%AF%D9%88%D9%82-%D8%A3%D8%B3%D9%88%D8%AF-%D9%87%D9%83%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D9%8F%D8%AF%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A8%D9%84%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9/%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%83-
%D9%86%D8%A8%D9%8A%D9%84/%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1