عيسى الشعيبي
السوشيال ميديا
بدعوة من ست مؤسسات ثقافية مقدسية ناشطة في الأردن، وصلت الكاتبة الفلسطينية فدى جريس الى عمان، آتية من قريتها فسوطة في أعالي الجليل، لإشهار أول رواية لها، صدرت باللغة الإنجليزية (450 صفحة) قبل نحو عام، وحلّت بترحاب لافت من جانب حشد لا بأس به من الكتاب والأصدقاء، الذين استقبلوا هذه الاديبة متعددة المواهب بفيض من الحفاوة والاهتمام، سيما وان نتاج فدى الثقافي (ثلاث مجموعات قصصية ومسرحية واحدة، الى جانب روايتها غريبة في وطني) كان قد طاف بعض مدن فلسطين، من رام الله الى الناصرة وبيت لحم وغيرها في الخارج، فسبقتها السمعة الطيبة الى ديار الشتات، وعمّدتها التغطيات الإعلامية المكثفة، صاحبة جنس ادبي (فير الشعر) في بلد محمود درويش واقرانه من الشعراء المقاومين الكبار.
في طريقي الى منتدى بيت المقدس، حيث مكان الاشهار والحوار، كنت مدفوعاً بدافعين متداخلتين بين الذاتي والموضوعي، الأول دافع المشاركة الوجوبية بحفل اشهار رواية الكاتبة، التي لم ارها وجهاً لوجه، منذ ان كانت طفلة صغيرة تمرح في بيت ابيها، صديقي العتيق صبري جريس، وامها الشهيدة حنة شاهين، وذلك بجوار منزلي المتواضع في بيروت، والثاني دافع الفضول الصحافي ككاتب يتابع، لماماً، ما تيسر له من أنشطة ثقافية تغص بها العاصمة الأردنية عمان في فصل الصيف على وجه الخصوص، فما بالك وهذه الفعالية الثقافية تتعلق بمآلات البنت الصغيرة وقد صارت اليوم كاتبة مشهورة داخل وخارج وطنها الام، الذي عادت اليه بصحبة الاب والاخ، مع عشرات الألوف، بعد اتفاق أوسلو قبل ثلاثة عقود.
بعيداً عن العاطفة الشخصية، جلست بين الحضور ارقب اطلالة فدى بشغف، وادقق في أدائها كروائية امام جمهور نخبوي جاء اليها راغباً في لقاء اديبة صاعدة، ومحاورتها في مضمون رواية تقص فيها فدى الحكاية الفلسطينية كلها، من خلال سرد مشوّق، على خلفية درامية، سيرة حياة اسرة فلسطينية صغيرة، او قل حكاية مئات الوف العائلات المماثلة، سواء تلك التي هُجّرت من بيوتها بعد النكبة وبقيت لاجئة في الجوار، او تلك التي اُرغمت بالقوة المسلحة على مغادرة ارض الآباء، وقليلها عاد الى مسقط الرأس مثل اسرة صبري جريس، ليواصلوا من هناك نضالهم السياسي والفكري، تعزيزاً لبنية الرواية الفلسطينية، ودفاعاً عن حق العودة والحرية والاستقلال.
لست ناقداً ادبياً، ولم اقرأ رواية "غريبة في وطني" بعد، لذلك انفقت وقتاً معتبراً لمطالعة المراجعات والمقابلات الصحفية الكثيرة مع فدى جريس، قبل ان ادلف الى القاعة التي امتلأت بالحضور، وعليه فقد وطدت امري على الادلاء بدلو صغير في بحر هذا المنتج الثقافي، بعين الناقد السياسي، خاصة وان هذا الاصدار مؤسس على أرضية سياسية حاضرة في متن الرواية وهوامشها بقوة شديدة، الامر الذي هوّن عليّ القيام بهذه المغامرة الحذرة خارج مجال الاختصاص، دون الوقوع في مغبة الغوص عميقاً في اللجة الزرقاء، تماماً على نحو ما درجت عليه كلما وقفت امام عمل روائي اثار لدي الفضول، وحملني على رمي سهم ضئيل في النقاش الثقافي الدائر حول هذا العمل الإبداعي او ذاك، سيما اذا كانت الرواية لصديق مُقرّب او زميل.
وهكذا وجدتُ فدي جريس خلال الحوار في تلك الأمسية الثقافية الطويلة، كاتبة تصعد درجات السلّم الادبي بثقة وتمكّن اتى فوق مستوى التوقعات، حيث بدت الشابة القادمة من داخل الداخل الفلسطيني تعرض إصدارها، الذي استعرق إنجازه عشر سنوات، صاحبة رسالة وطنية، مقاومة على طريقتها الناعمة، لديها صوت خاص مميّز بالتجربة القاسية التي مرت بها الاسرة الصغيرة اولاً، وبقوس العذابات المشتركة بين سائر أبناء شعبها ثانياً، خاصة من بقي متشبثاً بالأرض والحلم والحق الذي لا يضيع بالتقادم، وهو ما يضفي على رواية "غريبة في وطني" قيمة مضافة الى راس المال الثقافي الفلسطيني، الذي اسهم فيه على نحو لافت شعراء وروائيون وفنانون ومفكرون وكتاب من عرب 48 ، أي في الأرض التي رفرفت في سمائها رايات كبار المبدعين الفلسطينيين، ممن يضيق المجال عن تعدادهم في هذا المقام.
يبقى ان فدى جريس، الكاتبة الخجولة المتواضعة، ان لم تكن قد صنعت فرقاً في نصها المشوّق هذا، او أحدثت نقلة نوعية في مضمار الرواية الفلسطينية، في الداخل وفي ديار الشتات، فان هذا الإصدار، الذي ستتم ترجمته الى العربية وتسع لغات اجنبية، وفق ما وعدتنا به، جاء بمثابة مدماك متميز في معمار الرواية الفلسطينية متعددة الأصوات.