Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    29-Jun-2020

في ذكرى رحيله الثلاثين: عبد الله راجع شاهِدا ومَشْهودا

 القدس العربي-عبداللطيف الوراري

يصدق على شاعرٍ مؤثّر، لكنّه عَبَر الزمن بخفّة، مثل عبد الله راجع ما نفهمه من العبارة التي تقول، إنّ شعراء العمر القصير يموتون وهم في ذروة العطاء الجميل، كأنّ لا عزاء لهم إلا الرحيل.
رحل عبد الله راجع (1948- 1990) مبكّرًا، بعد أن اخترمه المرض، ونخرت حصص «الشيمو» عظامه، وانتهبت زيت قنديله الشخصي، فسقط من يده يوم 28 يوليو/تموز 1990. وكان يومًا في عالم مُتحوّل، ساربًا مثل نهر في ظهيرة قائظة. وكُنّا نحن فتيةً جاءوا إلى الشعر مأخوذين بأعاجيبه التي يُغْدقها علينا من الشرق، ولم نكن سمعنا بعدُ بـاسم عبد الله راجع، ولا بأحدٍ من معاصريه من شعراء المغرب. وكان هذا وحده يمثّل شعورًا باغتراب الهُوية سيكبر معنا، ويلقي ظلاله المرتجفة على صحائفنا الأولى، متوزّعين بين بوح كسير وحُبْسةٍ لم نخترها في الأصل، بل إنّنا عندما أتينا إلى بيت الشعر المغربي، كانت رائحة الموت قد خيّمت عليه، وأشاعت فيه صلاة رهيبةً، فقد تلاحقت مَيْتاتُ أبرز شعرائه؛ مثل عبد الله راجع (1990)، وأحمد بركات (1994) وأحمد المجاطي وأحمد الجوماري (1995).
 
شاعر أمة ضائعة
 
بيد أنّ عبد الله راجع إلى ساعة رحيله المبكّر، كان يجمع الشعر العربي المعاصر من طرفيه؛ من شعرٍ تفعيليٍّ يتكئ على الإيقاع في بناء متخيّله الشعري، بقدر ما يستثمر صيغ الرمز لتشييد أسطورة أنا الشاعر المحدثة، في مواجهة عوامل الموت والضياع واليأس، وشعرٍ سردي بدأت تخترقه حساسية جديدة قوامها التخفُّف من الغنائية لصالح التخييل (Fiction) الذي يجد متنفّسه ومحفله الأثير في القصائد المطوّلة المُرقَّمة والموزّعة بعناوين فرعية؛ حيث انفتحت ذات الكتابة على تقنيّات الحوار والمونولوغ والتناصّ، ووطّنت عبرها رؤية ساخرة ولوذعية وغير راضية، بما انتهت إليه هذه الذات في زمنٍ لا شعريٍّ وتأذّت من خساراته المتلاحقة – شخصيًّا وجماعيًّا.
لقد كان منجز الشاعر، في حقيقة الأمر، يختزل صورة القصيدة المغربية والجهد الإبداعي الذي كان تبذله حتى تضاهي نظيرتها في الشرق، وهو ينتقل بها من طور استوفى شرائطها السوسيوثقافية والجمالية وتَمثّل – إلى حد الاكتمال- تحقُّقاتها النصية، إلى طور جديد وواعد منذ مطالع التسعينيات. ولهذا، في نظري الشخصي، أكاد أسمع صوت عبد الله راجع يتردّد عند شعراء رفقته من جيل السبعينيات، وعند مَنْ جاءوا بعدهم، مِمّنْ تأثر بتجربته وبأصوات الكورس التي أودعها في قصيدته، أو تماهى مع جرحه الوجودي، قبل أن يستقلّ معظم هؤلاء بتجاربهم الخاصة.
بعبارة أوجز وأدلّ، مات الشاعر ولكن بقي نصّه حيًّا يمارس تأثيره الجمالي في نصوص غيره إلى اليوم، كأنّه بهذا الوجود البرزخيّ يستعيض عن عمره القصير بحياة في القصيدة تصنعها الصور والمجازات؛ وهذا لعمري أقصى ما يطمح إليه شاعرٌ في أُمّة ضائعة.
 
أطوار التجربة الشعرية
 
إذا جاز لنا أن نؤطّر تجربة عبد الله راجع الشعرية، فيمكن القول إن كلّ ديوان من الدواوين الثلاثة التي صدرت في حياته، هو بمثابة مقترح جماليّ أملته الظروف الذاتية والموضوعية، فيما الديوانان اللّذان صدرا بعد رحيله، بأكثر من عشرين سنة، إنّما هما امتدادٌ طبيعيٌّ وأنطولوجيٌّ لمغامرة الديوان الثالث المعنون بـ»أيادٍ كانت تسرق القمر» مع ما فيه من نضج فنّي ورؤية شعرية متينة، تسندها مقروئية الشاعر وانفتاحه على تراث الشعر وأصوات العصر وثقافاته المتعددة.
وهكذا، يمكن القول إنّ هذه التجربة التي امتدّت لعقدين من الزمن، ورافعت رمزيًّا ضد الواقع بهزائمه وخساراته الفادحة، قد مرّت بالمراحل التالية:
أ. مرحلة «الهجرة إلى المدن السفلى» (1976)، حيث حضور الميسم التراثي والاحتفاء بالإيقاع وباللغة، من خلال إطلاق طاقاتها التعبيرية على نحو ما يشي باستحقاقه الشعر وخياره الجمالي.
ب. المرحلة الكاليغرافية كما تجلّت في «سلامًا وليشربوا البحار (1982)، بموازاة مع بيانه الذي عنونه بـ»الجنون المعقلن» (الثقافة الجديدة، العدد 19، 1981)، واعتبره ثورةً ضدّ المألوف القمعي المُدجِّن للحواس، واحتفاءً بالكتابة في مادّيتها وتشكيلها الخطّي واشتغالها الفضائيّ، من حيث هي عرس للعين والأذن والباطن.
ج. المرحلة السيرذاتية، التي تمزج بين الشعر والسيرة الذاتية، وقد دشّنها الشاعر مع «أيادٍ كانت تسرق القمر (1988)، وبرزت أكثر في ديوانيها اللاحقين «وردة المتاريس» و»أصواتٌ بلون الخطى»، المنشورين ضمن الأعمال الكاملة (مطبعة دار المناهل، الرباط 2013). وفي هذا السياق، اتّخذ الشاعر من «صالح» قناعًا له؛ صالح الشكدالي، الذي رآه في الفقيه بن صالح وهاجر معه – نصّيًّا- إلى الدار البيضاء، وهو رغم طيبته وكرمه وعزّة نفسه، يكابد الواقع المرّ ويواجه نفسه في وقوفه أمام المرآة، ويظلّ يبحث هائمًا عن الحقيقة، معتقدًا بأنّه يستطيع «إحداث تغيير داخل هذا العالم». وقد افتتح الشاعر ديوانه «وردة المتاريس» بقوله: «وقيل مذ حلّ الشكدالي بالأرض فلم يجد له ظلًّا، صوَّب نحو التيه حاجبيه، وضرب في الفيافي حتى أدركه النَّصَب». وهذه المرحلة، في نظري، هي الأخصب والأهمّ حالًا ومآلا.
 
الشهادة والجنون
 
كان عبد الله راجع من الشعراء المغاربة القلائل الذين زاوجوا ـ بحقّ- بين الإبداع الشعري والتنظير النقدي، إذ ظلّ منشغلًا بتطوير ممارسته الشعرية الحديثة، كما كان همُّه التنظيري والتزامه المعرفي الذي اكتسبه من ثقافته الأكاديمية الواسعة، يتيح له أن يقدم إبدالًا نقديًّا لقراءة المنجز الشعري المغربي، لاسيما المنجز الشعري، الذي أبدعه أبناء جيله من شعراء السبعينيات، وأن يفكر داخل ممارسته في ما يخصُّ تجربة الكتابة عنده بوجه خاصّ، كما في بيانه «الجنون المعقلن».
 
كان عبد الله راجع من الشعراء المغاربة القلائل الذين زاوجوا ـ بحقّ- بين الإبداع الشعري والتنظير النقدي، إذ ظلّ منشغلًا بتطوير ممارسته الشعرية الحديثة، كما كان همُّه التنظيري والتزامه المعرفي الذي اكتسبه من ثقافته الأكاديمية الواسعة.
 
في كتابه «القصيدة المغربية المعاصرة: بنية الشهادة والاستشهاد» (1987- 1988)، يدرس عبد الله راجع النتاج الشعري لجيل السبعينيات (محمد بنيس، وأحمد بلبداوي، ومحمد بنطلحة، وعلال الحجام، ومحمد الأشعري، وأحمد بنميمون، وعبد الله راجع..)، الذي انعكست عليه أصداء الصراع الأيديولوجي والسياسي، وكان نِتاجًا متفرّقًا ومخترقًا بأحكام قيمية مسبقة، ورؤى انطباعية متعسفة: «رغبتي في الواقع إنما تعود إلى حضور متن شعري لم تواكبه دراسة نقدية تحليلية تشذب منه وتغذيه. فدراسة الصديق محمد بنيس ركزت على أغلب الأسماء التي كان لها حضورها القوي في الساحة الشعرية، خلال مرحلة الستينيات وبداية السبعينيات، وكان لديّ إحساس قوي، بأن الأسماء التي ظهرت بعد هذه الفترة يملك الكثير منها نكهة متميزة ومذاقا مغايرا، لما كان سائدا في الستينيات، فكان لزاما عليّ ألا أغض الطرف عن هذا الحضور القوي والمتميز لمتن شعري ينبغي فحصه والتمعن فيه».
لهذا، سعى إلى أن يقدم قراءة مختلفة تحتكم إلى منهج نقدي حديث، يتمثل في البنيوية التكوينية، وهو يعبر به من مرحلة الفهم إلى التفسير، وإلى أدوات مغايرة تسعفه على الوصف والتحليل، يستوحي مفاهيمها الاصطلاحية من البحث الأسلوبي والبلاغي الجديد، ولاسيما عند دراسته لبنية اللغة الشعرية (المعيار والانزياح، التضاد، السياق، التناص)، أو البنية الإيقاعية (الوقفة، القافية، التشكيل الإيقاعي، بحر الخبب)، أو البناء المعماري- الدرامي البسيط والمعقد- التصاعدي الذي ربطه بالمعاناة النفسية للشاعر من واقع مضطرب، ثم أثناء دراسته آليات المتخيل الشعري (الصورة، الرمز، الأسطورة) لاعتبار قدرة هذه الآليات على نقل الأبعاد النفسية، وما تحقّقه من انسجام بين الوظيفتين الدلالية والنفسية. وقد قصر بحثه أساسًا في إبراز التشكلات المحلية لأسطورة بروميثيوس، إذ يرى أن الروح البروميثية تسري في المتن الشعري المدروس، من خلال تركيزه على النماذج التاريخية التي تشدّد على فكرة الاستشهاد من أجل الآخر. فالشاعر المغربي ـ بحسب ما يذهب إليه- مصاب بـ»هوس استشهادي» يدفعه إلى البحث عن أيّ نموذج تاريخي أو معاصر، يجسد فكرة الاستشهاد، ولا يهمّه بعد ذلك أن يكون النموذج هو بروميثيوس نفسه.
وبالتالي، فما يتحكم في المتن الشعري المغربي هو بنية الشهادة والاستشهاد؛ فالشهادة هي إثباتٌ لواقع نفسي وتاريخي معين، فيما الاستشهاد هو احتراق الشاعر ذي الروح البروميثية من أجل بحث الممكن والقدرة على الحلم به، ويتحوّل هذا البحث مما يعانيه إلى إدانة صارخة وفاجعة مدوّية في واد لا قرار له. إنّها – على حدّ تعبير الناقد بنعيسى بوحمالة- «شهادة جيل بأتمه على اقترافات واقع مدمر، والاستشهاد البروميثيوسي، ذو الرمزية القربانية الساطعة، لشعرائه الذين لم يخشوا مغالبة قوى أولمب أرضي طاغ، لكي يحوز الإنسان نصيبه المسلوب من المعرفة والكرامة والمواطنة الحقة».
قبل شهور معدودات من رحيله نشرت جريد «القبس» الكويتية، بتاريخ 22 يناير/كانون الثاني 1990، حوارًا مع الشاعر أجراه جهاد فاضل (أعاد نشره ضمن كتابه الحواريّ «أسئلة الشعر»)، وهو ـ بالنسبة إليّ- بمثابة البيان الشعري الأخير حيث بسط فيه آراءه وتصوّراته المعرفية، بحكم تكوينه الأكاديمي الرفيع، حول مستقبل الشعر العربي، وخصوصية القصيدة المغربية، ومفاهيم الحداثة والتراث والكتابة وقصيدة النثر، عدا عن أفكاره في الشعر، الذي كان يكتبه وانخرط فيه بمثابرة وبحث نادرين؛ وهذه كلُّها آراء وتصوّرات وأفكار ومواقف متقدّمة كثيرًا على ما يروج في لحظتنا الراهنة، على نحو ما يكشف راهنيّتها وديمومة سيرورتها في الوعي الشعري الحداثي. وهذه بعض الشذرات التي التقطْتُها من الحوار:
*الشعر هو العالم كما ينبغي أن يكون لا كما هو كائن.
*كلّ شيء مباح لأنْ يمارس الشاعر داخله لعبًا طفوليًّا بريئًا، وهو ذلك اللعب الذي يحدث عندما يمسك الشاعر العالم فيغيّره، أو ينسفه ثُمّ يعيد تركيبه، وفق هيئة وصورة جميلة.
* الحداثة هي اختراق وتجاوز، صحيح. هي إعادة تركيب للعالم.
*لا أعتقد أن هناك شاعرًا يبدأ تجربة الكتابة من فراغ.
*لماذا أكتب؟ لا أخفي عنك أنني في كثير من الأحيان لا أجيب إلا إجابة واحدة: «لأنّ قدري هو أن أكتب».
*لمن أكتب؟ لقارئ محتمل، لقارئ مفترض. وقد أكتب لقارئ موجود الآن. وقد لا أكتب إلا لنفسي. وقد لا أكتب إلا لأن العالم الذي أعيشه عالمٌ يحتاج إلى أن أحدث فيه شرخًا لكي يلبّي مطلبي.
*التغيير الذي يحدثه الشعر يحدثه على المستوى البعيد، يؤهل للتغيير ولكنه لا يغيّر على المدى البعيد يشتغل الشعر استراتيجيّاً.
*الجيل الذي سبقني كان جيل عذاب فعلًا.
*يحتاج الأمر إلى وقت، إلى سنوات، يحتاج لا إلى شاعر واحد، يحتاج إلى حساسية شعرية.
(توقيع)
مِنْ أمْـسِ
مِثْلَ شارِدٍ
أسألُ عنه.
أسْأَلُ البِلادَ في يَوْمَ الحَصاد،
والحَصادَ مِنْ دَمِ الطّاعون.
ثُمَّ أَسْألُ الرّيح التي لَمْ تَرَ،
والبابَ الذي تصفقُهُ وراءها
كَجُملةٍ تَعْوي من الإيقاعْ
لمّا وُلِدْتُ كُنْتُ قَـدْ سألْتُ
بابَ البَحْرِ
هَبّتْ نأْمَةٌ
مِنْ ثَبَجِ الأمْواجِ
إِذْ تَهَمِسُ لي:
ذلِكَ عَبدُ اللهِ
رَجْعُ الوَرْدِ
شاهِدًا ومشهودًا
وَهَذِهِ أياديهِ
تُضيءُ هالةً
مِنْ قَـاعْ !
 
٭ شاعر مغربي