Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    17-Jul-2019

السيطرة على البحر

 الغد-جورج فريدمان* – (جيوبوليتيكال فيوتشرز) 10/7/2019

ترجمة: علاء الدين أبو زينة
 
تشكل الهيمنة على البحر أساس الأمن القومي الأميركي. وكان الأدميرال ألفريد ثاير ماهان، وهو أعظم استراتيجي في التاريخ الأميركي، قد حدد هذه الهيمنة بوصفها المصلحة الأميركية الأساسية (على الرغم من أنه كتب قبل بدء الحرب على الإرهاب وقبل تطوير الأسلحة النووية). وقال إنه لا يمكن تهديد الولايات المتحدة إلا من خلال قوة بحرية معادية يمكنها أن تغزو أراضيها وتحد من وصولها إلى المحيطات. ولذلك، كان يجب أن تكون السيطرة على البحار أساس الأمن القومي الأميركي، كما كان الحال مع بريطانيا.
مسارات بحرية لا غنى عنها
توفر السيطرة على البحر الضمان للأمن والتجارة. ومن المؤكد أن روما القديمة كانت تفهم هذا القدر، ولذلك ركزت على السيطرة على Mare Nostrum (أو “بحرنا”، في إشارة إلى البحر الأبيض المتوسط)، وهو ما أجبر القوى التي المهددة في شمال إفريقيا، مثل قرطاج، على مهاجمة روما عند تخومها وضمان الوصول إلى المحاصيل المصرية. وكانت شبكة الطرق البرية حول البحر المتوسط قوية، وإنما بطيئة، في حين كانت الطرق البحرية سريعة وإنما أخف وزناً. وكانت -على المستوى التجاري- ضرورة لا غنى عنها.
الآن، تحاول الصين وإيران تأمين ممراتهما البحرية، أو على الأقل حرمان الآخرين من الوصول إليها. وبالنسبة للصين، التي أصبحت الآن قوة تجارية هائلة، يشكل الوصول إلى بحار العالم ضرورة اقتصادية. ومكمن خوفها هو أن تحاول الولايات المتحدة حصار الصين، وبذلك خنق الاقتصاد الصيني (ينبغي تذكُّر أن سيناريو أسوأ الحالات هذا ليس الأقل احتمالاً، تاريخياً). ومن جهتها، لا تملك إيران، التي تعوقها العقوبات الأميركية، القوة السياسية أو البحرية لكسر الحصار، لكن لديها الوسائل لفرض حصار مضاد على مضيق هرمز. ولا شك في أن الكميات الهائلة من النفط التي تتدفق عبر المضيق ضرورية لكثير من حلفاء الولايات المتحدة، وسوف يؤدي النجاح في إغلاق هذا المضيق إلى نشوب أزمة اقتصادية تعقبها أزمة في الحلف. ولذلك، قد يكون فرض عقوبات على إيران باهظ التكلفة بالنسبة للولايات المتحدة. وطالما أن التجارة تتم في البحار، فإن التحكم في البحار والسيطرة عليها تبقى شؤوناً في غاية الأهمية.
تاريخياً، كانت السيطرة على البحر تعتمد على السفن السطحية التي تعمل بواسطة المجاذيف أو الأشرعة أو الفحم والنفط وما إلى ذلك. وكان المبدأ العملياتي للقوة الوطنية هو امتلاك أسطول كاف يفوق ما لدى العدو في المقام الأول، من حيث الحجم والأسلحة. وكانت النقطة المركزية في هذا المفهوم القديم للحرب البحرية هي البارجة، وهي سفينة ضخمة ومكلفة، تحمل على متنها حفنة من المدافع القادرة على إطلاق ذخائر كبيرة الحجم لمسافة بعيدة. وكانت الحرب السطحية قد وصلت إلى ذروتها مع البارجة المدرعة. وسوف تؤدي تكلفتها إلى شلّ اقتصاد بلد متوسط الحجم. وكان بوسعها أن تهزم أي سفينة تواجهها، ناهيك عن سفينة حربية أخرى. وكان السباق بين الدول في البوارج يدور حول الحجم والدروع والذخائر، وكان بوسع أي دولة تمتلك أكبر عدد منها أن تحمي مصالحها البحرية.
وهكذا، كان أساس التكتيكات البحرية في السابق هو نشر السفينة السطحية ضد السفينة السطحية. ولم يتم استبدال هذا الأساس بأي تقدم في قوة البوارج، وإنما تم استبداله بإدخال مفهوم جديد في الحرب البحرية: القوة الجوية. فبينما قاتلت البوارج بإطلاق قذائفها الكبيرة على الأعداء، كانت الطائرات تقوم بإطلاق قذائف متفجرة صغيرة تؤثر على السطح، وطوربيدات تضرب السفن الحربية تحت خط الماء. ثم جاء في أعقاب ذلك تهديد آخر: الغواصات.
بدءاً من الهجوم البريطاني على الأسطول الإيطالي في تارانتو، وهو الاتجاه الذي بلغ ذروته بالهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربور الأميركي، تمكنت السفن المصممة لحمل الطوربيدات والقنابل من تدمير البوارج في الموانئ. وبسرعة كبيرة، تحول مركز الثقل في الحرب البحرية إلى حاملة الطائرات واستُكمل بالغواصة التي تم تصميمها لقطع سلسلة الإمداد في شمال المحيط الأطلسي وغرب المحيط الهادئ.
كان هذا المزيج من حاملات الطائرات والغواصات في قلب أعمال الحرب البحرية منذ ما يقرب من قرن من الزمان، لكن الذخائر الجديدة تحدت سيادة هذا المزيج في نهاية المطاف. وعلى وجه التحديد، أدى إدخال الذخائر الموجهة بدقة إلى زيادة هشاشة حاملات الطائرات. وليست هذه الذخائر صواريخاً بالستية. وبمجرد إطلاقها، يمكن تصحيح اتجاهها، وهو ما يجعلها أكثر دقة بكثير من الصواريخ القديمة. وفي العام 1967، تمكن صاروخ “ستيكس” سوفياتي الصنع تم إطلاقه من مصر من إغراق المدمرة الإسرائيلية، إيلات. وكانت درجة الدقة مذهلة، وكذلك كان تأثير الرؤوس الحربية.
أجبر غرق “إيلات” الكثيرين على إعادة تقييم فعالية حاملة الطائرات. وكان الافتراض في السابق هو أن بإمكان الطائرات المقاتلة توفير الحماية لحاملة الطائرات. وكان على طائرات العدو أن تطير في فضاء الاشتباك في دوريات جوية لإطلاق القنابل الحديدية والطوربيدات. لكن حادث غرق “إيلات” أظهر أن هذا لم يكن ضرورياً. في الحقيقة، يستطيع صاروخ موجه عالي الدقة، والذي يتم إطلاقه من الشاطئ -أو بواسطة طائرة تتواجد خارج مجال الدفاع الجوي للمقاتلات والمدافع المضادة للصواريخ والقذائف- أن يقوم بإغراق السفن أو تحطيمها.
كانت إحدى الطرق للدفاع ضد هذا النوع من الهجوم هي توسيع مساحة الحيز القتالي. لكن ذلك عنى تجاوز مدى توافر المقاتِلات. ولذلك، تحول التركيز من إسقاط الطائرات المهاجمة إلى تدمير الصواريخ القادمة. وتم ابتكار أنظمة مثل نظام “إيجيس” Aegis الأميركي، وبكلفة هائلة، للقيام بذلك. وفي الحقيقة، لا يوجد نظام مثالي، ولذلك ظل الإبقاء على المهاجمين على مسافة بعيدة أمراً بالغ الأهمية. وكانت تكلفة ذلك إحداث زيادة كبيرة في عدد السفن المتقدمة المصممة لتوفير قدرة الدفاع الجوي والحرب المضادة للغواصات. وتكلف مجموعات القتال المصاحبة لحاملات الطائرات مليارات الدولارات التي يتم إنفاقها على التطوير والصيانة الأولية، من أجل السماح للطائرات الهجومية 30-70 بالطيران نحو الهدف وإطلاق الصواريخ الموجهة عالية الدقة على مجموعة دفاعية مماثلة.
شرعت حاملة الطائرات في أن تبدو مثل البارجة، مع تكاليف متنامية مصممة لتوفير الدفاع. وهي تشبهها بمعنى آخر أيضاً. فقد تطورت الذخائر الموجهة عالية الدقة، جزئياً في مسألة الدقة، وبشكل أكبر في السرعة وخفة الحركة. وأجبر هذا أنظمة الدفاع الجوي على أن تتطور هي أيضاً. وكانت تكلفة تطوير المقذوفات عالية الدقة أقل بكثير من تكلفة تطوير الأنظمة الدفاعية، ولذلك ارتفعت تكلفة الحفاظ على أمن المجموعة المصاحبة لحاملة الطائرات، ولم تتمكن القدرة الضاربة – الحمولة التي يمكن قذفها على العدو – من المواكبة.
إدخال الصواريخ الأسرع من الصوت
تم الوصول إلى نقطة الأزمة بالنسبة لحاملات الطائرات مع ظهور الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، والتي يمكن أن تصل إلى سرعات تزيد عن خمسة أضعاف سرعة الصوت، مع امتلاك القدرة على المناورة. وأدى المدى الذي يمكن أن تبلغه هذه المجموعة من الصواريخ إلى توسيع مساحة الغلاف الجوي القتالي بشكل كبير، وهو ما فرض إجراء تعديلات كبيرة على أنظمة الدفاع الجوي. ويدعي البعض بأن المتفجرات التي تحملها هذه الصواريخ لا يمكن أن تتمكن من إغراق حاملة طائرات. ولكن، بالنظر إلى دقتها، فإنها يمكن أن تجعل حاملة الطائرات غير صالحة للعمل خلال المعركة من خلال مهاجمة العناصر الرئيسية لسطح إقلاع الطائرات.
كان هذا هو السبب الذي جعل الروس والصينيين يهللون ويُعلون من شأن أنظمتهم الأسرع من الصوت. وهي تشكل في الحقيقة تحدياً للسيطرة الأميركية على البحر، طالما أن أساس النظام هو السفن الحربية السطحية –بل إن الغواصات نفسها تكون أكثر عرضة للخطر عندما تصبح المحيطات أكثر شفافية لمتحسسات ومستشعرات الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
مع زيادة مدى الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت وانخفاض تكلفتها، أصبحت المخاطر على السفن الحربية السطحية في ازدياد. ومع أن فعالية الدفاعات تبقى ممكنة، فإن نموذج صاروخ-ضد- صاروخ يصبح منطوياً على المزيد من المخاطر باطراد. والحل الأقل خطورة هو جعل الصواريخ المعادية غير صالحة للعمل. ويمكن القيام بذلك عن طريق استهداف نظام التوجيه، والذي يتطلب استهداف الموقع العام للعدو، ونظام التوجيه الطرفي على متن المقذوف. وتشكل المعلومات الاستخبارية عن الموقع العام للسفينة المعادية نقطة الفشل.
لتحديد موقع أسطول، من الضروري أن يكون لديك بعض الاستطلاع. ويمكن أن يتم ذلك باستخدام الطائرات أو المركبات الجوية غير المأهولة أو الأنظمة الفضائية. ويمكن أن تتعثر الطائرات فتدخل منطقة القتل الخاصة بحاملة الطائرات المعادية. ويمكن إسقاط الطائرات من دون طيار -أو ما هو أسوأ: تلف إلكترونياتها وإشاراتها المخادعة وما إلى ذلك. ومع أنه لا يوجد شيء بلا خطر، يجب أن تكون المنصة الإستراتيجية الرئيسية لمراقبة المحيط موجودة في الفضاء. فالفضاء وحده يتيح اتساع الرؤية لتوفير إرشادات مفيدة للصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، والتي يجب أن تتمتع بمدى واسع حتى تكون أكثر فاعلية.
إذا أصبح مفتاح التحكم في البحر هو الصاروخ الذي تفوق سرعته سرعة الصوت، فإنه يكون مثل الطائرة على حاملة الطائرات أو المدافع في البارجة. إنه الذخيرة القابلة لتسليم الحزم المتفجرة عند العدو. ولكن، مثلما يجب أن تكون لدى الطائرة على متن حاملة الطائرات أو المدافع الحربية معلومات الاستهداف، فكذلك يجب أن تكون للصاروخ فائق السرعة، أينما كان متمركزاً. ويجب أن يكون المصدر الرئيسي لمعلومات الاستهداف الاستراتيجي في الفضاء. وهذا يعني أن السيطرة على البحر ستعتمد على نظام فضائي يتحكم في الذخائر. وقد شرعت حاملات الطائرات في فصل منصة الاستهداف عن المقذوف الذي ترسله. ويجعل الصاروخ الأسرع من الصوت هذا الأمر راديكالياً عن طريق أخذ منصة الاستهداف بعيداً عن البحر وإلى الفضاء، وأخذ المقذوف الذي سيتم تسليمه بعيداً عن السفينة وإلى اليابسة.
مع ازدياد المدى والنطاق، يصبح نشر الصواريخ الأسرع من الصوت في البحر -أو حتى على متن الغواصات- أمراً خطيراً. فالبحر يجعل من الصعب للغاية إخفاء منصة الإطلاق. واليابسة مليئة بالطيات والثقوب والغطاء النباتي، والتي تكملها عناصر الإرباك والتمويه من صنع الإنسان. وسوف يتطلب تحديد هذه المنصات أيضاً توفر الاستطلاع الفضائي وتوفر المدى الممكن للضرب. ولذلك، يجب أن تبدأ الحرب الآن بإصابة العدو بالعمى، وهذا يعني تدمير أقمار الاستطلاع ثم ملء الفجوة باستخدام الطائرات من دون طيار. وبذلك، يتم بدء الحرب بالهجمات الفضائية، ويصبح التحكم في الفضاء أساس السيطرة على البحار. ومع ذلك، مع وجود الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت على اليابسة، أصبح من الواجب أن تُشن الهجمات على منصات الإطلاق على اليابسة، والتي يجب أن تصبح، بسبب قدرة الأقمار الصناعية على تحديد مكانها، متحركة وقادرة على المناورة والاختفاء من أجل البقاء.
الآن، تصبح السيطرة على الفضاء هي أساس السيطرة على البحار. ويستطيع أولئك الذين يستطيعون رؤية صواريخ العدو أن يدمروه، وأن يفعلوا ذلك بسرعة بالصواريخ بعيدة المدى والأسرع من الصوت. وبذلك، يكون الحرمان من إمكانية استخدام الفضاء ضرورياً لحماية السفن التجارية من هجوم العدو. ونحن لسنا بعيدين عن هذا الواقع. فالأقمار الصناعية والطائرات من دون طيار موجودة مسبقاً، كما تظهر أجيال جديدة من الصواريخ الأسرع من الصوت باستمرار. وفي السابق، تحولت السيطرة على البحر من سطح البحر إلى الجو، وهي تتحول الآن من الجو إلى الفضاء. ولا يغير هذا من جوهر الجغرافيا السياسية، لكنه يغيّر حقاً طبيعة الحرب.
 
*استشاري واستراتيجي جيوسياسي معروف عالمياً متخصص في الشؤون الدولية، ومؤسس ورئيس موقع “جيوبوليتيكال فيوتشرز”.
*نشر هذا الموضوع تحت عنوان: Command of the Sea