Sunday 11th of May 2025 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    01-Oct-2023

التكريم الملكي للمثقفين.. لكي لا ينسحب المبدع من المشهد

الراي -

إبراهيم السواعير
 
(ألقيت ضمن ندوة في معرض عمان الدولي للكتاب الثاني والعشرين)
 
التكريم الملكي للمثقفين موضوعٌ مهمٌّ، خصوصًا وأنّ المثقف على الأغلب يشعر أنه في عزلة، وأنه غريبٌ ومضطهد، وبالتالي تتعمق الفجوة بينه وبين الآخرين، حين تلازمه هموم أنّه خارج السياق، وأنّه مثاليٌّ في نظرته والآخرين لا يقدّرونه، فيضطرّ ساعتئذٍ إلى أن ينسحب من المشهد، فنكون قد خسرنا المثقف والمبدع والمفكر والأديب والكاتب؛ وهي مشكلة مؤلمة وخطيره للمجتمع وللوطن، ولذلك لابد للدولة أن تحترم المثقف وأن تعي دوره، فتقدّره التقدير اللائق به، وهنا يأتي دور الوزارات المعنية والهيئات الثقافيّة والاتحادات والروابط والجمعيات ذات العلاقة.
 
وما لم يكن هناك قرار سياسي لدعم المثقف، وإشعاره بدوره وأنّه «مُكرّم»، لكي لا يحبط أمام المتغيرات، فربّما غازله «الآخر» ولوّحَ له بالمكتسبات والإغراءات، ولذلك فنحن، نظريًّا، علينا أن نفتح له مسارات يبدع فيها ونحترم حضوره، ليعطي ربّما أكثر مما هو مطلوب منه، بل وسيبقى على اتصال وتماس بالقضايا التي يعيشها المجتمع، سواء كانت اقتصاديه، اجتماعية، سياسيّة، فكرية، وفي علاقة الوطن بمحيطه العربيّ والدولي.

 

طبيعة المثقف

وقد سادت فكرة أنّ «مثقفنا» كائن متهوّم يسكن المقاهي والطرقات ويعيش في ملكوت الغياب، وليس له مرجعيات فكرية أو هدف في هذه الحياة إلا أن يغيب عن الوعي ويمارس عدم الرضا، ولهذا، فالمثقف السلبي حتمًا سينسحب من المشهد ويبقى وحيدًا يقارع همه، في خضمّ الحاجة إليه.

ولذلك، فكلّ المثقفين والمبدعين نحتاج فكرهم الذي يتضمّنه إبداعهم الفني أو الأدبي، حتى «شعراء الرصيف»، والكتّاب الساخرين، ومن تسكنهم الغربة والاغتراب، نحتاج إلى مضمون تسمياتهم، وهذا مرهونٌ بصانع القرار الثقافي والمؤسسة الثقافيّة في أن تقرّبهم وتسأل عنهم وتكرّمهم، بل وتنسّب بتكريمهم على مستويات أعلى.

سماء الحريّات

في ظلّ ذلك، يأتي التكريم الملكي من رأس الهرم في الدولة الأردنيّة، جلالة الملك عبدالله الثاني، كرؤية وقرار سياسي يحمي هذا المثقف ويفتح له الآفاق، ويوافقه تطلعاته وعراكه في أن ينهض مع غيره من القوى الاجتماعية وغيرها بشؤون المجتمع، نحو ترسيخ الحريّات التي وصفها جلالة الملك بأنّها لا سماء لها أو أنّها لا يحدّها حدّ، آنذاك ستنشط الحياة وتزداد الإبداعات والنضوج الفكري المحمول على جناح الفنّ والأدب، من خلال تكريم جلاله الملك للمثقفين والمبدعين والفنانين والمفكرين، وحتى أصحاب العمل التطوعيّ القريبين من الناس، كلّ عام في عيد الاستقلال أو في أي مناسبة وطنيّة، وهو ما يمنحنا الفرصة لأن نعيد حساباتنا، فلا نكون خارج السياق المجتمعي والإنساني، وأنّ الكرة في ملعبنا، وعلينا أن نستعدّ ثقافيًّا للوفاء بهذا الاستحقاق.

رمزية الوسام الملكي

لكن، هل يقتصر التكريم على أخذ وسام من جلاله الملك؟!.. في الحقيقة الوسام الملكي هو تكليل لرؤية جلالة الملك الرائعة تجاه المثقفين، وتعبير من جلالته الملك عن قيمه المثقف، كهدف معنوي حين يُذكر الوسام في السيرة الذاتيّة للمبدع في حقول الشعر والسرد والفنون، وينسحب ذلك على كل القطاعات.

هذه مقدمة لرمزية التكريم وانخراط المثقف وقيامه بدوره، بما يشتمل عليه ذلك من دفاع عن الحريات وتعزيز لها وقراءة قضايا الوطن والوقوف في صفّه، خصوصًا وأنّ المثقف هو لصيق بالسياسي يدعمه ويسير معه جنبًا إلى جنب، في ثوابته ورؤيته وما يعزز حضوره في أكثر من مجال.

ومن المفرح أنّ وسطنا الثقافي من أنشط الأوساط الثقافيّة العربيّة، بدليل هذا الحراك الواسع وتواقيع الكتب وانسجام الأكاديمي مع المبدع وحضورنا على ساحة الجوائز العربيّة والعالميّة، وكون الأردنّ بحريّاته وسَم�'ته الثقافي العالي، بيئة خصبة للفعل الثقافي، ويمكن أن نستأنس بأنشطة دائرة المكتبة الوطنيّة في هذا المجال، فضلًا عن الجمعيات الثقافية العاملة في أعمالها المنتظمة التي تكاد تنتظم يوميًّا، نحو مجتمع مثقّف واعٍ ويهتم بقضاياه الوطنيّة والإنسانيّة ويدرك أهميّة التحوّل والتطوّر الذي نعيشه أو نحن مقبلون عليه.

الحسّ الثقافي

ودائمًا تحضر الصورة الناصعة للهاشميين في مجال دعم الثقافة والأدب والفكر والفنون، فمنذ جلالة المغفور له الملك المؤسس عبدالله الأول، وحتى جلالة الملك عبدالله الثاني، للقارئ أن يطوّف بالرعاية الثقافية والاهتمام الدائم، حتى أنّ بلاط جلالة الملك المؤسس كان حافلًا بالإبداع والمساجلات الشعريّة، وقد أُلّفت كتب في هذا، عدا فصاحته وبلاغته وقوّة ذاكرته واهتمامه بالشعراء والسؤال عنهم، ومن يقرأ أشعار «عرار» ومجالس الشعر بين يدي جلالته يدرك أنّ هذا البلد قام على المكاشفة والمصارحة وتنوّع الرأي، لتتعزز الثقافة اليوم كأسلوب حياة في فكر الهاشميين الذين كانت إمارة شرق الأردن بالنسبة لهم فسيفساء جامعة لكلّ أبناء العروبة ومنطلقًا نحو فكر الأمّة جمعاء.

إنّ بلدًا بلا ثقافة أو فكر، هو بلد خاوٍ ومتصنّم لا يمكن أن يتطوّر بحال، وسيظلّ مغيّبًا عن كلّ فرص التطوّر والانفتاح.

تعزيز الهويّة

وإنّ التكريم الملكي للمثقفين معناه أنّ الهوية الوطنيّة بخير، وأنّها لا تنسحب إلى ثنائيات أو تضادات، وهو معنى من معاني التكريم، لبلد فيه المتنوع والثريّ من التراث المتكامل، في إطار الهوية الوطنية الجامعة للأردنيين.

ومن المهمّ ألا يُخترق الوطن من خلال المثقف، اعتمادًا على أنّ المثقف لديه رومانسيّة وحلم وتطلعات، ومعنى الحديث معه ومكاشفته بالواقع والتحديات والطموحات، يجعله مساهمًا في المشهد وحاملًا له، وليس مضادًّا لهويّته.

وفي بلدنا، كرّم الهاشميّون المثقفين، بأن وجهّوا الحكومات الأردنيّة لأن يكون الشاعر سفيرًا أو وزيرًا، أو مستشارًا، والأمثلة على ذلك كثير، والمثقف حين يتولّى مسؤوليّةً فإنّه بالتأكيد سيعمل على حضور وتأكيد أجندته الثقافيّة وإعطاء مساحات لائقة بالمثقفين، اعتمادًا على الحريّات التي رسّخها القرار السياسي، والحريات بحد ذاتها كما نعلم هي قمّة وسنام ها التكريم.

إنّ التكريم الثقافي له أشكال عديدة في دعم الدراما والسينما كفنون حضارية، وأقرب دليل افتتاح جلالة الملك عبدالله الثاني لاستوديوهين سينمائيين في منطقة أم المقابلين قبل أيّام، باعتبار صناعة السينما مطلبًا ملكيًّا تعززت بإنشاء الهيئة الملكيّة للأفلام وكلّ هذا الحراك.

وحين اعتصمت نقابة الفنانين قبل سنوات، احتجاجًا على تراجع دعم الدراما، انتصف جلالة الملك وآلمه أن يشكو الفنان الأردني باعتباره واجهة للفن الأردنيّ وصورة مضيئة له، فكان الانتصاف بتوجيه الحكومة لقراءة الشكوى وحلّها، والاجتماع بشأنها مع المعنيين.

وزارة الثقافة

وإذا كان البعض ينظر إلى وزارة الثقافة على أنّها وزارة غير سياديّة، فإنّ جلاله الملك في أكثر من خطاب دعا إلى ثقافة متوازنة وإنسانيّة، وإعلام ثقافي مواكب وغير مرتجف أو يشتغل على الإرهاب والتطرّف، فيشيع في المجتمع الخوف والهلع والقلق.. وبالتالي تكون وزارة الثقافة سياديّة وذات دور كبير في ترسيخ الرؤى والأفكار والتصالح مع الذات ومكتسبات الوطن والتطلع نحو غدٍ جميل يملؤه التفاؤل والأمل التصميم على النجاح.

وفي ظلّ رعاية جلالة الملك للمثقفين وإحساسه بمسؤوليّاتهم، على المثقف ألا يكفّ عن مطالبه وعليه أن يقنع الآخر بمشروعه، فما رعاية جلالته للمهرجانات والتظاهرات الفنيّة في بلدنا إلا دليل اهتمام، لنشر ثقافة الفرح، كإحساس ملكي عالٍ لضرورة أن يفرح الناس بعد الأزمة الكونيّة كورونا على سبيل المثال، فنحن أمام شفافيّة التعاطي الملكي مع الشأن الثقافي ودعمه المثقف للوصول إلى غايته.

التنسيب بالتكريم

نحتاج إذن، إلى قراءة المسؤول بواقع العمل الثقافي والإنجاز في التكريم أو التنسيب بالتكريم، فليس من المعقول أن يكرّم المبدع خارج بلده بعد عطائه وصموده على مشروعه الثقافي والإبداعي، في حين لا يكرّم في بلده، ومن هنا كانت الرؤية بحجم المحبّة التي يوليها جلالته حتى لمشجعي الرياضة في اللقاء بهم واستضافتهم والحديث معهم، فالتنسيب بالتكريم مسألة تتعدّى الحسابات الضيقه والجهويات والعرقيات نحو الموضوعيّة والتقدير من مبدأ تكافؤ الفرص والوقوف على مسافة واحدة من الجميع.

الإسهام الثقافي

لكن، بإزاء هذا كلّه، ماذا يجب على المثقف أمام هذا التكريم.. في مساحة الوعي المعطاة والحرية الواسعة؟!.. هذا يجعل الكرة في مرمى المثقف نفسه، في الإسهام الثقافي الأدبي والفني والفكري، وأن يدرك المثقف أهميه الثقافة في تحول المجتمع إلى حالة أكثر وعيًا وتطورًا، وأن لا ينسى ثوابت وطنه وأن يدرك أنه إنما هو قنبلة موقوتة إذا نزُع فتيلها تدمرت المجتمعات، لأنّ اللعب على الثقافة والفكر بنوايا خبيثة أمرٌ خطير، أمام ما يحثّ عليه جلالة الملك من فكر وازن وقيم ثقافية في المحبّة والعيش الآمن المطمئنّ لكلّ مكوّنات المجتمع.

إنّ جلالة الملك من هذا التكريم الرائع للمثقفين، يجعل المثقف والفنان على حركة دائمة في النقد والاقتراح والنصيحة، فالوطن بحاجة إلى مثقفين واعين ومبدعين في فهم الظرف والتعبير عنه، وإذا كان الشاعر قديمًا هو سيف القبيلة ولسانها، فإنّ الدولة المدنيّة اليوم بحاجة إلى مثقف واعٍ يفهم التطلعات ويدرك الواقع ويشتغل على المستقبل الناصع المضيء، ليس لوطنه فقط بل لكلّ الإنسانيّة والأوطان جمعاء.

الشخصيّة الإنسانيّة

ومن أرشيفنا الثقافي، وكتكريمات حديثة لفنانين ومبدعين، فقد زار صاحب السّمو الأمير الحسين بن عبدالله ولي العهد كلًّا من الفنان ربيع شهاب، والفنان موسى حجازين، وتمنّى لهما مزيدًا من التقدّم والعطاء، لما لهما من إسهام واضح في الدراما الأردنيّة والمسرح، فليس بمستغربٍ على سموّه أن يزور هذين الفنانين وأن يطمئن على صحتهما، ويقدّر لهما ما قاما به عبر حياتهما الفنية، دون أن يتخلى الوطن عن أبنائه المبدعين إن تعرّضوا لنكسات أو متاعب صحيّة، وفي قصّة إهداء صاحب السّمو الأمير الحسين قيثاره الخاص لشاب مبدع من الكرك ما يجعل من الموقف رائعًا جدًّا في هذه العلاقة الأخويّة النبيلة بين سموّه وفئة الشباب على وجه التحديد.

بل لقد كان الهاشميّون من أشدّ الحكّام حضورًا للفن والأدب الراقي والهادف، فقد كان جلالة المغفور له الحسين بن طلال يشارك في حضور مسرحيات ناقدة للفنان هشام يانس الذي كان يستلهم شخصيّة جلالة الملك الحسين رحمه الله في أعماله الفنيّة، في فترة سياسيّة حرجة وقراءة أوضاع الحكومات، وكذلك يهتمّ جلالة الملك عبدالله الثاني بمغزى ومقاصد الأعمال والاسكتشات المسرحيّة في قراءة أوضاع المواطن والاقتصاد ونقد الحكومات والمحيط من القضايا السياسيّة، فجلالة الملك وبحسّه الإنساني، وبالرغم من مسؤولياته الكبيرة التي يضطلع بها في الحكم، لا يمكن أن ينسى يومًا ذاته الأدبيه والإبداعيه والفنية في احترامه للموسيقى والسينما، فالهاشميّون دائمًا يحوّلون النقد إلى فرص حقيقية للنهوض بالوطن.

لذلك تبدو الحياة الثقافية لدينا رائجة دون رقابة أو تنميط، شريطة ألا نغتال باسم الفنّ شخصيات الناس ونقهرهم أو نؤذيهم.

الثناء والإعجاب

ولقد دأب جلالة الملك على التعزية بالمبدعين والمثقفين الذين يرحلون عن عالمنا بعد حياتهم الحافلة بالإنجاز، من أعلام الأدب والفكر والفنّ، ولهذا، فالعلاقة دائمًا معبّدة بالفرح والحبّ بين الملك والمثقفين، ولنا أن نختم هذه القراءة بجولة في أشعار قيلت من أعلام الشعر العرب قديمًا وحديثًا في مدح الهاشميين.

فهذا أمير الشعراء أحمد شوقي يرثى المغفور له الشريف الحسين بن علي بقصيدة رائعة ذات وقع مؤثّر، قال فيها:

لك في الأرض والسماء مآتم

قام فيها أبو الملائك هاشم

قعد الآلُ للعزاء وقامت

باكياتٍ على الحسين الفواطم

المنايا نوازل الشَّعَر الأبيض

جاراتُ كلّ أسود فاحم

ما الليالي إلا قصارٌ ولا الدنيا

سوى ما رأيتَ أحلام نائم

وهذا الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري يقرأ بين يدي جلالة المغفور له الحسين بن طلال قصيدته المشهورة وذائعة الصيت، التي قال فيها:

يا سيّدي أسعف فمي ليقولا

في عيد مولدك الجميل جميلا

أسعف فمي يطلعك حرًّا ناطفًا

عسلًا وليس مداهنًا معسولا

يا أيّها الملك الأجلّ مكانةً

بين الملوك ويا أعزّ قبيلا

يا ابن الذين تنزّلت ببيوتهم

سور الكتاب ورتّلت ترتيلا

الحاملين من الأمانة ثقلها

لا مصعرين ولا أصاغر ميلا

والطامسين من الجهالة غيهبًا

والمطلعين من النهى قنديلا

والجاعلين بيوتهم وقبورهم

للسائلين عن الكرام دليلا

وهذا فؤاد الخطيب، شاعر الثورة العربيّة الكبرى، يقول في قصيدته الرائعة «لمن المضارب":

لمن المضارب في ظلال الوادي

ريّا الرحاب تغصّ بالورّادِ

الله أكبر تلك أمّة يعربٍ

نفرت من الأغوار والأنجادِ

طوت المراحل والأسنّة شُرّعٌ

والبيض متلعةٌ من الأغماد

لبيك يا أرض الجزيرة واسمعي

ما شئتِ من شدوي ومن إنشادي

لك في دمي حقّ الوفاء وإنّه

باقٍ على الحدثان والآباد

انا لا أفرّق بين أهلك إنّهم

أهلي وأنت بلادهم وبلادي

وما يزال الشعراء والأدباء يقفون بين يدي جلالة الملك عبدالله الثاني ولسان حالهم يعبّر عن فرحتهم واحترامهم للهاشميين آل البيت الأطهار في كلّ وقتٍ وآن.